المفاوضات...جنيف طريق الحلّ السياسيّ
أخذت الأطراف المتصارعة على الأرض السورية زمناً طويلاً حتى اقتنعت أنه من غير المسموح لها أن تحسم الصراع في الثورة السورية بقوّة السلاح، وأنه ممنوع هزيمة أحد الطرفين الآخر بالقوّة العارية.
لذلك عملت أطراف الرعاية الدولية على دفع هذا الصراع المسلّح نحو المفاوضات من خلال القرارات الدولية وفق بيان جنيف (1)، والقرار الدولي2254، والقرارات الدولية الأخرى التي تسهّل الوصول إلى العملية التفاوضية التي تعتمد الحلّ السياسي أساساً لحلّ القضية السورية عبر تعيين مبعوث خاص بالقضية السورية بدأت بالأخضر الإبراهيمي وكوفي عنان وصولاً إلى ستيفان دي مستورا، ويحاول الثالث حيث فشل سابقاه، وبالعودة إلى الصراع الميدانيّ إذ أوقف التدخّل الروسي عملية انهيار النظام في دمشق، وجعل من الروسي خصماً وحكماً في الآن ذاته، وبالقراءة الميدانية نجد أن الفصائل العسكرية المسلّحة المعارضة كانت تسيطر على نسبته أكثر من (70%) من مساحة سوريا، لكن التدخّل الروسي أعاد التوازن إلى عن هذه النسبة إلى ما يقارب (50%) مع تفوّق جوّي لصالح النظام والروسي جعل من التفاوض وسيلة رئيسية للوصول إلى تسوية سياسية تعتمد بيان جنيف (1) أساساً تفاوضياً قابلاً للحياة.
وكان لمعاناة المعارضة من الجانب التمثيليّ معاناتها الكبيرة حتى جاء مؤتمر فيينا في تشرين الأول(أكتوبر) من العام 2015م، لإيجاد حلّ سياسيّ، وتكليف المملكة العربية السعودية في استضافة مؤتمر الرياض لقوى الثورة والمعارضة السياسية مع عدد من الفصائل العسكرية في مؤتمر واحد، ولدى الهيئة العليا للمفاوضات ، وهي ليست جسماً سياسياً جديداً في ساحة الفعل السياسيّ المعارض السوري، وإنما هي تشكيل من مكوّنات أساسية في المعارضة، هدفها تحقيق حلّ سياسي وفق بيان جنيف(1)، لكنّ روسيا لم تعترف بالهيئة العليا للمفاوضات كممثّل وحيد للمعارضة السورية، وإنما أضافت إليها منصّتي "موسكو، والقاهرة" عبر القرار الأممي 2254، وربما تضيف في المستقبل القريب معارضات أخرى.
وهي تعمل على خطّ آخر، هو "مؤتمر الأستانا" حيث أوكلت إليه مع أطراف إقليمية (إيران ، تركيا) قضية وقف إطلاق النار في العديد من المناطق السورية، وكذلك قضية تبادل المخطوفين بين النظام والفصائل العسكرية، وملفّ المعتقلين السياسيين.
لكن رغم ذلك ما زالت العملية التفاوضية في كلا الخطّين "الأستانا، جنيف" في بداية مشوارها الطويل حيث يبدي النظام استعداداً تفاوضيّاً شكلياً، بينما يعمل على أرض الميدان الواقعي السوري مكمّلاً خطّته في الحسم العسكري، ويعلن أن سقف العملية التفاوضية هو حكومة وحدة وطنية بقيادته دون أيّ دخول في عملية انتقال سياسيّ.
المفاوضات السّلحفاتيّة:
مع كل جولة مفاوضات تشهد العديد من مناطق الصراع في سوريا تسخيناً عسكرياً عالي المستوى يصل إلى حدود إحراج الوفد المفاوض والهيئة العليا للمفاوضات من أجل تعليق مشاركتها في العملية التفاوضيّة، والتي كان آخرها في الجولة الثالثة من المفاوضات، والذي بدا كأنه فشل ذريع لخطّ جنيف ونهاية العملية التفاوضيّة، ومع العودة إلى المفاوضات في الجولة الرابعة بدأ إصرار الهيئة العليا للمفاوضات ووفدها على عدم توقّف العملية التفاوضيّة مهما كانت الظروف المحيطة بها، وتصميم الوفد المفاوض على مناقشة المبعوث الدولي"ديمستورا" في السلال الثلاثة، ومنها سلّة "الانتقال السياسيّ"، بينما أصرّ وفد النظام على إضافة "سلّة الإرهاب"، عملت روسيا على الترويج لمسار الأستانا على أنه الخطّ البديل لمسار جنيف التفاوضيّ، لكن موقف الهيئة العليا ووفدها الذي عدّ مسار الأستانا لوقف إطلاق النار بين الفصائل العسكرية والنظام، وبحث مع ديمستورا وفريقه قضيّة السلال الأربعة، وعمل على سلّة " الانتقال السياسيّ"، وبدأ ببحث مكوّنات هذه السلّة، في حين وضع وفد النظام ثقله وراء بحث سلّة الإرهاب، وكان ديمستورا وفريقه يبحث مع كلا الوفدين ما يريد بحثه سواء في سلّة "الانتقال السياسيّ" أو سلّة "الإرهاب"، ويضع كل وفد ما يريد في هاتين السلّتين ومع التقدّم الجزئيّ الذي شاب الجولة الخامسة بعيداً عن وسائل الإعلام.
كانت الجولة الجديدة (6)، لمسار الأستانا التي طرح فيها الجانب الروسي مشروع دستور بحيث يفرضه على مسار جنيف. وهذا ما كان في بداية الجولة السادسة في المفاوضات، إذ قدّم ديمستورا وفريقه اللجنة التقنية التشاورية في دستور المرحلة الانتقالية، وظهر على الإعلام رفض كلا الوفدين، بينما عمل وفد النظام من تحت الطاولة على تسليم أسماء فريقه في اللجنة الاستشارية الدستورية، شاب موقف الوفد التفاوضيّ والهيئة العليا للمفاوضات صراع سياسيّ حول صلاحيّات هذه اللجنة، وهل هي المخوّلة في إقرار نتائج عملها في الدستور الانتقاليّ أو الإعلان الدستوريّ؟!.
فكانت الإجابة تخلص إلى مقترح يتقاطع مع ما يقدّمه وفد النظام الاستشاريّ ويقدّم إلى الوفدين الرئيسين في التفاوض"المعارضة" و"النظام" ليدرسه مع ديمستورا وفريقه ويقرّرا ما هو صالح للتفاوض حوله. وبعد اجتماعات الهيئة العليا للمفاوضات في الرياض الأخير قدّمت الهيئة ووفدها أسماء الفريق الاستشاريّ الفنّي الدستوريّ، وبدأ اجتماعاته الاستشارية الدستورية في جنيف أواسط شهر حزيران من العام الجاري.
الواقع والطموح التفاوضيّ:
إن الرعاة الإقليميين استطاعوا الوصول إلى حدّ أدنى من التفاهمات حول القضية السورية خصّيصاً في مسار الأستانا، بينما الرعاة الأساسيّين في جنيف لم يتقدّموا بذات الاندفاع في الأستانا، وذلك يعود إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية أحد الرعاة الكبار في العملية التفاوضية والتفاهمات حول سوريا ليست جاهزة في هذه المرحلة. والأمم المتحدة دورها هو مراعاة المصالح القائمة على التوازن في التفاهمات بين الولايات المتحدة الأمريكية، والروس الآن وما يمثّلون في السياسية الدولية تجاه القضايا الإقليمية .
إن ما يحصل إلى الآن في جولات المفاوضات هو محاولة لإيجاد أساليب وطرائق للحوار والنقاش والتفاوض للوصول إلى حلول قائمة على موازين القوى تقع في الوسط، وليس الانتصار لطرف على طرف, واعتماداً على قرار مجلس الأمن 2254 في العام 2015، الذي دعا إلى اتّخاذ سلسلة من تدابير بناء الثقة من جانب الأطراف, بما في ذلك إتاحة إمكانية وصول المعونات الإنسانية بدون عوائق وإطلاق سراح المعتقلين, على أنه لا تزال هناك فوارق هامة بين الأطراف فيما يتعلّق بمصير بشار الأسد خلال الفترة الانتقالية وما بعدها.
وعلى الرغم من القرار والتوافق الدولي بدعم قوة الدفع في العملية السياسية الدبلوماسية, فإنه يجب تحقيق تسوية معيّنة كي تحقّق المفاوضات في جنيف التقدّم المطلوب لاستمرار العملية التفاوضية لذلك يمكن القول إن مسار جنيف مسار هامّ جداً لتحقيق آلية لتنفيذ القرار 2254 ذاته, وإفشال مسار جنيف هدفه القرار ذاته وليس مسار جنيف.
لأن هذا المسار هو أداة من أدوات تنفيذ القرار , وجوهر القرار 2254 هو المفاوضات والمحادثات السورية- السورية، التي تبدأ بزمن محدّد وتنتهي بزمن محدّد, وهذا الزمن المحدّد هو ستة أشهر, وحتى الآن لا يوجد تحديد زمني لبداية العملية التفاوضية بين السوريين ذاتهم، فما يجري إلى الآن في كل المسارات سواء مسار الأستانا أو جنيف بدون سقف زمني محدّد, وإنما الزمن بالنسبة للعملية التفاوضية ما زال مفتوحاً، ولم تبدأ عملية بناء الثقة وتدابيرها المقترحة, ومع تثبيت ما تمّ الاتّفاق عليه في اللجان الفنية بعد جولتها في أواسط شهر حزيران من العام 2017, يأخذ جنيف شكلاً جديداً في استدامة العملية التفاوضيّة, وهذا ما قد يسرّع في الوصول إلى توافقات واضحة.
ومن خلال هذه اللجان الفنية التي بدأت عملها تشارك منصّتي "موسكو والقاهرة"، إلى جانب وفد الهيئة العليا للمفاوضات, وبالتالي بدأنا نشهد تحرّكاً في صفوف المعارضة لإنتاج آلية عمل مشتركة تضمّ المعارضة في حضور فيزيائي موحّد نحو تشكيل لجنة مشتركة لكل وفود المعارضة لبحث القضايا الفنّية، وهذا لا يلغي الآن وجود الوفود المختلفة المستقلّة عن بعضها البعض، لكنه يفتح المسار في المستقبل لتشكيل الوفد الواحد عند بدء المفاوضات المباشرة بين وفد النظام السوري والمعارضة السورية.
أخيراً إن العملية التفاوضيّة في إطار الحلّ السياسيّ الذي ينشده السوريّون سواءً في المعارضة أو النظام إلى جانب الرعاة الدوليين والمجتمع الدولي ممثّلاً بمجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة يقوم على وقف الحرب وبدء المرحلة الانتقالية من خلال فهمين متناقضين لدى المعارضة والنظام (حكومة وحدة وطنية)، والتوجّه بعدها لمكافحة الإرهاب المتمثّل في (داعش، والنصرة، وأخواتهما)، وبينما النظام وحلفاؤه يضعها أولاً، يحتاج إلى مخاض طويل وعسير طالما أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست في صلب وقلب العملية التفاوضيّة.
لكن ما يجري الآن هو عملية إعداد الملفّات للتفاوض الواقعيّ والحقيقيّ عند الوصول إلى تسوية المصالح بين الروس و الأمريكيين. فهل ذلك بقريب؟!