صراع الثَّور والدُّبّ ,أستانا وجنيف نموذجاً
في الأشهر الأخيرة شهدت الأزمة السوريّة التي ما انفكّت تحوّلاتها الدراماتيكيّة تتتابع، مُنعطفات كبيرة، ستغيّر في مجرى الصراع ومآلاته، وقد اكتنفها الكثير من الغموض حيناً والمفاجأة حيناً آخر. فوقْف التصعيد الذي بدأ في أستانا، أخذ يتّسع ليشمل مناطق جديدة مثل درعا والغوطة الشرقيّة، كما أن جولات جنيف المتتالية بدأت تُظهر بعض بوادر التقارب بين المتحاورين، ولو كان هذا التقارب في الشكل أكثر منه في المضمون، إذ ما زالت بعض الملفّات محلّ جدل كبيرٍ، مثل الدستور وشكل الحكم ومصير الأسد…
هذه المنعطفات كانت نتيجة لتغيير المناخ السياسيّ الدوليّ والإقليميّ، وليس نتيجة لتقارب الأطراف المحلّية السوريّة المتصارعة، كتقارب بوتين وترامب وتفاهماتهما حول جملة من القضايا، يبدو أن الوضع السوري سيكون مفتاحاً لأكثرها، وتقارب الأتراك والإيرانيين والرّوس في مطالب كلّ منهم وملامح أرباحه مستقبلاً، بالإضافة إلى التقارب الروسيّ الفرنسيّ من جهة والفرنسيّ الأمريكيّ من جهة أخرى، وكذلك انشغال دول الخليج الفاعلة في الوضع السوريّ بمشكلاتها وأزماتها. وأمام هذه التغييرات في المواقف والمصالح، كأن أحدهم يقول: لا بدّ للواقعيّة السياسيّة أن تتغلّب على البعد الأخلاقي والقِيميّ للسياسة الدوليّة في نهاية المطاف، وهو ما تجلّى بشكل واضح في موقف ماكرون الذي بات لا يرى بداية لإنهاء الصراع من ضرورة لرحيل رجل قتل مئات الألوف وشرّد الملايين من السوريين ودمّر بلدهم، ومن أبرز نتائج هذا التقارب أيضاً إيقاف الدعم الأمريكيّ للمعارضة المسلّحة متمثّلة بإيقاف غرفتي الموم والموك.
وبالنظر إلى تطوّر العمليّة التفاوضيّة في سورية، والقرارات الأمميّة التي رافقتها، وخاصّة القرار ٢٢٥٤ فإننا نرى أن الملفّ الإنسانيّ يسير بشكل متسارع أكثر من الملفّ السياسيّ، فملفّات وقف التصعيد، وفكّ الحصار، وإدخال المساعدات، وإطلاق سراح المعتقلين، وعودة النازحين، يتمّ التركيز عليها، ويتمّ التعامل معها كإجراءات بناء الثقة وبناء أرضيّة صحيحة لعمليّة الانتقال السياسيّ، وهو ما كان يشكّل مطلباً للعديد من الفاعلين السوريين.
لكن، وعلى الرغم من أن هذه المنعطفات خفّفت بعض الشيء من المعاناة الإنسانيّة على كاهل السوريّين، إلا أنها تشكّل التفافة كبيرة على القرارات الأمميّة، لتفريغها من محتواها السياسيّ والذي تجلى في شعار "الأسد أو نحرق البلد"، وجعلها مقتصرة على البعد الإنسانيّ ـ حيث نجح النظام ومن ورائه حلفاؤه في حصر السوريين ومن خلفهم المجتمع الدولي أمام خيارين، إمّا الاستمرار في حرق سورية وزعزعة استقرار المنطقة، أو بقاء السلطة بيد النظام، وهو نتيجة طبيعيّة لضعف المعارضة السوريّة، والإستراتيجيّات الخاطئة لحلفائها الإقليميين والدوليين.
فالمناطق المحاصرة أصبحت تسمّى مناطق صعبة الوصول وفق الأمم المتّحدة، وهو صحيح نظرياً، حيث تمّت تسوية أوضاع الكثير من المناطق التي كانت تقبع تحت الحصار ومنع إدخال المساعدات، ولكن هذه التسوية شابها الكثير من انتهاكات حقوق الإنسان، حيث تمّ نقل مجموعات سكّانية كبيرة من مدنها إلى مدن أخرى، وإعادة هذه المدن إلى حكم الأسد بتركيبة سكّانيّة مختلفة، وهذا ما شهدناه في اتّفاق المدن الأربع.
أمّا وقف التصعيد والهُدَن المحلّية التي وقّعها النظام السوري مع أطراف من المعارضة، فصحيح أنها ساهمت في تخفيف الانتهاكات، ولكن هذه الاتّفاقات تمّت خارج إطار اتّفاقية الانتقال السياسيّ، وبالتالي خارج إطار المساءلة، كما أنها مكّنت النظام أمنياً وعسكرياً من خلال إعادة بسط سيطرتها على هذه المناطق، ومكّنتها سياسياً من خلال إظهارها كقضيّة أمنيّة تفاوضيّة بين حكومة شرعيّة ومجموعات عسكريّة خارجة عن القانون، وهو نتيجة مباشرة لمحادثات أستانا، ونتيجة منطقيّة لامتطاء العسكر حمار السياسية.
أمّا ملفّ إعادة اللاجئين فيبدو أنه سيشهد في الأيام المقبلة إجراءات ذات صلة بهذا الملفّ، وخاصّة في درعا والغوطة الشرقيّة، كما حدث في مناطق درع الفرات، رغم أن هذه المنطقة خاضعة لسيطرة النفوذ التركيّ.
أمّا ملفّ المعتقلين فإنه يبدو ليس ضمن إجراءات بناء الثقة في الوقت الراهن، إذ يعلم النظام وحلفاؤه أن حجم هذا الملفّ من حيث الانتهاكات المرتكبة وشهادات المعتقلين، قد يطيح برموز النظام ويجرّهم إلى محاكم دوليّة هم في غنى عنها، إذا ما تمّ العمل عليه قبل الانتقال السياسيّ، لذلك يبدو أنه سوف يتمّ الدفع لتأجيله إلى ما بعد توقيع الاتّفاقيّة.
وليس خافياً على أحد شغل النظام على قلب الحقائق وتزييف الوقائع، من خلال محاولاته إطلاق الحوار الوطنيّ، وإعادة الإعمار قبل توقيع الاتّفاقية، إذ أنه يعدّ هذه المصالحات والهُدَن التي تمّت جزءاً أساسيّاً من الحوار الوطنيّ، كما أنه يعدّ المساعدات الشحيحة التي أُدخلت إلى المناطق التي تمّ تهجير أهلها منها بمثابة إعادة الإعمار، لذلك فهو بحاجة إلى شرعتنها دولياً.
ولعلّ أخطر نتائج الالتفاف على إجراءات بناء الثقة، والمتعلّقة بتسوية الملفّ الإنسانيّ، تفريغها من محتواها السياسيّ والعمل عليها خارج إطار اتّفاقية الانتقال السياسيّ، وخارج إطار هيئة الحكم الانتقاليّ كاملة الصلاحيات التي دعت إليها القرارات الأمميّة. وهو ما معناه أن هيئة الحكم الانتقاليّ مشروع طفل قبل زواج لم ولن يتمّ.
أمّا الملفّ السياسيّ فهو يسير بشكل بطيء جدّاً، إذ من الواضح أن دي مستورا يسعى إلى بناء عمليّة متماسكة وقوية، ولكن بطْء سير العملية وعدم قدرتها على مجاراة أستانا والاتّفاقيات الثنائية بين الدول جعل خيارها محصوراً في دستور تتوافق عليه الأطراف المتفاوضة، وقد لا تتعدّى تعديلات دستوريّة وحكومة وطنيّة مع الحيلولة دون انهيار مؤسّسات الدولة، مثلما حدث في العراق، وهو ما يُطلق عليه اصطلاحاً تسوية سياسية لا تحمل بين طيّاتها ملامح لنظام ديمقراطيّ يحترم حقوق الإنسان ويجسّد الحرّيات.. وكأنك ياأبو زيد ما غزيت.