info@suwar-magazine.org

قراءة في رواية " بانسيون مريم" لنبيل الملحم

قراءة في رواية " بانسيون مريم" لنبيل الملحم
Whatsapp
Facebook Share

 

 

 

 

*هذه هي رواية "بانسيون مريم":

"الثورة" هي أن تنفض الغبار عن ستائرك.. "الثورة" ليست تنازع سلطة.

نبيل الملحم: نعم.. كان يعرف.

العنف بما فيها العنف السياسيّ هو "رفع التنورة قسراً".

 

 

 

*أميرة سلام 

 

 

تفاصيل الحياة في زمن الثورة.. هي اللقطات المخيفة التي لم يكن لأحد أن يراها، لقطات أُخذت من الموت والحرب والألم، من الفرح والحبّ، من صوت موسيقا البيانو الى أصوات القصف التي تُسمع في كل أنحاء البلاد، حتى أصغر المواقف وعبثيّتها كان لها معنى.

 

لم تكن أحداثاً سياسية بقدر ما كانت لحظات، كل لحظة فيها تفتح معها أحداث لحياتنا اليومية ببُعدها الأخلاقي والجسدي.

 

تغييرات شهدتها كل شخصية من شخصيات الرواية لينجرف كل واحد منهم إلى مساحة جديدة تاركاً المساحة التي عاشها طيلة عمره الماضي.

 

مريم... امرأة اختبأت داخل أنوثتها.. لتأتي لحظة وتستعيد فيها حياتها وأنوثتها التي كانت منسيّة في غرف وجدران البانسيون.. أعوام وهي محاطة بماضٍ مهشّم ومدمّى.

 

لم تدرك مريم الجحيم الذي كانت فيه، ولم تدرك أنوثتها التي كانت مرمية داخل خزانتها، كانت جائعة لرؤية أشخاص حقيقيّين، أشخاص لديهم روح الحياة والمستقبل، كانت مجهولة العقل والجسد، حتى رأت رضا وروح الشباب والثورة تنبض في كل قطعة من جسده.. هي لحظة أدركت فيها أن هناك مساحات شاسعة من الحياة لم تكن تراها أو تسمعها، أحاسيس انتهكت فيها القيود والقوانين التي تعايشت معها لفترة طويلة، كان رضا حافز الحياة في مريم، ذاك الحافز الذي يهدّد السكون والصمت، وقد فعل ذلك. كان رضا في "بانسيون مريم"، استعراض عميق للذكورة بمواجهة أنوثة منسيّة، وفي استعراضه ذاك، سحب الأنثى المختبئة في مريم وألقاها تحت الضوء، أضاءها، وأعادها إلى فعل "حياة"، دون أن يتبادلا الكلام، ولا يكاد كل منهما سوى أن يمنح إشاراته للآخر.. ستائر البانسيون التي كانت مغلقة منذ زمن فُتحت.. ولكن، ما الذي جعل مريم تتقدّم نحو خطوة بالغة الصعوبة بفتح الستائر ونفض الغبار المعشّش فيها؟

 

ــ يجيبني كاتب الرواية نبيل الملحم: "لفتح تلك الستارة، كان الصراع القاتل ما بين زمنين، زمن الرعب من الزمن، وزمن تفكيك اللحظة نحو انهيار زمن ماضٍ بكل ما حمله لمريم من نكران لنفسها، كان عليها أن تكون امرأة ملوّنة، اللون بالنسبة لامرأة من مثل مريم يعني فيما يعنيه فتح بوّابة المقبرة، الخروج من الموت المنسيّ كما الخروج إلى الحياة التي كانت منسيّة، كان عليها ألّا تمكث في خرابها، وحدث أن خرجت من ذاك الخراب لتستكشف أنها امرأة.. كل ما في الأمر أنها فعلت ذلك لأن ثمّة حياة تسلّلت نحو ذلك المكان المعتم، كل المسألة أنها نفضت الغبار عن ستائرها، وليحدث ذلك كان عليها أن تتقدّم خطوة نحو الستارة، لكنها خطوة شاقّة، هي المسافة الطويلة مابين الحريّة وأثقال الإلغاء الذي مورس عليها دهراً طويلاً.. امرأة انتقلت من الأمان الواهم إلى اللذّة، لذّة أن تكون هي هي، لا سواها".

 

كان على أنيس الشخصية الموازية لمريم، أن يجد في البانسيون ضالّته ومكانه الأبدي، وعندما تحرك خطوة خارج بابه أيقن ضعفه وعجزه، ولكن من هو أنيس؟

 

يقول صاحب الرواية: "أنيس كان الفلسفة التي اصطدمت بالأرض، كان من الصعب على رجل هزمته الفلسفة أن يواجه حركيّة الأرض بما تمليه من شروط.. كان من الصعب أن ينزل بالفلسفة من تعاليها وتجريديتها إلى استحقاقات الأرض بما تحمل من حياة واحتمالات، ولهذا بدت إحباطاته لا تُحَدّ، فالرجل يتأرجح بين زمنين، زمن البيولوجيا، والزمن الموضوعي، كما يتأرجح ما بين وعيين، وعي الضرورة، وأوعية خياله التي لا تتّسع للضرورات الصادمة التي هرسته، وحين انحاز إلى الحياة أدرك عجزه، هذا ما حدث لأنيس وأوقعه في الحيرة.. حيرة خياراته ما بين جدل الحياة و"ستاتيك الصمت"، ثمّة مطرقة خبطت باب أنيس، هي المطرقة التي خبطت عجزه.. كان الباب المغلق بالنسبة إلى أنيس هو تلك الأشواك التي تحميه من أنياب الذئب، وما إن فُتح الباب حتى دخل رضا ليبدّد أماني رجل كل ما ينتظره أن يبوح للمقبرة بحبّ عايشه طيلة عمره، "كان يأخذ شكل القنفذ إن شئت" كما يقول الكاتب، هنا فعل الثورة الذي هو البوح، أن تخرج القنفذ منك وتصرخ، فهتاف "الشعب يريد إسقاط النظام"، سيكون بموازاة لحظة تمزيق ذاك الكفن الذي أحاط بأنيس.. للمرة الثانية أقول بأن الثورة ليست إسقاط سلطة، هي إسقاط منظومة أخلاقية برمّتها، هي تفكيك لتلك المقبرة الداخلية التي  يعيشها الإنسان المقهور.

 

طائر "الكانفا"، كانت مريم تحيكه غرزة إلى جانب غرزة في كل منسوجاتها.. لماذا هذا الطير، ما الذي يريد لنا الكاتب أن نقرأه من خلال طائر "الكانفا"؟ سيجيبنا الكاتب: "أن الطير ليس رمزاً، هو الطائر المعتمد في "كانفا" أمي.. وربما في "كانفا" أمك.. الطير هو ذاك الانعتاق الذي نحنّ إليه حتى في مناماتنا.. الطيران ليس مجرّد فعل مضادّ للجاذبية الأرضية، هو فعل حريّة لا يحدّ.. أظن أن البني آدم كان طائراً ما قبل أن يتحوّل إلى تخزين الغذاء، كانت أجنحته أطول من جسده.. مشكلة التخزين أنه حوّل الإنسان إلى كائن بدين، بدانته حالت دون أن يطير.. "المخزن" يساوي السلطة.. يساوي الدولة بقسريّتها وعنفها وانحطاطها.. هو كذلك حتى في التسميات المعاصرة.. حتى اللحظة ما زالت الدولة في المغرب تسمّى "دولة المخزن".

 

بانسيون مريم، رواية تأخذنا إلى فضاءات واسعة داخل العقل والجسد الإنساني المكبوت والمغلق منذ عقود طويلة.. بشر منسيّون على حواف الحياة، مهملون لا أحد يراهم يجمعهم مكان واحد، مكان مُعتم مُغبرّـ والكل يسكن عزلته وماضيه.

 

كل شخصية في الرواية كان لها ثورتها.. ثورة الحياة التي تسكن كل واحد منهم والكل يراها من منظوره الخاص... البانسيون الذي جمع أشخاصاً منسيّين لا يعيرون انتباههم لأي شيء يحصل، محاصرين داخل عالمهم الخاص، يحيط بكل واحد منهم شرنقة لا يحاول تمزيقها، وبمجرّد خروجه منها يذهب إلى حتفه، لم يستطيعوا أن يخرجوا من ذاكرتهم فاللعب مع الذاكرة كما اللعب مع الله كلاهما سيىء العواقب.. فتح الذاكرة يتساوى وفتح المقابر كما يقول كاتب الرواية.

 

سوسن.. كانت ضحية اغتصاب وابتزاز طالها من قبل أستاذها عندما كانت في السنة التحضيرية للمعهد العالي للفنون المسرحية، فالاغتصاب بالنسبة لها هو المعادل لكل أشكال العنف التي تشهدها البلاد.. كانت على يقين من أن "المرأة تستطيع تدنيس الرجل لمجرّد أن ترفع تنّورتها مرغمة"، وكانت ترى بأن كل أشكال العنف بما فيها العنف السياسي هو "رفع التنّورة قسراً". فالاغتصاب لا يمثّل هتك الجسد بالقدر الذي يمثّل هتك الإرادة.

 

       دائما كانت تزور المقابر وتضع أكاليل ورد فوق قبور لا تعرف أصحابها وهي على قناعة بأن الموتى لا يفاجئوننا.. إنما الأحياء نحن من نخاف بعضنا البعض كل واحد منا رُهاب بالنسبة للآخر.

 

تحاول ريتا أن تخرج من محيطها الاجتماعي الباذخ، فهي ابنة مسؤول كبير في الدولة، إنسانيّتها وحبّها للحياة والموسيقا جعل منها فتاة متمرّدة، كانت تمضي معظم وقتها مع أصدقائها التي وصفتهم أمها بالزعران لتقول ريتا: " هؤلاء شعراء وموسيقيون وأولاد عائلات طيّبة".. حاولت جاهدة الاقتراب من الطبقات الاجتماعية التي تراجعت من مواقع الطبقات الوسطى وأصبحت فقيرة ما بعد الكارثة التي حلّت بالبلد، فالتفاوت الاجتماعي أصبح هائلاً في بلد ينمو نصف سكانه على حواف القمامة.

 

جلال صديق ريتا كان يؤمن بأن "كل ما يقوم به الإنسان عن طيب خاطر يقود إلى الله".

 

أنيس ومريم، عادا ليغلقا باب البانسيون ثانية.. لماذا أغلقوه.. هل هذا يعني التصريح الضمنيّ بـ "اللا أمل"؟ هل هذا يعني التنبّؤ بالمسار المظلم الذي سارت وتسير إليه البلاد؟ أيّ نبوءة تلك التي نسجتها الرواية والتي تقول بأن "السلطة ستخطف الثورة"، وأعني بالسلطة هنا، (والكلام للكاتب)، هي "تلك المنظومة الأخلاقية بالغة الجسارة والقِدم، منظومة العنف، ولهذا كان عليهما إعادة إغلاق بابهما ثانية وإعادة إسدال الستائر ثانية.. فحال ناس البلد اليوم وقد خيّم افتقاد الأمل على تفاصيل تفاصيلهم، وقد باتت البلاد تتأرجح ما بين غولين "غول الماضي ببشاعته، وغول المستقبل الذي ينهرسون بين أنيابه".

 

يقول لي نبيل الملحم: "إن الرواية هي حقيقة حياة، وإذا كانت الحياة قادرة على انتاج رموزها، فهذا يعني أنها حياة بحقّ.. لو كانت اللعبة معكوسة لأعدمت حياة أبطالي.. لا .. هم بشر من لحم ودم، ولهذا تحوّلوا إلى رمز يمكن إسقاطه على سواهم من البشر.. لو كان غسان كنفاني يبحث عن الرمزية في "اطرقوا باب الخزّان"، لخرج ببيان سياسيّ لا برواية تحوّلت إلى بيان سياسيّ، هذا هو الفارق ما بين الحياة في الرواية والموت في السياسة".

 

ما من شخصيات ثانوية في بانسيون مريم، فمن كل شخصية فيها يمكن أن تخرج رواية أخرى، إن ريتا شخصية يمكنها أن تسجل رواية كاملة، وسوسن كذلك، وبقيّة أبطال الرواية، وقدري كذلك، غير أنهم مجتمعون في هذه الرواية، فعل كل منهم ما يمكنه فعله.

 

ما الذي حدث وسيحدث؟ أهذه هي الحياة؟ هل ستستمرّ على هذه الوتيرة؟ فالعالم كما يخيّل إليّ سيموت، فنحن لا نتجرّأ على الدخول إلى المناطق المظلمة التي يمكن للنور أن يبهر فيها العيون ويمكن للأفق أن يكون فيها أوسع وأرحب.. إن ما يكتب تاريخنا الآن هو القوة، فالقوة هي اللحظة، والتاريخ هو تراكم اللحظة تراكماً عشوائياً..

 

هذه هي رواية "بانسيون مريم" للكاتب نبيل الملحم..

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard