الأزمة السوريّة في لعبة المصالح، أمريكا هي الرابح الأكبر
مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض راهن الكثيرون على حدوث تغيّر جذريّ في السياسة الأمريكية في المنطقة العربية، التي بدا أن سياسة أوباما (المتراخية) ألحقت الضرر فيها بالمصالح الأمريكية وقلّصت الدور والنفوذ لصالح المنافس الروسيّ.
لكنّ تلك النظرة إلى الأمور كانت السطحية تغلب فيها على الرؤية السياسة السليمة، وهي ربما كانت مدفوعة لدى البعض بأحلام يقظة واندفاعات عاطفية لرؤية تغيير جذريّ ينهي حالة الخيبة التي سبّبتها سياسة أوباما، و ربما كان وراءها لدى غيره نزوعاً لممارسة بعض الحرب الإعلامية و النفسية بشكل ودرجة ما، و قد يكون وراءها عند غيرهما الانجراف وراء طرائق و أساليب التفكير المحلّية التقليدية، التي تربط السياسات بالشخصيات الحاكمة، على غرار شخصيات السلاطين الحاكمين المتحكّمين في أشباه دولنا، لكنّ من يفكّر بعقلانية و واقعية لن يصعب عليه أن يدرك أن السياسة الأمريكية لا يحدّدها الأشخاص، مهما كان الموقع السياسيّ الذي يشغلونه، حتى و لو كان قمّة الهرم السياسيّ، فأمريكا دولة حديثة، و ليست سلطنة شرق أوسطيّة، و السياسة فيها ترسمها المؤسّسات و القوى السياسية و المجتمعية الفاعلة، و ليس هذا الرئيس أو ذاك و لا هذه الإدارة أو تلك، ودور الرئاسة و الإدارة فيها أشبه ما يكون بدور المهندس التنفيذيّ في مشروع.
و بما أن القوى الفاعلة في أمريكا لم تتغيّر بالطبع مع تغيُّر الرئيس، فمن عدم المنطق التفاجؤ بعدم حدوث نقلة نوعية في السياسة الأمريكية، أو توقّع حدوث هذه النقلة في يوم من الأيام!
لكن قبل مواصلة الكلام عن ترامب، و التغيّرات المتوقّعة في السياسة الأمريكية معه، لنقم بتقييم موجز لسياسة أمريكا في عهد أوباما في شرقنا الأوسط عموماً و في سوريا خصوصاً منذ بداية أحداث الربيع العربيّ.
يروّج الكثيرون لمقولة انكفاء الدور الأمريكي، و انتهاء فترة هيمنة القطب الواحد، معتمدين على ما بدا من تراخٍ و تهاون ظاهريّ في سياسة أوباما مع الروس في سوريا، و أكثرهم لا يقدّر – أو لا يريد– أن يرى و يعترف أن أمريكا كانت وما زالت هي الرابح الأكبر في المعركة السورية، فهي بدت وكأنها تعتمد سياسة النأي بالنفس عمّا يجري في رفضها للتدخّل المباشر فيه، في الوقت الذي كانت تتعامل معه بمنطق "إدارة الأزمة" و ليس السعي إلى حلّها، و قد نجحت في ذلك على حساب كل الأطراف الأخرى، سواء من حلفائها أو منافسيها و خصومها، فأمريكا استغلّت الأزمة السورية و راهنت فيها على القوى المسلّحة الإسلامية المتطرّفة بشكل أساسيّ، و همّشت المعارضة الوطنية الحقيقية، و لم يكن هدفها في هذا إسقاط النظام السوري، بل على العكس، هي لم تكن تريد له السقوط، و لا الهزيمة أو الانتصار، و نفس الكلام ينطبق على الجماعات المسلّحة، فالمطلوب أمريكياً هو الصراع، الصراع الذي يورّط كلّاً من النظام و أعدائه في الداخل، و كلّاً من حلفاء و خصوم أمريكا الإقليميين و الدوليين في الخارج، و يتجاوز الداخل السوري إلى الخارج الإقليمي و الدولي و هذا هو الأهمّ، و هذا ينسجم مع مخطّطات أمريكا السابقة التي أعلن فيها أكثر من مرة في ما يتعلّق بالنظام السوري، أن أمريكا ستسعى إلى إضعافه دون إسقاطه!
فماذا جنت أمريكا من الحرب في سوريا؟
ليس لدى أمريكا ما تخسره بتاتا في سوريا، فهي ليست لديها فيها أيّة مصالح اقتصادية تخشى عليها من الدمار، و ليست سوريا منطقة نفوذ استراتيجيّ تخاطر بفقدانها، و بالتالي فأيّ صراع مدمّر داخل سوريا لا يلحق بتاتاً أيّ ضرر بأيّة مصالح أمريكية، و على العكس من ذلك يحقّق لها فوائد متعدّدة في منافستها مع كل من روسيا و إيران و تركيا، و في حربها المزعومة على الإرهاب، إضافة إلى أنه خدمة لمصلحة إسرائيل.
ففي ما يتعلّق بروسيا:
روسيا هي صاحبة مصلحة فعلية في سوريا، التي تُعتبر دولة صديقة لها، و كان لها فيها قبل الـ 2011بعض التواجد العسكري، إضافة إلى وجود بعض المصالح الاقتصادية، وهذا كان مرشّحاً للنموّ مع محاولات بوتين لإعادة حضور روسيا كلاعب أساسيّ في الساحة الدولية، و يُعتبر إلحاق الدمار بسوريا ضربة مباشرة لروسيا.. و لأحلام بوتين الساعية لاستعادة مكانة الاتحاد السوفييتي على المستوى الدولي، و اليوم – ورغم الحضور الحربيّ القويّ لروسيا في سوريا- فما وصلت إليه الأوضاع جعلت من النظام السوري مجرّد حليف خائر القوى لروسيا.. و لا يسيطر إلا على جزء من مساحة البلاد التي كان يسيطر عليها سابقاً، و هذا الجزء بحدّ ذاته فيه الكثير من المناطق المدمّرة كلّياً أو جزئياً، ناهيك عن الفوضى و التدهور الحادّ على كل من المستويين الأمنيّ و الاقتصاديّ، و بالرغم من أن روسيا بدعمها المباشر للنظام السوري تحاول أن تظهر على الساحة العالمية و بجانبها إيران و من وراءها الصين و كأنها قد أنهت زمن هيمنة القطب الأمريكي الواحد، إلا أنها على معظم الساحة العربية أصبحت تظهر بمظهر المعتدي الداعم للنظام الديكتاتوريّ ضدّ شعبه، و بمظهر القوة الخطيرة المستعدّة للتدخل العسكريّ ليس فقط في جوارها كما حدث في جورجيا و أوكرانيا سابقاً، و هذا بحدّ ذاته يُعتبر تهديداً لحلفاء أمريكا الأوروبيين و الأطلسيين، و بقدر ما تستدرج أمريكا روسيا للتورّط أكثر في سوريا، فهي بذلك تزيد من تأليب العالم العربي و الإسلامي عموماً على روسيا، و تستفيد من ذلك في الضغط على الأوروبيين ليضغطوا بدورهم على روسيا، و تعرقل أيّ تقارب ثابت مُحتمل بينها و بين الاتحاد الأوروبي، و بينها و بين تركيا.
و في ما يتعلّق بإيران:
يُعتبر النظام السوري حليفاً أساسياً لإيران في المنطقة، و لذا يُعتبر ضرب سوريا إضعافاً لحضور إيران فيها.. و تقليصاً و تقويضاً لمناطق نفوذها، وتوريطاً مباشراً لها في الصراع الذي نجحت أمريكا فيه باعتمادها غير المباشر على الحركات الإسلامية السنّية المتطرّفة بإعطائه طابع الصراع السنيّ-الشيعيّ، ممّا يضاعف من حالة العداء والرفض لإيران ليس فقط على معظم الساحة العربية ذات الأغلبية السنّية.. بل و في الكثير من مناطق العالم الأخرى ذات نفس الأغلبية، هذا مع العلم أن أمريكا.. لا تريد إلحاق الأذى الكبير بإيران، و فكرة توجيه ضربة عسكرية لها.. ليس لها – ولم يكن- أي وجود حقيقيّ على أرض الواقع، فأمريكا تريد لإيران أن تكون قوية في المنطقة بما يكفي لتبدو عامل تهديد لدول الخليج، لكن دون أن تتحوّل إلى قوة إقليمية يصعب احتواؤها أمريكياً.. فتلحق الأذى بمصالح أمريكا المباشرة و غير المباشرة، و أمريكا التي تريد احتواء إيران.. لا تريد فقط حصرها في حدود النفوذ المسموح بها أمريكياً، و إنما تسعى إلى ما هو أبعد و أعمق من ذلك بكثير، و مدّ هذا الاحتواء ليتجاوز حدود الاحتواء السياسيّ و العسكريّ – إن جاز التعبير- لتحويله إلى احتواء إستراتيجيّ، يكرّر تجربة الاحتواء التي طُبّقت في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، و كُرّرت مع الصين بعد ذلك بزمن غير بعيد، حينما دُمجت اليابان كلّياً في العالم الرأسمالي الليبرالي الغربي، و دُمجت الصين فيه اقتصادياً، وهذا ما ينتظر إيران - المغرية لأمريكا- و الغرب عموماً، و هي الدولة ذات الثروات الطبيعية.. و المستوي العلمي و الصناعي و التنموي المقبول غربياً، و قد أتت الحرب على سوريا بأوائل أُكُلِها.. و حقّقت خطوة – و إن كانت محدودة- إلى الإمام في سياسة الاحتواء الشامل لإيران، فقد دفعت إيران لتوقيع اتّفاق يضبط نشاطها النووي مع أمريكا و الغرب.
أمّا في ما يتعلّق بتركيا:
فقد كانت تركيا على علاقة جيدة مع كل من إيران و النظام السوري قبل 2011، و هي التي – مع وصول أردوغان إلى الحكم فيها- بدا الانعطاف واضحاً في علاقاتها مع دول الجوار، و قد بدا في هذا أن تركيا التي لم تنجح بعد محاولات نصف قرن في الاندماج بأوروبا.. تحاول البحث عن بدائل في محيطها العربيّ و الإسلاميّ و الأوراسيّ، لكن التغيّرات التي بدأت تعصف بالعالم العربيّ مع بداية عام 2011، بلبلت الأوضاع شبه المستقرّة.. و أعادت خلط الأوراق، و أجبرت الجميع على إعادة حساباتهم، و تركيا التي لم تقف ضدّ نظام القذافي.. شعرت بعد سقوطه بأنها اقترفت خطأ كبيراً، فحاولت تعويض ذلك على الساحة السورية.. و الظهور بمظهر الحليف للقوى المناهضة لنظام الأسد، الذي توقّعت له السقوط القريب كما حدث في ليبيا، فتخلّت عن صداقتها السابقة لهذا النظام.. و انقلبت عليه لصالح معارضيه، و بَنَت حساباتها الجديدة على أن تغيّرات ديموقراطية فعلية ستحدث في العالم العربيّ ذي الأغلبية الإسلامية السنّية، و بأن هذه التغيّرات ستوصل إلى الحكم قوى إسلامية سياسية تشبه إلى حدّ ما حزب العدالة و التنمية.. في بلدان الربيع العربيّ.. و البلدان التي سيمتدّ إليها لاحقاً هذا الربيع، وبذلك ستجد تركيا في جوارها منطقة إقليمية واسعة.. تحكم دولها قوى شبيهة بالقوة الحاكمة في تركيا، ممّا يعطي تركيا إمكانية إقامة تحالف إقليمي ضخم على كافة الصُّعد، و هذا يعطي تركيا بحكم تفوّقها في مستويات التطوّر السياسية و الاقتصادية و الصناعية الإمكانية للعب دور القاطرة في هذا التحالف، و للعب دور أكبر بكثير على كل من الساحتين الإقليمية و العالمية معزّزة بما سيحقّقه هذا التحالف المأمول من فوائد جمّة على كافة الصُّعد لتركيا و جوارها العربي الإسلامي.
طبعا هذا الأمر لم يخف َ على أمريكا و أوروبا .. كما لم يخفَ على كل من روسيا و إيران، و هو تهديد خطير لمصالح كل هذه الأطراف، و لذا لعب كل من هذه الأطراف دوره الخاصّ في القضاء على مثل هذه الإمكانية، و هذا ما تجلّى واضحاً في عدم الاستجابة الأمريكية لمعظم المطالب التركية على مدى كل سنوات الأزمة السورية، و في عدم الانحياز الأمريكي لتركيا في معركتها مع حزب العمال الكردستاني و حلفائها، فيما ذهبت روسيا أبعد من ذلك و قدّمت الدعم لهذا الحزب و حلفائه في سوريا.
مكاسب إضافية لأمريكا:
- التغطية على الأزمة الداخلية:
النظام الغربي الرأسمالي هو نظام مأزوم، و يخشى دائماً من ردّات فعل شعوبه على ما تعانيه هذه الشعوب من أزمات، و هو دائماً بحاجة لعدوّ عالميّ خارجيّ يجعله خطراً يهدّد أمن مجتمعاته .. ليصرف بذلك جزءاً هاماً من أنظار أبناء هذه المجتمعات إلى هذا العدو بدلاً من أن تتركّز على الأزمات الداخلية، فتضعف بذلك إمكانية الحراك ضدّ السياسات المتّبعة.. و ضدّ القوى المهيمنة، و بدلاً من ذلك يتحوّل قسم من أبناء هذه المجتمعات إلى مؤيّدين في الحرب المفترضة ضدّ هذا العدو الخطير.
هذا العدو أمّنه للغرب وجود الاتحاد السوفييتي على مدى نصف قرن من الحرب الباردة تقريباً، و لكن بعد سقوط الاتحاد السوفييتي صار لابدّ من توفير فزّاعة بديلة، فحلّ "الإرهاب – و بالأخصّ الإسلامي- المزعوم منه" محلّ العدو السابق، و لكن لكي يتحقّق ذلك بالشكل الناجح، لا بدّ من قوى مجسّدة حقيقية على الأرض يتجسّد فيها هذا الإرهاب، و هذا ما وجدته- بل و أمّنته أمريكا و حلفاؤها في تنظيمات على غرار "القاعدة"، و "طالبان".. و حالياً "النصرة" و "داعش".
أمّنت الأزمة السورية لأمريكا إمكانية إنتاج "البعبع" الداعشيّ الذي يهدّد أمن المجتمعات الغربية في عقر دارها.. و ليس مصالحها فقط في الشرق الأوسط، و هذا ما تحتاجه أمريكا خصّيصاً و حلفاؤها الأوروبيون عموماً للتغطية على تداعيات الأزمة الاقتصادية التي استفحلت عام 2008، و التي مازال الغرب يعاني من آثارها بقوة.. و يعاني معه العالم أجمع بدوره، و كان هذا ضرورياً.. بعد أن فقدت مسرحية محاربة " القاعدة" جدّيتها بالنسبة للمواطن الغربي، بعد عشر سنوات تقريباً لم يحقّق فيها أيّ شيء عيانيّ واضح، فكان لا بدّ من مشهد قتل أسامة بن لادن.. ليشكّل بذلك "شبه نهاية" لمسرحية الحرب على القاعدة قبل استبدالها بداعش.
و اليوم أمريكا تقود تحالفاً دولياً لمحاربة داعش في كل من سوريا و العراق و بقيّة دول المنطقة، و لكن بعد سنة و نصف من هذه الحرب المزعومة في عهد أوباما.. لم تفقد داعش إلا كسر مئويّ صغير من قوّتها – حسب ما أعلنه المسؤولون الأمريكيون أنفسهم، فيما لم يحتج إسقاط القذافي سوى أربعة أشهر تقريباً عندما كانت نيّة إسقاطه جدّيّة، و بالرغم من أنه في الآونة الأخيرة حدث تغيّر واضح في الوضع الميداني ضدّ داعش، لكن ما يجري في المنطقة الشرقية من سوريا من سعي أمريكي جدّي لاستبدال داعش بالحليف الكردي الممثّل بقوات سوريا الديمقراطية، يدلّ على أنّ "ورقة داعش" ما تزال ذات رصيد جدّ مفيد بالنسبة للغرب الأطلسي و بالأخصّ أمريكا، لاستخدامها في تصفية الحسابات مع كل من روسيا و إيران .. بل و تركيا، لكنّ المفارقة أن كل من هؤلاء الأطراف صار بدوره يلعب بورقة داعش و يحاول الاستفادة منها بأسلوبه الخاصّ.
- تعزيز مكانة إسرائيل و تفوّقها في المنطقة:
ليس ما تقدّم كل شيء، فهناك فائدة أخرى على درجة كبيرة من الأهمّية، و هي تتعلّق بإسرائيل، و رغم أن النظام السوري لم يكن يشكّل خطراً فعلّياً على إسرائيل، لكن في الحساب الإستراتيجيّ يبقى إلحاق الدمار بأيّ بلد عربيّ مجاور لإسرائيل خدمة لمصالحها على المدى الآنيّ و المستقبليّ، و هو يحرم الفلسطينيين من أيّ تحالف فعليّ أو مُحتَمل معه، و بالتالي يصبح الدمار اللاحق بسوريا دولة و مجتمعاً و شعباً على كافة الصُّعد بشرياً و اجتماعياً و اقتصادياً و عسكرياً، و بالأخصّ بعد تدمير ما كان لديها من سلاح كيماوي، تعزيزاً لأمن و تفوّق إسرائيل، و تزيد من أهمّية هذه الحرب على سوريا بالنسبة لإسرائيل .. هي أنها ساهمت مساهمة جدّ كبيرة في خلق صراع سنّيّ- شيعيّ في الشرق الأوسط يصبح معه الصراع العربيّ- الإسرائيليّ في طيّ النسيان، و بالأخصّ حين يكرّس الهويات الطائفية و العرقية محلّ الهوية القومية العربية، فتزول بذلك هذه الهوية المتضادّة مع الهوية الإسرائيلية، و إذا ما اتّخذت إسرائيل بدورها هوية دينية يهودية في هذه المعمعة.. فهي ستكون عنصراً عادياً في تشرذم الهويات الحاصل في المنطقة.
ممّا تقدّم نرى أن سياسة أوباما التي اعتمدت على النأي الظاهريّ بالنفس، و عدم التدخّل المباشر، و الاعتماد بشكل رئيس على قوى وكيلة، و تغليب مبدأ الاحتواء مع المنافسين الكبار لم تلحق أيّ ضرر مادّي أو معنويّ بمصالح أمريكا، بل خدمت هذه المصالح بدرجات كبيرة.. و بأرخص التكاليف، و لذا من السذاجة توقّع تغيّر جذريّ في السياسة الأمريكية مع عودة الجمهوريين للحكم، مع ترامب الجمهوري شكلياً، و هو القادم من خارج المؤسّسة السياسية الأمريكية بديمقراطيّيها و جمهوريّيها، أيّ القادم نسبياً من خارج "النظام الأمريكي".
لقد كان فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية بعيداً عمّا يجري في شرقنا العربيّ، و هذا الفوز له أسبابه الداخلية الجوهرية، و قد كثرت التحليلات حولها، و ربما يكفينا القول هنا أن السبب الرئيس في نجاح ترامب هو قدومه من خارج كلا الحزبين التقليديين الجمهوريّ و الديموقراطيّ، و طرحه لشعارات غير تقليدية – و إن كانت متطرّفة- يراها أغلب المواطنين الأمريكيين متوافقة مع مصلحتهم، و هم الذين أرهقهم تكرّر خذلان كل من الجمهوريين و الديموقراطيين التقليديين لهم و عدم تلبيتهم لطموحاتهم على حدّ سواء.
و الآن بات ترامب رئيساً، و انتهى زمن الشعارات و الاستعراضات و حان وقت العمل الفعليّ، و ممّا لا شكّ فيه سيكون ترامب مُلزَماً بالوفاء ببعض وعوده الانتخابية ليحافظ على سمعته و صورته أمام جمهور ناخبيه، لاسيّما إذا ما أراد الحفاظ على أصوات هذا الجمهور في الانتخابات الرئاسية التالية، لكنّ الالتزام بكل ما تمّ طرحه في الحملة الانتخابية، سيلحق الضرر الفادح بمصالح أمريكا على الساحة الدولية، و سيضع ترامب في مواجهة قوى عاتية في الداخل الأمريكي نفسه، و هذه القوى لن تحميه منها جماهيريّته الشعبويّة، فالتغيير الجذريّ في أمريكا غير مسموح به، و العاقبة الوخيمة لمن حاولوا فعل ذلك ما تزال حاضرة في الذهن .. و اغتيال جون كيندي و روبرت كيندي، ومارتن لوثر كينغ و مالكوم إكس خير مثال على هذا.
أمريكا- مهما كانت عيوبها- هي في المحصّلة دولة حديثة، و هي دولة مؤسّسات و قوانين.. إضافة إلى أنها دولة لوبيّات و تكتّلات مَصلحيّة و توازنات قوى، وترامب لن يكون قطعاً ذاك السوبرمان الذي سيتخطّى كل هذا، و لن يكون أمامه إلا أن يكون رئيساً جمهورياً فعلياً، و أن يدخل إلى بيت طاعة المؤسّسة السياسية الأمريكية و من تمثّله من القوى، و هذا ما نراه يجري من خلال متابعته التقريبية لنهج أوباما، باستثناء بعض حركات ردّ الاعتبار و تسجيل المواقف على غرار ما جرى في مطار الشعيرات، و التي قد تعود إلى كون الجمهوريين بشكل عام أكثر تطرّفاً و نزوعاً لاستخدام القوة من الديمقراطيين، و مع ذلك فهم غير مضطرّين للقيام بتغيير كبير في نهجهم التعامليّ مع الأزمة السورية، و هذا لا يخفى على الروس، الذين يعرفون جيداً أن الحسم العسكريّ في سوريا لصالح النظام مرفوض أمريكياً، و غير ممكن رغماً عن أمريكا، فأمريكا بالطبع لن تترك روسيا تحسم الموقف في سوريا.. لأن من يحسم عادة يحسم لصالحه، و هذا ما ستفعله روسيا إن استطاعت، و أمريكا لم تفلسْ بعد في سوريا، و ما يزال لديها الكثير من الأوراق الوازنة لتلعب بها، و في مقدّمتها بالطبع ورقة داعش.
أمّا تودّد ترامب لبوتين.. و إعجابه به، فعدا عن الكياسة الدبلوماسية الشكلية التي ما يزال ترامب يبديها في محاولة لتلطيف الأجواء مع الروس، فالإعجاب ببوتين يمكن قراءته ليس كتنازل يقدّمه ترامب له، بل كرغبة منه بالتصرّف لتحقيق مصالح أمريكا بنفس أسلوب بوتين و الظهور بمظهر الرئيس الشرس القويّ، و ليس بمظهر المسالم الضعيف كأوباما، و هذا قد يكون له بعض الانعكاس على الأرض، و لكن من مخالفة المنطق التوقّع بأن تصعيداً ستبادر به أمريكا في أيّ وقت لصالح المعارضة السورية.. و أنها يوماً ما ستحاول تغيير موازين القوى أو العمل الفعليّ لإسقاط النظام السوري! هي لا تريد لهذه المعارضة أن تنتصر، ليس فقط لأن كفّة القوى الإسلامية فيها هي الراجحة بامتياز، وهذا بالطبع سبب جدّ هامّ، و لكن السبب الأهمّ – عدا عن استغلال الأزمة السورية في ما جرى الحديث عنه أعلاه - هو أن انتصار هذه القوى غير الناضجة لا يضمن المصالح الأمريكية في عالم متعدّد القوى و سريع التغيّرات.. بقدر ما تضمنه حالة تعدّد القوى، و إبقاء حالة الصراع بينها قائمة، و بذلك ستسعى أمريكا لإيجاد ما يشبه السيناريو المصري و لعبة العسكر و الإخوان، التي تسمح لها بالمناورة بين تعدّد الأطراف.. و تغيير المواقع، و ضرب الأطراف ببعضها عند اقتضاء الحاجة و اختلاف المصالح، و بالتالي فلعبة لا غالبَ و لا مغلوب ستبقى هي المطلوبة أمريكياً في سوريا سواء الآن أثناء الصراع العسكري.. أو في ما سيبنى عليه لاحقاً من تسوية تحوّله إلى صراع سياسيّ، و هذا بالطبع يقتضي من أمريكا المحافظة على حالة كافية من توازن القوى بين أطراف الصراع.
إن المنحى الذي عملت أمريكا على دفع المواجهة فيه في سوريا هو بشكل أساسيّ يستهدف روسيا و إيران، و الغاية الأساسية منه هو تقليص كل من النفوذين الروسي و الإيراني في سوريا إلى أبعد حدّ ممكن.. و إقصاؤهما إن أمكن، و هذا لن يتحقّق فقط عبر إلحاق أكبر قدر ممكن من الدمار بالبنية السورية، هذا غير كافٍ، و المطلوب هو التقليص أو الإقصاء بالمعنى الجيوسياسيّ، أي أن يتمّ ذلك على الأرض بشكل أساسيّ، وهكذا لن يكون الدمار البشري والاقتصادي و العسكري الذي ألحق بسوريا كافياً فيما لو حـُسم الصراع على الأرض لصالح النظام السوري، لأن روسيا و إيران ستبقيان جيوسياسياً في مكانهما على الأرض، حتى و لو كان نفوذهما سيصبح أضعف بضعف حليفهما السوري، الذي ستسعيان بالتأكيد لإعادة تقويته مع الأيام، و بالتالي لن يكون الإنجاز الأمريكي أكثر من إنجاز آنيّ، حتى و لو طال آنه بعض الحين.
بالنسبة لأمريكا النظام السوري الذي لم يكن يشكّل ثقلاً إستراتيجياً بالمعنى الاقتصادي و الصناعي و العسكري.. هو فقط ذو أهمّية إستراتيجية كحليف لروسيا و إيران، و لذا كان على سوريا أن تدفع ثمن هذا التحالف، و دفع هذا الثمن الباهظ، ما كان ليتمّ لو كانت البنية الداخلية في سوريا أقوى و أكثر تماسكاً و صحّة و صلابة، لكنها كانت جدّ هشة و حافلة بالتناقضات و التصدّعات، و هذا تتحمّل وزره بشكل أساسيّ سياسة القمع و الفساد التي انتهجها النظام السوري عبر عقود سيطرته على البلاد.. و يُضاف إلى ذلك بالطبع سياسة التعنّت و الغطرسة و اللجوء إلى العنف التي اعتمدها هذا النظام مع المعارضة الوطنية منذ بداية الأزمة، ممّا صعّد وعقّد هذه الأزمة إلى أقصى الدرجات و وصل بها إلى حالة الاقتتال، و كانت النتيجة أن كل القوى الطامعة و على رأسها أمريكا بالطبع.. استغلّت كلّاً من هشاشة و تردّي حال البنية السورية .. و حالة الاقتتال الناجمة، لتنتج قوى إرهابية متطرّفة تخدم مصالحها على حساب كل من النظام.. و المعارضة الوطنية معاً، و بالطبع كانت خسارة النظام من جراء ذلك فادحة، و خسارة المعارضة الوطنية أكبر، و هي الطرف الأضعف في حلبة الصراع.. إذ ليس لها من سند خارجي حقيقي على غرار كل من النظام و الجماعات المتطرّفة، و بالطبع كان الخاسر الأكبر في هذه المعمعة هي سوريا الشعب و الدولة و المجتمع.
و ماذا بعد؟
أمريكا لن تفرّط بأوراقها في سوريا، و روسيا تعي هذا جيّداً، و لذا تسارع لاستثمار الانتصارات العسكرية التي أحرزتها في بعض المناطق، و توظيفها في عملية سياسية تفاوضية مستفيدة أيضاً من تقاربها التكتيكي مع تركيا الذي تمّ بشكل أساسيّ نتيجة خلافات حكومة أردوغان و إدارة أوباما و لاسيّما في أواخر عهد أوباما.. إضافة إلى ما يبديه ترامب من رغبة في تحسين العلاقة الأمريكية الروسية!
فهل ستثمر هذه الجهود؟
هي بالطبع ستثمر فقط فيما لو تمّ فيها مراعاة مصالح كافة الأطراف الدولية و الإقليمية الفاعلة في الصراع على الأرض بالحدّ الكافي، فهل سيحدث ذلك؟
الكلّ يقول إن الحلّ في سوريا لن يكون إلا سياسياً.. و هذه كلمة حقّ، و لكنها حتى اليوم لم تكن أكثر من كلمة حقّ يقصد بها باطل في إطار عدم سعي الأطراف الفاعلة إلى حلّ حقيقيّ، و تركيز كل منها على مصلحته الخاصّة مهما كانت الأثمان.
هذا ما جرى.. و ما يجري حتى الآن على الأرض لا ينبئ بتغيّرات واعدة، لكن مع ذلك يبقى باب التوقّع مفتوحاً، و الصورة لن يطول بها الوقت حتى تتّضح أكثر.
لكنّنا يمكننا أن نستقرئ بعضاً من ملامح ما يمكن أن يحدث، و ما هي خيارات اللاعبين الأكبر في الأزمة السورية، أي أمريكا و روسيا.
بالنسبة لأمريكا هي تمكّنت حتى الآن كما يقول المثل من ضرب عدّة عصافير بحجر واحد، فهي أجهضت الحلم الأردوغانيّ بتحالف إسلاميّ شبه ديمقراطيّ تقوده تركيا، و هي قلّصت و بلبلت النفوذين الروسي و الإيراني في سوريا، و أجّجت نار الصراع العرقيّ و الطائفيّ في المنطقة، ممّا يزيد من عزلة إيران و يعزّز مكانة إسرائيل! لكن كيف ستمضي أمريكا ترامب في تعاملها مع الأزمة السورية؟!
بالطبع فكرة سوريا مستقبليّة حياديّة .. و خارج دوائر النفوذ الأمريكي و الروسي و الإيراني و التركي، ليس لها أيّة حظوظ على أرض الواقع، و هذه الحالة هي فوز بامتياز لأمريكا التي لم يكن لديها أيّة مصالح و لا أيّ نفوذ في سوريا، بخلاف بقيّة الأطراف و لاسيّما إيران وروسيا، اللتين عزّزتا و كثّفتا حضورهما العسكري المباشر في المناطق التي ما تزال تحت سيطرة النظام، و هما لن تتخلّيا عن هذا الحضور بأيّ شكل من الأشكال!
إذاً هل ستمضي أمريكا في الصراع.. و هو مفيد نسبياً من ناحية إلحاق المزيد من الدمار بالبنى السورية؟ لكن هذا الأمر له مخاطره الجمّة.. بعد أن دخلت روسيا الصراع بشكل مباشر، و للاستمرار في الصراع سيكون على أمريكا رفع مستوى الدعم المقدّم للقوى المعارضة.. بما فيها القوى المتطرّفة المصنّفة إرهابية من قِبَل أمريكا نفسها، و هذا سيجعل مسألة القضاء على هذه القوى الإرهابية أمراً بالغ الصعوبة حين ينتهي دورها، ناهيك أن دعم هذه القوى قد يخلق وقائع جديدة على الأرض ليست في صالح أمريكا، و الأهمّ من ذلك أن كل ذلك لن يجدي على الأرجح مع وجود روسيا في الميدان، و بالتالي سيكون على أمريكا الخيار بين أمرين كليهما جَلَل، و هما التدخّل المباشر في الأزمة.. و هذا سيضع أمريكا و روسيا في حالة مواجهة، و رغم أن خيار الصدام العسكري المباشر بينهما غير وارد حتى في هذه الحالة.. فمع ذلك هذه مغامرة بالغة المخاطر و باهظة التكاليف.. و غير معروفة النتائج، فإن استثنيَ هذا الخيار.. لن يكون أمام أمريكا إلا القبول بتقدّم روسيا على الأرض، و استعادتها المناطق التي خسرها النظام على غرار ما حدث في حلب، و هي بذلك لن تستعيد مناطق نفوذها و حسب.. بل سيكون ذلك معزّزاً بنصر معنويّ كبير.. تظهر فيه روسيا على الساحة العالمية بمظهر الفائز و أمريكا بمظهر المهزوم، وهذا لن يمرّ مرور الكرام على المصالح الأمريكية في مناطق أخرى من العالم، و سيكون له بكل تأكيد انعكاساته السلبية عليها.. ناهيك عن تداعياته على كل من الساحات الداخلية الأمريكية و الأوربية و الأطلسية.
يبقى إذاً الخيار الثالث و هو حلّ الأزمة عن طريق محاصصة الحضور و النفوذ، و رغم صعوبة ذلك على الأرض، فهذا الحلّ يعطي أمريكا إمكانيّة الاحتفاظ بشكل غير مباشر بالمناطق التي انتُزِعت من النظام السوري، لتكون مناطق نفوذ أمريكي، و هذا له فائدة مزدوجة، فإضافة إلى الحضور الأمريكي، فهذا يعني تقليصاً جيوسياسياً و إستراتيجياً لنفوذ كل من روسيا و إيران!
هل سيقبل الروس بهذا؟ على الأرجح نعم.. فهم لن يتوقّعوا من أمريكا السكوت إن حاولوا متابعة الحسم العسكري على غرار حلب، و رغم أنهم يستثنون خيار المواجهة المباشرة... فهم يعرفون جيداً أن بإمكان أمريكا أن تردّ عليهم في مناطق أخرى من العالم، إن لم تتمكّن من ذلك في سوريا، ناهيك عن أن أمريكا في سوريا تستطيع جعل كلفة النصر الروسي جدّ باهظة عبر رفع مستويات دعم كافة القوى المعارضة و الإرهابية، وهنا يمكن القول إن الروس لن يقدموا على مثل هذا الاستفزاز الخطير للأمريكان.. و سيكون على الطرفين أن يلتقيا على طاولة الحلحلة و الحلّ، و إن هم فعلوا ذلك.. فلن يكون بمقدور بقيّة الأطراف قطع الطريق عليهما، بل لن يكون أمام الآخرين إلا الجلوس بتبعيّتهما على نفس الطاولة، و على الأرجح يندرج لقاء بوتين و ترامب الأخير، وما نجم عنه من هُدَن في جنوب سوريا و ريف دمشق في هذا الإطار.
المحاصصة في الحضور و النفوذ لا تعني التقسيم بشكله المباشر، و لكن تعنيه بشكل ما بشكله غير المباشر، و هناك حالتان مجاورتان هما لبنان والعراق جرت فيهما مثل هذه المحاصصة و إن اختلفت الأشكال، و لذا فأغلب الظنّ أن سوريا ماضية باتّجاه الفَدْرَلة في أحسن الأحوال.
لكن ماذا عن بقيّة المكاسب الأمريكية.. كالتغطية على الأزمة الداخلية، و الضغط على إيران و استبدال الصراع العربي – الإسرائيلي بصراع سنّيّ- شيعيّ، و شرذمة الهويات في المنطقة؟
إن سيناريو تصدير الأزمة.. يمكن لأمريكا متابعته ضدّ داعش حتى بعد اتّفاق تسوية مع روسيا في سوريا، فهي أوّلاً يمكنها تبطيء عملية القضاء على داعش و أمثالها في كل من سوريا و العراق بالقدر المناسب لمصالحها، ويمكنها ثانياً متابعة سيناريو الحرب على داعش و بقيّة المنظمات الإرهابية بنفس الآليّة التي حاربت فيها القاعدة و طالبان لمدّة عقد تقريباً بعد احتلال أفغانستان و العراق.
أمّا موضوع الصراع السنّيّ- الشيعيّ و شرذمة الهويات، فما تحقّق منه على الأرض يحتاج إلى عقود ليزول، و مع بقاء هيمنة ثقافة الجهل و التعصّب.. المعزّزة بأنظمة التخلّف و القمع و الفساد في المنطقة، فسيستمرّ كلّ من الصراع و الشرذمة، فهذان هما نتيجة الظروف المتردّية على كافة الصُّعد في المنطقة العربية، و ليسا من إنتاج القاعدة أو داعش أو النصرة و أشباهها، بل على العكس.. فهذه التنظيمات الإرهابية هي من إنتاج الظروف الكارثية المُزرية في المنطقة.
في السياسة في لعبة القوى على كل المستويات مصالح و إمكانيات اللاعبين هي التي تحدّد حركاتهم، فيما لا تلعب الأطروحات الإنسانية و الأخلاقية إلا دور تجميل وجه المصالحة القبيح في أحسن الأحوال، و لذا لا قيمة لتحميل ذنب ما يجري لهذه القوة العالمية أو الإقليمية أو تلك، و إذا أردنا البحث عن مذنب، فسنجد أننا المذنبون الأكبر بحقّ أنفسنا، فهل سنعترف بهذا؟ و هل سنفهم دروس التاريخ المفرطة القسوة؟ أم سنتابع العماء و التعامي.. و نستمرّ في دفع أفدح الأثمان؟! و فيما يربح هذا شيئاً و يجني ذاك أكبر المكاسب، نكون نحن دائماً الخاسرين و بأسوأ الأشكال!