عن جنيف العبث واللاجدوى
كما في الجولات السابقة منه، كذلك كانت الجولة السادسة لمؤتمر جنيف حول سوريا، حيث انتهت من دون أن يكون هناك تقدّم جدّي باتّجاه الحلّ. ويبدو واضحاً منذ الآن أن نسخته السابعة، التي من المفترض أن تُعقد في وقت ما من شهر حزيران / يونيو، لا تَعِد بالكثير ولن تفتح أفقاً لبوادر تسوية تضع حدّاً للمقتلة السورية. فبعد أربعة أيام من الاجتماعات التي أجراها وفريقه مع كلّ من وفدي النظام والمعارضة، يخرج المبعوث الأمميّ الخاص ستيفان دي ميستورا، ليبشّر العالم بأنّ هناك "خطوة جديدة لتمهيد الطريق لإجراء مفاوضات حقيقية"، وذلك خلال تقديمه إحاطة لمجلس الأمن يطلعه فيها رسمياً على نتائج جنيف السادس.
قول دي ميستورا إنما هو دليل إضافيّ على عبثيّة مسار جنيف هذا وعدم جدّيته، كما يؤكّد أنّه طيلة سنوات خمس تخلّلتها ستّ نسخ منه، لم يكن ثمّة "مفاوضات حقيقية"، وكل ما جرى ويجري حتى اللحظة ليس أكثر من محاولات "لتمهيد الطريق" أمام المفاوضات. أمّا عن طبيعة الخطوة التي فرح بها السيد دي ميستورا فهي لا تعدو "موافقة جميع الأطراف للمشاركة معاً على مستوى الخبراء" وفق ما أدلى به لمجلس الأمن، علماً أن المقصود من حديثه الإشارة إلى مشاركة خبراء دستوريين في اجتماعات غير رسمية تجري مع/ وبإشراف فريق مكتب المبعوث الأممي الخاص، وذلك لمناقشة عدد من المسائل القانونية والدستورية، استناداً إلى ورقة قدّمها خلال هذه الجولة، أي أن تلك الاجتماعات لا تعني شيئاً على مستوى الشروع في إجراء مفاوضات جدّية مباشرة حول القضايا الأساسية.
يمكن القول إنّ هذا الإجراء كان فصلاً جديداً ضمن مساعي المبعوث الأممي الرامية إلى استمرار مسار جنيف بأي ثمن وعدم الإقرار بفشله أو إنهائه، لذا تجده يعمل على إنعاشه بشتّى السبل، ومنها القيام بالمناقلة بين الأولويّات وبنود جدول الأعمال المفترض. ويُرجّح أن السبب وراء تركيز الرجل هذه المرّة على المسائل الدستورية والقانونية، هو أنّه بالرغم من كلّ ما قيل عن أنّ البحث في "السلال الأربع" التي اقترحها دي ميستورا في جنيف سابق سيجري بالتوازي والتزامن فيما بينها، فإن وفد الهيئة العليا للمفاوضات المعارض بقي مصرّاً على بحث الانتقال السياسي، في مقابل إصرار وفد النظام على مسألة مكافحة الإرهاب كأولويّة لأيّ تفاوض.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى تلك المصادفات العجيبة، التي تتزامن فيها المجازر والتفجيرات مع "الجنيفات"، فيكون الإرهاب حاضراً دوماً لحرف الأنظار عن إجرام النظام وفظاعاته، والإمعان في تغييب جوهر المعضلة السورية والجذر السياسي للصراع، بين شعب أراد الحريّة ونظامٍ لم يشهد التاريخ مثيلاً لوحشيّته في سعيه المحموم لتركيع الشعب والتمسّك بالسلطة. من المؤكّد أنّ إرهاب الصدفة ذاك لا يلغي حقيقة ما استشرى بالفعل من إرهاب وتطرّف يعيثه مجانين الجهاد القادمين من مشارق الأرض ومغاربها، ولا بد من محاربته والخلاص منه. لكن من المؤكّد أيضاً أنّ هذا لن يمكن تحقيقه ولا العمل عليه جدّياً طالما بقي نظام الكارثة المستمرّة.
بالعودة إلى ما رآه المبعوث الأمميّ "خطوة جديدة لتمهيد الطريق لإجراء مفاوضات حقيقية"، وعلى افتراض أنها بالفعل كذلك، فإنّه انطلاقاً من مسلّمة تقول إنّ السلام لا يعني وقف الحرب فقط، وإنما إنهاء أسبابها، يجدر التساؤل: هل يكفي تمهيد الطريق للمفاوضات ووضع سلال تفاوضية وجداول عمل واجتماعات خبراء.. للقول إنّ السلام أصبح ممكناً في سوريا؟ وبالتالي، هل يصحّ أن يُختزل موضوع السلام في سوريا في مجرّد وقف إطلاق النار مثلاً، لا سيّما بعد مباركة دي مستورا وأمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لمسار أستانا والهدن الهشّة التي نتجت عنه، وآخرها "اتّفاق المناطق الأربع"، مع العلم أنّ مسار أستانا هذا لم يفعل سوى التشويش على مسار جنيف المتعثّر أصلاً.
قيل إنّ ديمستورا عاد وتراجع عن اقتراحه بشأن مناقشة السلّة الدستورية. هذا جيّد، ذلك أنّه حتى ولو أنّ مشاورات "الخبراء" حول المسائل الدستورية نجحت في "اختراع" صيغة عمليّة مقبولة لهيئة حكم انتقالي، أو حكومة انتقالية، أو سواها من المسمّيات بما يرافقها من تفاصيل إجرائية تمنع الوقوع في فراغ دستوريّ خلال المرحلة الانتقالية، فأيّ سلام سيحقّقه جنيف أو سواه ما دامت الأسباب والمقدّمات التي أنتجت الحرب ما زالت مستمرّة، وعلى رأسها استمرار النظام الأمنيّ وداعميه على نهجهم وسعيهم المحموم للحسم العسكري، فضلاً عن المعطيات الأخرى التي كانت نتائج لما سبق لكنها أضحت في سياق تحوّلات الصراع وتعقّد مجرياته أسباباً إضافية مستقلّة ومكتفية بذاتها، لتكون عوامل توتّر مزمن ومشاريع لحروب قادمة، كالتدخّلات الإقليمية وفوضى الميليشيات والسلاح، والجهاد العالمي الذي تجذّرت تنظيماته في سوريا، وصولاً إلى انهيار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في البلاد بوجه عام.
لابدّ من الإقرار بلا جدوى كل ما جرى ويجري في جنيف حتى اللحظة، لأن ما كان يُعتقد أنها مفاوضات سوريّة – سوريّة انطلقت في جنيف الأول سنة 2012 لإيجاد حلّ سياسي، عبر دفع من يُفترض أنهما طرفا النزاع الرئيسيان إلى طاولة المفاوضات، قد تحوّل بفعل طول أمد الصراع وازدياد تعقيداته في ظلّ التشابك الدولي
والإقليمي حول القضية السورية، إلى مجرّد إطار شكليّ لحلّ سياسيّ موهوم، يغطّي عملية تمرير الوقت بما يتيح لكل من اللاعبين المتورطين في المقتلة العمل على فرض وقائع جديدة على الأرض، تشكّل رصيداً مناسباً له كي يقوم باستثماره حين تزف ساعة التسوية الكبرى، حيث أنّ أيّاً من هؤلاء لن يرضى الخروج من لعبة الموت خالي الوفاض.
ينطبق الكلام على اللاعبين الكبار الدوليين كالولايات المتحدة وروسيا، أو المتوسطين الإقليميين كتركيا وإيران والسعودية، وذلك يتمّ عبر أدواتهم من اللاعبين الصغار: المعارضة والنظام السوريين وما بينهما من ميليشيات. وضمن الشروط الراهنة، لا يُتوقّع من أيّ تفاهمات محتملة، سياسية أو عسكرية، وبتغطية أمميّة أو بدونها، أن تفعل أكثر من تجميد الصراع أو تبريده مؤقّتاً في أفضل الحالات وبصورة جزئية، ريثما تنضج الصفقة الكبرى، التي لا يُعرف على وجه الدقّة ما قد تنطوي عليه، ولا حتى ما هي الشروط الواجب توافرها لإتمامها، فقد ثبت أنّ كل ما يقال في هذا الشأن ليس إلا ضرباً من التحليل والتخمين، على أرضية ميدانية زلقة وفي خضمّ معطيات إقليمية متغيّرة. على ذلك، لم يخطئ رأس النظام السوري إذ قلّل من أهمية محادثات جنيف قائلاً إنها "مجرّد اجتماعات للإعلام ولن تُفضي إلى شيء ذي جدوى".
يبقى أنّ الحصاد المأساويّ للسنوات الخمس العجاف التي مضت منذ إطلاق "العمليّة السياسية" في جنيف الأول، والذي يبدو الثابت الوحيد في المشهد السوري المتحرّك، فهو تكاتف الأطراف الفاعلة جميعاً على طيّ صفحة الثورة السورية، وإهالة التراب على جثّة الحلم السوري بالتغيير الديمقراطيّ.