أميرة حويجة: السجن.. الذاكرة.. والنتيجة: أن تكون متفرّجاً أرحم من أن تكون فرجة

الفكر المعتدل بات ضعيفاً، أوّلاً لأنه فكرٌ مُساوِم أقرب إلى السلطة، وهذا ما يدركه النظام.
التطرّف الذي شهدناه بعد 2011 سبب وجوده هو الاستبداد وغياب التنمية
مجلّة صُوَر تحاور أميرة حويجة الناشطة في تجمّع نساء سوريا من أجل الديمقراطية، وعضو سابق في حزب العمل الشيوعي
حاورها: سناء إبراهيم
أميرة حويجة : ناشطة في تجمّع نساء سوريا من أجل الديمقراطية، وعضو سابق في حزب العمل الشيوعي، وسجينة سابقة في الفترة ما بين 1987 حتى 1991 .. أنجزت في العام 2006 كتاباً حمل عنوان (في القفص) تتحدّث فيه عن تجربتها في الاعتقال وعن الإنسان السوري وعن سوريا البلد ... أُنجز الكتاب لكنه ما زال حبيس الأدراج ، لم نقرأ الكتاب وأميرة نفسها أخبرتنا بأنها لم تعد لتستطلع صفحات الكتاب مرة أخرى، لكن الروائي المصري صنع الله إبراهيم يشجّعنا على قراءته عبر تعليق أرسله لـ أميرة : التعليق يقول: (الكتاب صادق جدّاً.. تابعي)
في حوارنا مع أميرة حويجة ... نتحدّث عن السجن .. الذاكرة والثورة ...
لنبدأ من النهايات .. أميرة حويجة أين أنت اليوم، إن كان على صعيد العمل في منظمات المجتمع المدني أو على صعيد السياسة ؟
بالمختصر .. أشعر بفراغ كبير، لكن أحاول قدر الإمكان أن أكون موجودة مع عمل المرأة ضمن مجموعات نسائية، وأحاول أن يكون صوتي كما هو ، بعيداً عن أي مخاطر انزلاق ، لأنه بالنسبة لي، لديّ بنية رصينة جداً، لا أستطيع أن أكون إلا أنا.
لهذا أنت اليوم بعيدة عن السياسة بالمعنى المباشر للكلمة؟
يمكن، أنا أعتبر العمل السياسي هو الأهمّ وهو الذي يقود عملية التغيير، لكن للأسف فإن حصاد سنين من القحط، قد أوصلتنا إلى أن يكون التيار الديمقراطي العلماني الذي أنتمي له، لم يعد له دور مؤثّر، وإذا وجد فهو في الغياب، وغير ذي تأثير، ليس غير مؤثّر فحسب بل بات تابعاً وملحقاً بالآخرين، وهذا يجعلني أبتعد عن العمل السياسي، فأنا لا أرغب في أن أتلوّث.
كيف ترين مايجري من حولنا اليوم؟ لا بد وأن ندخلك في السياسة.
لست راضية عمّا يجري، أحيانا أتساءل من هم هؤلاء الذين يظهرون على الفضائيات ويحكون باسم الناس، إلى أي حدّ لهؤلاء وزناً ، وماهي إمكانياتهم على تغيير الوقائع، العمل السياسي اليوم رهينة لأصحاب الأجندات والمموّلين، وليس لأصحاب النضال والاختبار والرأي، إذا استعرضنا كم خارطة طريق صيغت لسوريا منذ بداية الحراك إلى اللحظة، ومن الذي صاغها وشارك بها، سنرى أن الذين صاغوها ليس هم من دفع ثمن المشاركة، من صنع خرائط الطريق ومنذ اليوم الأول لم يكونوا من نزلوا إلى الشارع، في 2012 ابتدأ الكلام عن تقسيم سوريا والتسلّح وخريطة غرب كردستان وهي خرائط ليست سورية ، مع ذلك اعتمدها المثقفون والمعارضة، فابتعدوا عن الواقع، وربما مردّ ذلك إلى ضعفهم، وربما بسبب هجرهم للبلد والتحاقهم بالخارج، مهما كانت ثقافتك عالية، ومهما كنت متمكّناً، فحين تكون بعيداً عن المكان والأرض فأنت بعيد عن وجع الناس، الآن هنالك أشخاص في الخارج مازالوا يتحدّثون عن حراك ثوري، وفوق ذلك مازالوا يقولون: "نحن من يمثّل الحراك الثوري والسلمي"، أين هم هؤلاء؟ باتت التكتّلات السياسية تتباهى بماحدث قبل أربع سنوات دون النظر إلى المتغيّر، دون إدراك المستجدّ، يتكلّمون بما لاصدى له، ولا نبض له، ولا ساحة له، وعلى هامش هذه الكتل السياسية تظهر مشاريع من ائتلافات وسواها، يكونون في اجتماع عدد أعضائه 25 شخصاً لا يمثّلون سوى أنفسهم ويتحدّثون باسم الشعب، أظن أن هذا كثير على أن نتقبّله، قد يكونون شخصيات هامّة، ولكنهم بالنتيجة خارج البلد ولا يمثّلون سوى أنفسهم، وهؤلاء يرفعون في وجهك خارطة طريق.. لكن بالنتيجة، نحن على الأرض، وأظن أننا أصحاب تجربة ونعرف كيف نحلّل ونقرأ، فخرائطهم التي يعلنونها يمكن أن تُعلن دون مؤتمرات ولا أجندات دولية ولا سواها، هذا الكلام يجعلنا نبتعد، نبقى بعيدين.
لم لا تكوني أنت هذا الصوت.. صوت الداخل.. أنتم دفعتم أثمان مبكّرة، ومع ذلك تلتزمون الصمت.. أليست هذه سلبية؟
لا .. ثمة أصوات في الداخل، ولنا صوتنا، ولكننا لا نستطيع أن نؤسس لتنظيمات، العمل السياسي مازال محرّما في سوريا، لا نستطيع أن نكون منفتحين ونحن هنا، مع ذلك هنالك الآن كتلة سياسية، وهنالك تجمعاً يمكن أن يعلن نواة لتنظيم ما، لكن كيف سيعمل هؤلاء؟ هل هناك أية إمكانية لعمل علني كأن تطلق صحيفة أو إذاعة؟ العمل الصغير الآن لم يعد مجدياً، مهما قلت كلاماً صحيحاً فما قيمة كلامي إن لم يكن له منبره كإذاعة أو محطة تلفزيونية أو غيرهما؟ حتى لو مثلت صوت الناس.
دعينا نعود إلى حياتك الشخصية.. دعينا نبدأ من 1978 وصولاً إلى 1987.. أعني ما قبل مرحلة الاعتقال.
كان صهري معتقلاً، فانتقلت إلى السكن مع أختي، كنت طالبة بكالوريا، وكنت أقرأ من صغري وبدأت أحتكّ بالسياسيين، نشأت على قيم جميلة تتّصل بمجملها بالعدالة، وحب الناس، والتعاطف مع قضاياهم، حين سكنت مع أختي أصبحت أعيش مع نساء معظم أزواجهن في المعتقلات، نساء موجوعات كنت أتعاطف معهنّ وأرى بطلات، أزواجهن كانوا في خيالي، كانوا الرجال الذين قرأت عنهم في الكتب، وهؤلاء النسوة هن زوجاتهم، كنت صغيرة على دخول التجربة، كان نبض المقاومة قد أخذ الكثير مني، وابتدأت أستمع لاغاني الثورات كأغاني الشيخ إمام، كنت متحمّسة ولكنني كنت ما أزال صغيرة، في 1978 أُفرج عن صهري وخرج من المعتقل، وصار رفاقه المعتقلون المُفرج عنهم يأتون إلى بيتنا بصحبته، طبيعي أن تكون أحاديثهم فكرية – سياسية، وهذا أخذني إلى أماكن رُسمت لي لاحقاً، تعرّفت على (أحدهم)، وكان في حزب العمل الشيوعي، ابتدأ هذا الشخص يحكي لي عن تجربة التخفّي وكنت حتى تلك اللحظة لم أدرك ما معنى المعتقل، فكيف الحال إذا كانت التجربة تتعلّق بالتخفّي والحياة السرّية.. كنت أذهب في خيالاتي إلى رسم أبطال من المتخفّين، وبات هذا الخيال يصوغني.
ماذا كان عملكم في تلك الفترة؟ تنشطون بأيّ المجالات؟
أهمّ شيء كانت الاجتماعات الدورية، يأتي كادر يلتقينا مرة كل شهر، كنّا في خليّتنا المؤلفة من 3 أشخاص، كنا نقرأ كتاباً كل أسبوع، ونقارنه بالواقع.
من كانت قياداتكم في تلك الفترة؟
فاتح جاموس، أصلان عبد الكريم، كانا الأساسيين في الرابطة.. كان هذا الكلام قبل عام 1980. ثم جاء أشخاص آخرون، أنا عملياً كنت ألتقي بأصلان، كان هنالك نوع من المركزية، ومكتب عمل اسمه لجنة العمل، كان كتابنا المفضّل، ما العمل لفلاديمير إيلتش لينين، كان الكتاب يرشدنا إلى كيفية بناء الحزب، يعني (وبسخرية) كان علينا أن نبني الحزب الذي حكى عنه لينين منذ مئة سنة، خطوة خطوة بتنا نعرف كيف نفكّر وكيف نقرأ.
بالنتيجة ماهي المشاكل التي اعترضتكم؟ متى كان اعتقالك الأوّل؟
أنا اعتقلت 1987 .
بكير.
طبعاً بكير لكن، أنا لا أعتقد أن أحداً عاش في الحزب أكثر مني، عشر سنوات عمل حزبي قبل الاعتقال تُعتبر تجربة كبيرة، رفاقنا اعتقلوا في مراحل أبكر، قبل الثمانينات كانت الاعتقالات تمتدّ لسنة سنتين ثم يُفرج عنها، ولكن بعد أحداث جماعة الإخوان في الثمانينيات، ما وقع للإخوان، وقع للقوى الديمقراطية، من ناحية التعذيب ومدّة الاعتقال.
كم سنة اعتُقِلت؟
أنا لوحقت سنة واعتُقلت أربع سنوات، مرحلة التخفّي امتدّت من 1986 وحتى 1987 بعدها اعتُقلت حتى أواخر 1991.
كيف كانت تجربة الاعتقال؟
بعد أن انضممت إلى الحزب، بتّ أشعر بالنزيف، بدأت أتوقّع أن أكون من بين المعتقلين.
جاء دور البطلة.
جاء دور البطلة.. صح.. كنت في الجامعة وكنت قد تعرّفتُ على مضر (الذي هو زوجها الآن)، وكان لدينا نيّة للزواج ، تزوجنا في 1982 ، وفي هذا العام كانت حملة الاعتقالات الكبرى، ذلك بعد أن تحوّلت الرابطة إلى حزب، وكان معظم أعضاء اللجنة المركزية للرابطة قد جاؤوا من لبنان، وأصبح موضوع الاعتقال هاجساً، هنا قلت لمضر لا ضرورة لأن ننجب، لأننا عرضة للاعتقال، ولكننا أنجبنا طفلتنا "سنا"، ابتدأت أشعر بضغط الموقف، أنا حامل وهو متخفٍّ واحتمال اعتقالي وارد في كل وقت، بدأت أعيش ضغوطاً نفسيّة منذ ذلك اليوم، أُفرج عن مضر لأنه لم يثبت عليه شيء، المهمّ ولدت ابنتنا، وبعدها عاد مضر إلى التخفّي نهائياً، في هذا الوضع أصبحت أمّاً إلى جانب عملي، وبدأت حالتي النفسية تسوء وبتّ أخاف من أن أفقد أمومتي، هذا خوف تعيشه، ولكن ليس لكل الوقت، لا تدركه إلا حين تفقد أمومتك، في عام 1986 وكان عمر ابنتي 3 سنوات، كان هنالك نقاشات حول الاعتقالات، وكانت هنالك أنباء تفيد بأنني على قائمة المطلوبين للاعتقال، وطلب رفاقي مني التخفّي، ووقتها ذهبت إلى حلب، فعلاً تخفّيت وسرقتنا السكين كما يقولون، حملات اعتقالات واسعة وقلق.
داخل السجن، ما الذي حدث؟
داخل السجن بدأ التخدير يزول، أثناء العمل لا تشعر بالخسارة لا من داخلك ولا ممّن حولك، لم أكن أفكر بمضر، وقد اعتقل، ولا بابنتي، وأنا تحت التعذيب ابتدأت ردود الفعل، بدأت أفكّر بابنتي، كنت في الأيام الخمسة الأولى من الاعتقال وكنت في زنزانة انفرادية، لم أكن أفكّر بوجعي وأنا عائدة من جولة التعذيب، كنت منشغلة أين سيكون زوجي، كنت أفكّر بابنتي، وماذا تفعل؟ كيف تعيش؟ طبعاً اعتُقل زوج عمّتها أيضاً في أيلول 1987، هنا بدأت الأسئلة الموجعة..
ماهي الأشياء التي خسرتِها بعد أن تمّ اعتقالك؟ أو ماهي الأشياء التي تعتقدين أنك ندمت عليها بعد دخولك السجن؟
للآن لا أظن بأنني ندمت، ولكنني أستطيع القول أنني توجّعت، الضريبة التي دفعتها كبيرة، لست وحدي من دفع، مرت الأيام وكان فيها إضافة إلى الألم شيء من التسلية، كنا نضحك في السجن، من شدة الألم كانت أي نكتة صغيرة تدفعنا إلى الضحك.
كل ذلك كان في سجن حلب؟
نعم، ثم جاء ترحيلنا إلى فرع فلسطين، أثناء ترحيلنا كنا نغنّي للوطن، كانت كلمة فرع فلسطين الذي سيرحلوننا إليه يعني التعذيب الوحشي، رحّلونا إلى فرع فلسطين، وكنت مغمضة العينين، ومنه فرزونا إلى زنزانة مزدوجة، مكثت شهراً في فرع فلسطين، وبعدها رُحِّلت إلى سجن دوما، وبقيت هناك.
مابعد السجن.. كيف كانت النظرة الاجتماعية العامة إليك كسجينة؟
أمي كانت متوفّاة، أبي زارني مرة في المعتقل، أخي لم يزرني أبداً، أختي كانت (كأنني في الخارج، قامت بدوري تجاه ابنتي)، أقسى الزيارات التي أبكتني كانت عندما زارتني ابنتي سنا، في هذه الفترة كان هنالك الكثير من المراجعات ومن الأسئلة، صحيح أن الثمن الذي دفّعنا إياه النظام كان أكبر بكثير ممّا عملناه، لكن كان عملنا أيضاً عملاً سرّياً، وكان علينا أن نحميه أكثر ممّا حميناه، الآن لو عدنا للعمل السرّي فلن نعمل بالطريقة السابقة التي عملنا بها، مع أنني لم أعد أؤمن بالعمل السرّي.
تعالي نتكلّم عن مرحلة ربيع دمشق.
نحن خرجنا من السجن ما بعد البيروسترويكا، كان العالم قد تغيّر، تجربتنا كانت حقيقية وصادقة لكننا لم نكن نعرف كيف نعمل ولمن نتوجّه؟ مثلا: قبل الثمانين كان هدفنا إسقاط النظام، ولكن ماهي الإمكانيات لإنجاز مثل هذا الهدف؟ كانت تطرح مشاريع مهمة ولكنها غير مدروسة، بعد 1991 لم يعد ممكناً العمل بالطريقة التي كنا نعمل بها، في مرحلة ربيع دمشق انقسمت الناس، تشكّلت قناعات جديدة وتغيّرت المواقف، هنا ابتدأنا بتجربة المنتديات، كنت أتابع منتدى رياض سيف، وأحضر اللقاءات، بداية حضرتها بحماس، لكنها لم تُضِف لي شيئاً، مع ذلك تعرّفت فيها على شباب جدد كانوا يلفتون انتباهي، شيء ما كان يزعجني كثيراً في تلك الفترة، كنت أذهب إلى منتدى آخر هو محاضرات الدكتور البوطي، مرة ذهبنا إلى المنتدى ولم نجد مكاناً نجلس فيه بدءاً من الصالة وصولاً إلى الباحة، وهنا كانت المفارقة، كل الحضور كان من الشباب وكان سؤالي : لم الشباب للبوطي وليسوا لنا؟
أنا سأسألك نفس السؤال.. لماذا؟
لا أستطيع الإجابة ببساطة ولكن أستطيع القول إنه أصبح هناك مدّ ديني في البلد لم نكن نحسب له..
هل لهذا ارتباط بالتطرّف ما بعد 2011؟
الفكر المعتدل بات ضعيفاً، أوّلاً لأنه فكر مُساوم أقرب إلى السلطة، وهذا ما يدركه النظام، التطرّف الذي شهدناه بعد 2011 ليس راعيه الفكر المعتدل، ولكن سببه ووجوده هو الاستبداد وغياب التنمية، الناس التي خرجت للتغيير خرجت من الأرياف والهوامش، وكشفت إلى أي درجة بلدنا فقير في استيعاب هواجس الشباب ومطامحهم، خرجوا من الهوامش حيث لا تعليم ولا فكر ولا تنمية، هؤلاء بعيدون عن كل شيء، حتى عن الاعتدال الديني، هذه الأماكن كانت قابلة للانفجار وقد انفجرت.. هذا ما حدث.
الآن.. ما الذي تفعلينه؟ أنت منسحبة خارج الفعل السياسي بمعنى السياسي التنظيمي؟
أنا لست منسحبة، أنا مازلت في تجمّع نساء سوريا من أجل الديمقراطية، ولكن أشعر بنفسي أنني أتحوّل ببطء إلى متفرّج.
مُتفرّج؟
نعم أن تكون متفرّجاً أفضل من أن تكون فرجة.