المرأة السورية بين حكم البعث والثورة.. واقع لم يتغير
يوم المرأة ملامسة ناعمة للهيمنة الذكوريّة
(1)
*أنجيل الشاعر
لايزال العالم مصرّاً على الاحتفاء بيوم المرأة العالمي، في الوقت الذي لم يعد الرهان عليه مجدياً، لتحسين مكانة المرأة في المجتمع وتمكينها من التمتّع بحقوقها المدنية: الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية أسوة بالرجل، خصوصاً بعد صعود قوى اليمين المتطرّف، في المجتمعات الرأسمالية في أوربا وأمريكا، التي بدأت فيها حركات التحرّر النسوية لمناهضة التمييز والعنف ضدّ المرأة منذ قرن ونيّف من الزمن، وحقّقت مكاسب مهمّة على الصعيد الحقوقي، وفي مجالات المعرفة والعلم والعمل والمشاركة النشطة في التنمية والتقدّم.
فمنذ تشكُّل المجتمعات البشرية، وقبل نشوء المجتمع المدنيّ والدولة الحديثة والمؤسّسات الحامية للإنسان والملكيّات الخاصة والعامة، كان الناس يعتمدون على نوع من الحماية الذاتية التي تحتاج إلى القوة البدنية "البيولوجية" فساد الرجل حامياً لنفسه وأسرته، ممّا أضعف من قوة المرأة بعد أن كانت هي السائدة والحاكمة في المجتمعات الأموميّة. وبعد ظهور الملكية الخاصة بات تقسيم العمل قائماً على التمييز الجنسيّ ولا يزال حتى وقتنا الراهن، بل أخذ يمتدّ إلى التمييز العرقي والإثني والطبقي والديني والطائفي، وما زالت مجتمعات، كمجتمعاتنا ذكوريّة خالصة، وأخرى تغلب عليها السمة الذكوريّة، بسبب هيمنة الرجل وسلطته المستمدّة من السياسة والقانون اللذين يكفلان له الحقّ في فرض سلطته على المرأة.
في ظلّ استمرار السلطة الفظّة والعنف العاري، اللذين يمارَسان على النساء كافة، ولا سيّما في البلدان التي تشهد حروباً ونزاعات داخلية، كسوريا وغيرها، وتُترَك فيها النساء فرائس للهمجيّة والتوحّش، يبدو "اليوم المرأة العالمي" للمرأة تكريساً آخر للهيمنة الذكوريّة، أو ملامسة ناعمة لعواطف المرأة وتلاعب بعواطفها لإرضائها من قِبل الرجل، وإسكاتها عن المطالبة بحقوقها المدنية والسياسية، وهذا ما أسماه الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي، "بيار بورديو" "العنف الرمزيّ"، في كتابه "الهيمنة الذكوريّة"، وقال فيه: ".. ما أسمّيه العنف الرمزيّ، هو ذلك العنف الناعم واللامحسوس واللامرئي من ضحاياه أنفسهنّ (وأنفسهم)، والذي يمارس في جوهره بالطرق الرمزية الصرفة للاتّصال والمعرفة، أو أكثر تحديداً، بالجهل والاعتراف أو بالعاطفة حدّاً أدنى". فالنظام الاجتماعي الذكوريّ يريد تأكيد الهيمنة وفرضها بصورة مختلفة تتسلّل إلى الأجساد وتتغلغل فيها، ومنها إلى المتخيّيل الجمعيّ، وتجعل منها نتيجة طبيعية لحالة معينة، وأنها تمتلك من الشرعية ما يكفي لفرض سلطة القوي وزيادة استضعاف الضعيف، ولا يزال انتهاك حقوق الإنسان عامة وحقوق المرأة خاصة أمراً مألوفاً في الوقت التي تعالت فيه صيحات التحرّر والحركات النسوية الحديثة، والتي تعتمد على الفلسفة النقدية النسوية لما بعد الحداثة ونشر الثقافات العابرة للحدود المناهضة للتمييز العرقي أو الديني والتي تساوي بين الرجل والمرأة في كافة مجالات الحياة، سياسياً واقتصادياً واجتماعيا،ً وقد كتبت "سوزان مولر أوكين"، في كتاب نقض مركزية المركز: "إن الاعتراف بحقوق المرأة بوصفها من حقوق الإنسان، يعني النظر إلى مؤسّسات الأسرة والدين والثقافة أو التقاليد في أضواء مستجدّة ... حتى الإعلانات التي تستهدف صراحة حقوق المرأة مثل إعلان عام 1967 وميثاق القضاء على كافة أشكال التمييز ضدّ المرأة عام 1979، قد وقّعتها بل صدّقت عليها حكومات لدول نجد قوانينها أو الممارسات المقبولة فيها أبعد ما يكون عن تنفيذ أحكام هذه المواثيق".
وممّا لا شكّ فيه بأن تنمية المجتمعات وازدهارها لا تتحقّق إلاّ بمشاركة المرأة في كافة مجالات الحياة، لأن "الإنسان ليس مجرّد طاقات وقدرات منتجة، يتعيَّن تأهيلها من أجل التنمية الاقتصادية، بل هو الأساس على مستوى المُدخلات والعمليات والمُخرجات والغايات، ولا توجد تنمية ممكنة إلّا بمقدار توسّع خيارات الإنسان وامتلاك قدراته الذاتية"، حسب مصطفى حجازي. لكنّ المرأة في بعض المجتمعات عموماً ومجتمعات العالم الثالث خصوصاً تعاني أكثر ممّا أشار إليه الدكتور مصطفى حجازي، من طروحات وأبحاث ومعالجات، لما تسبّبه البيئة الاجتماعية من تخلّف وتعلّق بالموروث من الأفكار والتصوّرات والعادات البالية، وما تكرّسه البيئة الدينية من محرّمات، لذلك أنتجت هاتان البيئتان امرأة تؤول بها الحال إلى القهر وتعريض نفسها للاستغلال، خاصة في محاولتها الخروج من بيئتها الضيّقة مهما كانت الوسيلة المتّبعة لتحقيق ذلك، في مجتمع يتّجه باتّجاه واحد، "فكيف يمكن لنظام الكون باتّجاهه الأحادي والممنوع، وما يمثّله من التزامات وعقوبات، أن يكون محترَماً رغم ذلك؟ ثم كيف تراه يتأبّد وهو النظام ذاته الذي يحمل من العنف والهيمنة وإهدار حقّ الغير ما يحمله؟" هذا النظام الاجتماعي – السياسي يرى أن كل ما يفعله الرجل من هيمنة وتسلّط هو حالة طبيعية، بسبب الفارق "البيولوجي" بين الرجل والمرأة وتقسيم العمل،. المرأة ، في هذا النظام منجبة ومربّية ومسؤولة عن الأعمال المنزلية، والرجل مسؤول عن تلبية حاجات الأسرة. حتى في الفعل الجنسي يكون الرجل هو المهيمن وبيده زمام المبادرة، وقد يعتبرها الرجل في أغلب المجتمعات غير متناظرة، ولا تقوم على التشارك الحرّ، بل نوع من فتح أو غزو، ويكون لديه فضاءٌ رحب للتنبجّح بمغامراته في محافل الرجال، لأن الممارسة الجنسيّة، في عرفه، فعل من أفعال الهيمنة والاستيلاء والتملّك. تحضرني هنا قصيدة الشاعر "نزار قباني" التي تمثّل هذه النزعة الغزوية وهي امتداد لمواقف السلاطين، الذين يفتحون المدن ويفوزون بالغنائم والسبايا:
لن يقف شيء أمام طموحاتي الشعرية
وشبقي اللغويّ
لن يقف شيء أمام نزيف كلماتي
وصراخ شهوتي ..
سأهبط على رمال جسدك بمظلّاتي الملوّنة
وأجرّد حرسك من سلاحه ...
وأستولي على كنوز روما ...
وأفتح أبواب القسطنطينية
.........
نزار يشبّه الرجل بـ "محمد الفاتح" و "أتيلا" ويريد أن يكون غازياً ليسيطر على مدينة جديدة يضيفها إلى مملكته الواسعة، فالفرق بين الرجل والمرأة في الحالة الجنسية، يكمن في التصوّرات الجنسية التي ترتبط بالتأويلات والإشارات المبهمة التي ينتج عنها الفعل الجنسي، والاستيهامات التي يخلّفها. أمّا المرأة المهيّأة اجتماعياً لهذه الوظيفة فتعتبرها تجربة حميميّة محمّلةً بالمشاعر العاطفية الشديدة وقد لا تتضمّن الفعل الجنسيّ بالضرورة.
يشهد العالم اليوم تغيّرات كبيرة تشير إلى اضطراب في الوعي والثقافة والفكر، مع صعود قوى اليمين المحافظ واليمين المتطرّف، القائم على التمييز الجنسي والعنصري. هذا الصعود الانتكاسي يولّد حالات شعبويّة تهدّد استقرار المجتمعات. كما تعمل أوربا على تنقية الهوية الأوربية من غير الأوربيين، وفي أمريكا يعتبر فوز "دونالد ترامب" على منافسته "هيلاري كلنتون" لحظة مفصليّة تحمل إمكانات النكوص عن الديمقراطية والاستهتار بحقوق الإنسان وكرامة المرأة خاصة. هذا يعني أن القوى السياسية التي تريد الحفاظ على الأوضاع السابقة والتقاليد الموروثة كما هي، والتي ترى أن البشر ليسوا متساوين وأن التفاوت الطبقي والاقتصادي والاجتماعي أمرٌ حتميّ، بل سنّة كونية أجازتها الأديان، مضافاً إليها الوطنية والقومية المتشدّدة وكراهية الآخر المختلف، والاعتقاد الراسخ بالاصطفاء، الأمر الذي ينعكس سلباً على شعوب العالم بوجه عام وشعوب العالم العربي بشكل خاص، بسبب الأوضاع المتوتّرة التي سبّبتها الحرب الدائرة في سوريا وغيرها، وجعلت من الإنسان السوري إنساناً مهدوراً، وخصوصاً المرأة التي فقدت ما فقدته من أنوثة وتحوّلت إلى امرأة مسترجلة تعيل أسرتها في غياب الرجل المفقود وأصبحت تشتهي العودة إلى عالم أنوثتها الاجتماعية، في هذا العالم المأزوم.
كلّ عام والأمم المتّحدة بخير.
.
.
***
المرأة السوريّة .. من إقصاء "البعث" إلى الثورة السوريّة
(2)
*لينا الشوفي
عمل حزب البعث منذ استلامه للحكم في سوريا رغم ادّعائه إعطاء المرأة السوريّة حقوقها ووقوفه إلى جانبها على تأطير نشاطها ضمن المجتمع عبر ما يسمّى "الاتّحاد النسائيّ العامّ" الذي عزّز دور النساء الحزبيّات و أوكل إليهنّ بعض المناصب في الدولة من باب التمثيل الشكليّ، وأحياناً لما تلعبه الواسطة والفساد في تنصيب (قياديّين) في مناصب غير جديرين بها؛ وقام بإقصاء غيرهنّ من ذوات الكفاءات العالية، القادرات على قيادة مراكز جنباً إلى جنب مع أصحاب النفوذ في كل مفاصل المجتمع السوريّ . وكل هذا يخالف ما جاء في المادّة 23 من دستور الجمهوريّة العربيّة السوريّة المعدّل في عام 2012 التي تشير إلى: "توفّر الدولة للمرأة جميع الفرص التي تتيح لها المساهمة الفعّالة والكاملة في الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، وتعمل على إزالة القيود التي تمنع تطوّرها ومشاركتها في بناء المجتمع."
المرأة السوريّة في "انفتاح النظام"
مع (وصول) بشار الأسد للحكم، قامت أسماء الأسد برعاية بعض النشاطات التي تخصّ المرأة و الطفل. ثم أسّست بدعم من الاتّحاد الأوروبيّ ( الأمانة السوريّة للتنمية ) سنة 2007 و هي مؤسّسة غير حكوميّة وليست ربحيّة؛ تهدف إلى تمكين أفراد المجتمع على اختلاف مشاربهم؛ و قد أولت المرأة السوريّة دعماً خاصّاً وعملت على رفع إمكانيّاتها كما يدّعي الإعلام السوريّ.
طبعاً تلك المشاريع والمؤسّسات التي قادتها أسماء الأسد بداعي تمكين المرأة السوريّة وجعلها فاعلة في المجتمع السوريّ، لم تكن إلا تقليداً أو بالأحرى إشارة إلى وجود منظّمات مجتمع مدنيّ في سورية أسوةً بباقي البلدان المتطوّرة التي تعطي المرأة حقوقها وتخوّلها بقيادة مراكز مهمّة في المجتمع. ذلك لأن ما قامت به هذه الجمعيّات أو المبادرات، اقتصر على دعم شريحة معيّنة من النساء السوريّات ضمن تشجيعهنّ على القيام بأعمال يدويّة وافتتاح ورشات خياطة لتدريب الفتيات إلى غير ذلك من الأعمال التي ليس لها صلة بالدور الحقيقيّ للمرأة المتمثّل بوجودها السياسيّ والاجتماعيّ وكذلك في اتّخاذ القرارات.
من باب الانفتاح على العالميّة كما تروّج "السيّدة الأولى"، قامت في عام 2002 باستضافة مؤتمر ــ سيّدات الأعمال ــ الذي يُعدّ أكبر تجمّع لسيّدات الأعمال في الشرق الأوسط..الذي لم يتمخّض منه بالنسبة للنساء السوريّات سوى جمع الصور التذكاريّة وحفلات العشاء وتبادل أرقام الهواتف والهدايا..!
حتى أن مؤتمر "المرأة السوريّة التركيّة" الذي عقدَ في قصر المؤتمرات بدمشق عام 2008 بحضور السيدة "أمينة أردوغان" زوجة الرئيس التركيّ رجب طيب أردوغان، تحت عنوان "نحو تطوير الدور الاجتماعيّ للمرأة"، لم يتعدَّ الشعارات بالنسبة للجانب السوريّ، وأجندات العمل المكتوبة ورقياً التي لاقت مصيرها في الخزائن مثل سواها من أجندات عمل لم يطبّق منها إلا ما ندر وضمن مناطق معيّنة على حساب مناطق أخرى. إن هذه الفقاعات الإعلامية والاجتماعات والمؤتمرات التي شاركت بها السيّدة الأولى منذ 2001 لتمكين المرأة السوريّة حتى الآن، لم نرَ منها شيئاً على أرض الواقع ولم يتغيّر وضع المرأة السوريّة حتى بنسبة 10 % ، بل على العكس، ازدادت وتيرة التهميش الاجتماعي والاقتصادي، خاصّةً في الأرياف السوريّة التي تشكو من إهمال متقصّد وتهميش ممنهج منذ ما يسمّى (الحركة التصحيحية ) 1970 حتى قيام الثورة السوريّة في آذار / مارس 2011 التي جعلت من المرأة السوريّة المضطهدة ثائرة على قوانين النظام المستبدّ والمجتمع (الذكوريّ) وغيرهم ممّن ينكر وجودها وحقوقها في المجتمع السوريّ.
بين العقيدة والسلطة والحقوق
في سنة 2005 شهدت دمشق ظهور حركة "القبيسيّات" الدينيّة إلى العلن، و هي حركة دينيّة أساسها عقيدة "السنّة الأشاعرة"؛ وجاءت تسميتها نسبةً إلى شيخة الحركة (منيرة القبيسيّ (1933 ، و كانت قد بدأت ممارسة نشاطاتها بعلم النظام و تغاضيه عنها، وازداد نشاطها في الثمانينات بشكل واضح بدعم من مفتي الجمهورية " أحمد كفتارو".. ومع انطلاق الثورة السوريّة، أبدت دعمها للنظام و تبنّت موقف الإسلام من ضرورة إطاعة الحاكم و أولياء الأمر. هذا ما جعل النظام السوريّ يتّجه بقوله للإسلام المعتدل الذي تمثّله المرأة السوريّة!، وكلّنا يعرف أن النظام السوريّ على استعداد بالاعتراف بأيّ طرف، حتى الشيطان إذا كان من مناصريه. فكانت هذه الشريحة من النساء التي وقفت ضدّ الثورة السوريّة، تلقى اهتماماً من النظام ومؤسّساته.. إضافةً إلى "أمّهات شهداء الجيش السوريّ" اللائي تلقّينَ بعض "التكريم" والإطلالة الإعلاميّة.
اشترك حكم الأب و الابن بالعمل على تهميش دور المرأة السوريّة في مناحي الحياة السياسية والاجتماعية، و ساهما بإخضاعها لحكم السلطة الاجتماعية والدينية والأسرية، إذ لم يتمّ إجراء أيّ تعديلات قانونية حقيقيّة من شأنها تعزيز مكانة المرأة واحترام حقوقها.. فما زالت المرأة السورية غير قادرة على منح الجنسية السوريّة لأولادها، ومازالت النساء تُقتل تحت مسمّى (جريمة الشرف) و يُبرّأ القاتل!.
و مازال القانون السوريّ يسمح بتعدّد الزوجات.. ومازالت الفتيات يزوّجنَ قبل بلوغ السنّ القانونية بعقود غير مسجّلة دون أيّ محاسبة لوليّ أمرها أو للشيخ الذي أبرم عقد الزواج.
كان أن رأت المرأة السوريّة مع انطلاق الثورة فرصة للتخلّص من قيودها، و التحرّر من وصاية المجتمع عليها، فوقفت في المظاهرات الأولى والحراك السلميّ إلى جانب الرجل في تنظيم المظاهرات و المشاركة بها، وإعداد اللافتات والمناشير المناهضة للنظام الاستبداديّ في سوريا؛ فتعرّضت للملاحقة، والاعتقال والضرب والابتزاز الجنسيّ والنفسيّ؛ ومن الأسماء النسائية المؤثّرة التي برزت في تلك الفترة، "منتهى سلطان باشا الأطرش" التي يحمل اسمها رمزيّة خاصّة في قلوب و عقول السوريّين. تردّدت منتهى على مجالس عزاء شهداء الثورة و سجّلت عبر الكلمات التي ألقتها موقفاً واضحاً من النظام السوريّ مطالبة صراحةً بإسقاطه و كافّة رموزه، و أكّدت على حرّية الوطن و المواطن بعيداً عن التدخّل الأجنبيّ وعلى وحدة الشعب السوريّ بكافة أطيافه . و برزت على الصعيد الحقوقيّ "رزان زيتونة" ، ومن الوسط الفنّي مي سكاف و يارا صبري وكندة علوش والكثيرات غيرهنّ من اللواتي تركنَ بصمة في الحراك المدنيّ السوريّ.
كما سجّلت الثورة مظاهرات خاصّة بالنساء بدءاً من درعا إلى دمشق و بانياس والحسكة وإدلب، وصولاً إلى السويداء وباقي المدن والبلدت السوريّة.
و مع تغيّر طبيعة الحراك الثوري من السلميّ إلى العسكريّ، تراجع دور المرأة و تغيّرت طبيعة نشاطها، فبرز من جانب دورها كناشطة إعلاميّة توثّق و تساهم في إيصال مايحدث على الأرض إلى القنوات الإعلامية و مواقع التواصل الاجتماعيّ؛ ومن جانبٍ آخر، خضعت أعداد كبيرة من النساء لدورات في الاسعافات الأوّلية واندفعنَ للعمل في المشافي الميدانيّة مع الطبيبات و الممرّضات . كما لعبت الكثيرات منهنّ دوراً مهمّاً في إدخال الموادّ الطبية و الغذائية إلى المناطق المحاصرة و مرافقة الشبّان المطلوبين أمنياً مستغلّات تساهل حواجز النظام مع النساء و خاصّة من المنتميات للأقلّيات الطائفية.
كما برز نموذجاً مميّزاً من النسوة السوريّات البسيطات اللاتي اندفعنَ بفطرتهنّ و غريزتهنّ الأموميّة للوقوف في وجه الظلم والانحياز العفويّ للمظلوم.. فكانت أم أحمد رمزاً للأمّ السوريّة _تحاكي أم سعد في أدب غسان كنفاني_ التي فتحت بيتها لإخفاء المنشقّين عن جيش النظام و ساهمت مع غيرها في تزويد الثوار بالسلاح و الذخيرة وإعداد وجبات الطعام و إيصالها لهم على امتداد الساحة السوريّة.
و غدت سعاد نوفل ابنة الرقّة رمزاً للوقوف في وجه نظام الأسد، ثمّ في وجه "داعش" و استبدادها حتى اضطرّت مرغمة تحت وطأة تهديداته إلى مغادرة مدينتها.
أمّا على صعيد التشكيلات السياسيّة من المجلس الوطني إلى الائتلاف الوطني، لم يرقَ تمثيل المرأة إلى طموحها، وغالباً ما تتمّ دعوتها للانضمام إليها في المراحل النهائية وقبل الإعلان عن تأسيسها مباشرة كتعبير عن التنوّع فيه أكثر من كونها جزءاً مؤثّراً و فاعلاً؛ وعندما تمّ الإعلان عن ولادة "الهيئة العليا للمفاوضات" بمشاركة سيدتين فقط، أعلنت عن تشكيل لجنة استشارية نسائية تتبع مباشرة للمبعوث الأمميّ إلى سوريا "ستيفان دي مستورا" الذي أكّد على ضرورة مشاركة نسائية أكبر في الوفود المفاوضة في جنيف. و تتألّف من مجموعة من السيدات في محاولة لتمثيل جميع أطياف الشعب السوري، وهي اللجنة التي أطلق عليها اسم (لمجلس الاستشاريّ النسائيّ السوريّ).
في المناطق الخاضعة للمعارضة
إذا كانت التشكيلات السياسية المفترض أنها الحامل السياسيّ للثورة و لقيمها قد همّشت دور المرأة، فإن الوضع في المناطق التي خضعت لسيطرة المعارضة أكثر تعقيداً، ومرتبط إلى حدّ كبير بطبيعة الفصائل العسكريّة المسيطرة على المنطقة (مدنية – إسلامية معتدلة – إسلامية متشدّدة ) و طبيعة الإدارة فيها، وقد أُبعدت المرأة فيها عموماً عن مراكز صنع القرار، وكانت لها مساهمة محدودة في المجالس المحلّية. فظروف الحرب و النزوح و غيرها قد فرضت نفسها على السوريين كافة، فإن المرأة السوريّة وجدت نفسها أمام تحدّيات جديدة، حيث وجدت الكثيرات أنفسهنّ دون مُعيل لهنّ و لأسرهنّ بعد استشهاد أزواجهنّ أو اعتقالهم أو إصابتهم بإعاقة منعتهم من العمل، و صار لزاماً عليهنّ أخذ الدور في تأمين دخل الأسرة إلى جانب أعباء الحياة الأساسيّة و التي تضاعفت صعوبتها نتيجة الحصار و انقطاع الخدمات من ماء و كهرباء و اضطرارهنّ للقيام بهذه الأعمال بطريقة بدائية.
لقد شهدت المناطق المحرّرة نشاطاً نسويّاً لتشكيل منظّمات و مؤسّسات تهتمّ بشأن النساء وتقديم الدعم النفسيّ لهنّ والعمل على تمكينهنّ للمشاركة الفعّالة ببناء الأسرة و المجتمع .مثل "جمعيّة نساء سوريا" في حلب ومنظّمة "بارقة أمل" في إدلب و "مركز النساء الآن" في معرّة النعمان و "مركز نساء الغوطة" لتقديم الرعاية للمرأة و الطفل. كما نشطت النساء في المشاريع الخاصّة بتعليم الأطفال و رعايتهم كمشروع "سوريّات للتعليم" بريف اللاذقية الشمالي لتعليم الأطفال النازحين؛ ونجحت المرأة نسبيّاً بفرض نفسها في مجتمع يوصف بالمحافظ، و استطاعت أن تشكّل في دوما مكتب المرأة التابع للمجلس المحلّي الذي لعب دوراً في تفعيل دور المرأة في المجالس المحلّية، و هناك محاولات لتعميم هذه التجربة على المجالس المحلّية في الغوطة.
كما استطاعت المنظّمات النسائية في محافظة إدلب رغم سيطرة "جيش الفتح الإسلامي" عليها، عقد مؤتمر نسائيّ يضمّ كافة المنظّمات و المؤسّسات النسائية في المحافظة، و استطاعت من خلاله تشكيل (حلقة سلام ) التطوّعية التي تهدف لإنشاء مكاتب نسائية في دوائر المدينة تهتمّ بأمور النساء عموماً و زوجات الشهداء و المعتقلين خصوصاً.
أمّا بالنسبة للمنظّمات السورية التي تعمل خارج سوريا، فقد بلغت نسبة النساء العاملات 20 % تساهم 12% منهنّ في القرارات القياديّة، أمّا في القرارات الاستراتيجيّة فتنخفض النسبة ل 5% وفق إحصاء شبكة (أنا هي) و ملتقى (حنين الثقافي ) شمل 100مكتب لمنظّمة في مدينة غازي عنتاب التركيّة.
في منطقة الجزيرة السوريّة ومع انسحاب "قوات الأسد" و مؤسّساته من المناطق ذات الأغلبيّة الكرديّة في شمال شرق سوريا، عمدت الهيئات السياسية و المدنية بمشاركة واسعة من مختلف الأحزاب الكردية إلى ملء الفراغ الحاصل و تنظيم شؤون المدنيين عن طريق الإدارة الذاتية لمناطقهم، والتي أعلن رسمياً عنها في آذار 2016 و تتميّز هذه المناطق بتنوّع مكوّناتها، و قد ساهم هذا في أن تلعب المرأة دوراً واسعاً عن طريق عشرات المؤسّسات و المنظّمات النسائية التي تمّ تأسيسها في ظلّ حكم الإدارة الذاتية، و انخرطت في العمل السياسيّ، وتولّت مناصب سياسية حسّاسة إضافة لتواجدها في مؤسّسات الحكم الذاتي ..و كما كان لها تواجد عسكري بعد أن شكّل حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وحدة عسكريّة خاصّة بالنساء باسم "وحدات حماية المرأة" و قوات الأسايش، و قد استغلّ هذه الصورة لمخاطبة الغرب و تقديم صورة مخالفة لما ظهرت عليه في مناطق سيطرة المعارضة.
نهايةً .. تسعى المرأة السوريّة مهما كان انتماؤها إلى التخلّص من الاستبداد الاجتماعي والسياسي، وتتطلّع إلى مكانتها الحقيقية التي سلبها إياها نظام البعث وصغار العقول في المجتمع السوريّ.. ولقد رأينا نماذج كثيرة منذ انطلاق الثورة السوريّة باستطاعتها قيادة مجتمع بأسره، فهي نماذج واعدة، وأصبحنا على يقين أن المرأة السوريّة خلّاقة في كل مكان، وفي أيّ شأن إن سُمحَ لها أن تعبّر عن إرادتها ونفسها دون قيود. فلها حقّ حقيقيّ.. كما للرجل حقّه في أيّ شيء ماضياً ومستقبلاً.
.
.