المأساة السورية فيما وراء السياسة والحرب
بعيداً عمّا يتم التركيز عليه في وسائل الإعلام عن الوضع السوري، وما يصرّح به المعارضون والنظام وما بينهما من قوى سياسية، ومنظمات مجتمع مدني وشخصيات ثقافية ومنصات وغرف تتشكل هنا وهناك للتداول في القضية السورية بهدف إيجاد حلول لها في كل من جنيف وأستانة، وبعيداً عن غرق سوريا في وحل التدخلات الإقليمية والدولية، حتى أصبحت ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات.
فإن المأساة السورية قد بلغت أبعاداً أكبر مما يتخيله السياسيون والإعلاميون. وإذا كانت الحرب والسياسة يمكن التعامل مع مجرياتهما وإيجاد حلول ومخارج لآثارهما المباشرة، فإن الخراب الاجتماعي والإنساني الهائل الذي تخلفانه ينذر بكوارث اجتماعية وإنسانية بعيدة المدى.
بقليل من التعمق في المشكلات المحلية في كل منطقة سورية يمكن للمرء أن يطّلع على هول المصائب التي تشهدها من عمليات خطف وإتجار بالبشر، مروراً بتسرب الأطفال من المدارس أو خضوعهم لتعليم متطرف دينياً، وصولاً إلى تجارة المخدرات والأسلحة، التي باتت العديد من المدن السورية أسواقاً مفتوحة لها.
عمليات الخطف باتت تمس كيان المجتمع السوري ووجوده، وتهدده بحروب مستقبلية، خاصةً إذا كانت هذه العمليات تتجاوز حدود المدن والمحافظات لتخلق حساسيات ما بين المناطق المتجاورة، أو بين المكونات المختلفة التي تعيش في المنطقة نفسها، والتي تعاني في الأساس من هشاشة العلاقات المتبادلة.
المعلومات التي تصل من عدة محافظات عن عمليات الخطف التي تحدث وسط الفوضى التي يعيشها المجتمع السوري تهدف إلى إثارة الرعب حيناً، والفتنة في أحيان أخرى في هذه المنطقة أو تلك، ومن المؤكد أن هناك أيادٍ خفية تديرها لمصلحة بعض الجهات الأمنية أو السياسية بهدف تحقيق مكاسب سياسية، أو توفير موارد مالية للحروب التي تخاض في سوريا.
وهذه العمليات تكاد تكون منظمة وتتم بشكل علني، يمارسها عناصر النظام ومليشيات الدفاع الوطني على الحواجز في مناطق سيطرتها، كما تمارسها المليشيات والفصائل المرتبطة بالمعارضة في مناطق نفوذها، وتتراوح أهدافها بين الحصول على المال، إلى تبادل المخطوفين المدنيين بالعسكريين الأسرى لدى الجهة المقابلة.
الانهيار القيمي والحضاري في البلاد يجعلها ساحة لممارسات همجية كان تخيلها غير ممكن فيما مضى. وإذا نجح السياسيون يوماً ما في وضع حد للحرب السورية، فهذا لن يعني تلقائياً نهاية المأساة، بل سيكون علينا أن نواجه واقعاً اجتماعياً مهلهلاً، وجيلاً كاملاً من الأطفال الذين تربوا في ظل الحرب والعنف والانهيار الأخلاقي والتعصب الديني والطائفي، والكثير منهم لم يحصل على أي تعليم حقيقي. وأورثته ظروفه الحياتية الكثير من الأحقاد والعقد والرغبة في الثأر.
سوريا تحتاج إلى ما هو أكثر من العمل السياسي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ضمن شروط هذا الواقع المرير...