الطيب تيزيني.. مرة ثانية يا أبي
وإن كنّا ننظر إلى التاريخ من ثقب الباب، حسناً نفعل، فالفضاءات، كل الفضاءات، لم تكن ليتسنّى أن تدخل من الباب المفتوح، فلا أبواب، وكنّا ذات فجر، قد قرأناك وأنت تكتب في "التراث والثورة"، وتحاورنا كما لو كنّا سنذهب إلى الهاوية.. وكنت وحدك، فيما كائنات الفولاذ تسرقنا، وكنت تبحث عن الملائكة فينا، نحن المصابين بلوثة الأبالسة.
حدث، ولأول مرة أن وقفنا على قدم واحدة، بين مزدحمين على مدرج جامعة دمشق، لنصغي إلى نصف كلامك، نعم نصفه، فقد ادّخرت أنت من الكلام، ربما ربعه، وأخذ الضجيج الربع الثاني، ليتبقّى منك، نصفك، وكان علينا أن نفهم منه، ما سيحل بنا والدبّابات جاهزة لانتزاع أظافرنا.
وكنّا نصفنا، مشطورين ما بين كلام البخاري، وما بين تشي غيفارا، وما بينهما لم يكن قد ظهر توماس جيفرسون بعد، ما بينهما كانت العباءة الوهابية تقابل العباءة الخمينية، واستطراداً كانت حرب الطوائف تخجل من إعلان نفسها، وأنت الرجل الذي أحال التاريخ إلى صراع الطبقات، بمن فيه ذاك التاريخ الجاثم مابين ولائم الدولة الناشئة، (أو الناتئة لافرق)، وقد استولدت دستورها من المقدٍّس، فيما حوّلت الحياة، كل الحياة إلى مدنّس، ليكون حضور الجلاّد أقوى من حضور الله فينا، وكمن يدخل بقدمين حافيين إلى بيت أشواكنا، كنت تدخل، لننساك نحن الذين لم نكن يوماً لنخال أننا محكومون بالعقاب الإلهي إن نسينا أنك قلتها لنا، لا في اللحظة الخاطئة.. لا.. في اللحظة التي كان علينا أن نصغي لك فيها، وكان محمد سعيد البوطي يستعين عليك بالسفّاح، فيما كانت امبراطورية يوسف القرضاوي تأخذ مدّاها ومدّها من حروب النجوم، وقد رسم لها هنري كيسنجر مكاناً على الخطوط الأمامية في جبهاته، وكنّا نلعب مع ألف ليلة وليلة، وكأنما شهرزاد قد تمدّدت فينا، وقد تناهت إلينا قهقهاتها، والتاريخ، يحرس صباها، وكأنما، ولشدّة ازدرائها لنا، لم تكن لتعطّر قدميها حين ترمي باظافرها في وجوهنا.
- وانتقلنا.. نعم أيها السيد الجليل انتقلنا، من قال أننا لم ننتقل في هذا الوقت شديد الوعورة؟
وكنت بيننا.. متظاهراً، صامتاً، ناطقاً، متأملاً، وفي نهايات اللحظة "باكياً".. ونسيناك، وقد انتقلنا من الثائر، إلى المهرّج، ومن إنقاذ البلاد إلى إغراقها، ومن شفافية الحلم، إلى فجاجة المُضارِب، ومن مركز اللحظة، إلى قاع التاريخ، ومن ملامسة الوجع، إلى سكون المقبرة، ومن الحبّ، إلى ليالينا الباردة، وكان منّا من تحت الأنقاض وفينا من يبيت في لاس فيغاس، الأول تحت أنقاض الثورة المسروقة، والثاني سارقها، وهانحن ننام في العتمة، حتى افترقنا عن ألف ليلة وليلة، تلك التي تبهج خيالنا، دون أن نتوقع منها أن تكون جزءاً من محنتنا.
كيف حالك أيها السيد؟ ضاحك، مغتبط، حزين، متألم، مقتول، تنتظر ما لايأتي؟ كيف حالك أيها السيد وقد ازاحك السيف منّا، وأزاحك المكان منا، وقايضناك يوم انفتحت البوابة بالخناجر، وبغابات الديناميت التي قتلتنا يوم كنت تعرف أنها ستكون كذلك، ويوم لم نصغ إليك، ويوم استيقظت غرائزنا لتملأ المسرح. . ورجعت وحدك، وكنت وحدك.
كيف حالك أيها السيد، ألم تملّ من صلاحية الحياة، من تفاصيل اليوم، الساعة، الثواني؟
- ذات يوم قلت لك: يا أبي.
ومع كل يوم سأقول لك: يا أبي.
أبي الذي لم يُبَع لأحد، لم يقتنه أحد، لم يتجوّل في قصر أحد، واكتفى بلؤلؤ دمعته.
سأقول لك يا أبي، ومن واجبك في حال كهذه أن تصغي:
* لست من الرخام، ولست للوردة، كل ما تبقّى لي أن أتكئ على كتفك، المتعب، المنكسر، الذي يمشي إلى نهاياته، ونهاياتي مؤجلة.. مؤجلة، لا كما أريد لها أن تكون، كل ما في الأمر أن الصُدفة البيولوجية قد شاءت لها أن تكون مؤجلة.
أنا حزين، ووحدي، أرغب في أن ألملم دمعتك ثم وما قبل الخطوة الأخيرة تلملم دمعتي.
أرجوك.. عش أكثر.. كي تشهد على تدهورنا أكثر.. لن اكون خاتماً في اصبعك، سأبقى ذاك الصبي الشقي الذي يطيّر الحمام من قبّعته.
ذات يوم قلتها لك، ولكنني اللحظة سأعترف:
- كل الاعتذار منك.. في قبعاتنا ثعابين يا أبي.