ذاك القلب.. صاحب السعادة الحزين
أهمّيته بحضوره، رجل طليق اليدين، هو هكذا بين بشر مكبّلي الأيدي، ومغلولي الأفواه، هذا هو تعريفي لبرهان بخاري، الشاهق، المتحرّك، الودود، والمغرور أيضاً حتى قال لي ذات يوم:
ابتدأ الحديث بالبخاري، وسينتهي بالبخاري.
وكان يقارن ما بينه وبين ذاك الـ "بخاري" الناطق الرسمي باسم الرسول.
لعب في المساحة الضائعة.. حدث ذلك يوم قرأ أحاديث الرسول، لا أعرف على وجه الدّقة كم حديثٍ سجّله البخاري الأول عن رسوله.. أظن أن مجموع ما سجّله من أحاديث تجاوزت مقدرة آلة ناطقة لا تكفّ عن الكلام.. آلة لا تنام، لا تأكل، لا تستحمّ، لا تلتفت إلى وسائد تسع زوجات.
وكان على بخاري الثاني (برهان)، تنقية الحديث الرسولي، مستنداً إلى مقاييس اللغة، الإسناد، العقل، فشحّلها حتى باتت الأحاديث إياها أقل من كمشة كلام، وكانت المجازفة، وأي مجازفة وقد ارتقى ناقل صوت الرسول الأول إلى مرتبة التنزيه، بين بشر، يبحثون عن النزاهة دون أن يملّوا من استخدام الساطور.. وكان بين ناري العمامتين وعمائهما:
العمامة السنيّة، وعمامات الملالي.
وحين يكون الخصم برهان، فعلى المتصارعين توحيد الجبهات.
هذا هو برهان بخاري، وهو من أوائل من أدخل "الكومبيوتر" إلى الشام، حتى كدنا ونحن نلعب على أصابع الكيبورد، وكأننا نلعب بأقدام كليو باترا، أو بفروة رأس بونابرت، وفوق هذا وذاك كان علينا أن نقرأ القرآن، ثم لا نلبث أن نعطي فسحة لعرق الريّان، ومعهما عبد الباسط عبد الصمد، الخليق بأن يكون مرتلاً لأمّ كلثوم، والمسؤول الحصري عن ارتفاع منسوب الحشيش والمزاج.
مزاج من؟
مزاج بشر اعتادوا الرفض.
رفض أيّ شيء، أيّاً كان، وهم يقذفون أقدامهم نحو فردوس لن يكون.
مات برهان.. بلا كتاب (ما قبله غير ما بعده)، بلا مسرح يرفع الستارة عمّا يؤرّخ لمسرحي يدخل التاريخ، وبلا قصيدة وهو الزعيم الأوحد لشعراء البلد، بدءاً من الماغوط مروراً بممدوح عدوان وصولاً لعلي الجندي، وما بينهم من شعراء يلتمسون رضى الطريق ومغفرة الله.
مات برهان وكأسه بيده، هو هكذا رجل مُصمّم ليموت كما يشاء هو لا كما يشاء الموت.
مات، ولم يكن له كما كان لسلفه البخاري الأول.. ليس له رسوله، فقد كان يتأرجح ما بين الصعلوك والرسول.
شيء ما فيه، يأخذك لنجيب سرور، بفارق بسيط، ولكنه الفارق الأكثر قتلاً للموت:
نجيب قتلته الخيانة فداواها بالسُكر.
والثاني لم يُخن، فسكر ليُخان.
الأول خانته المرأة، وليس ثمة إذلال يساويه.
والثاني خانه الأصدقاء، وهي الخيانة المقدور عليها، تلك التي لا توصلك إلى حوافّ الانتحار.. سقفها العتب على الصديق.
وكلاهما عاثا بي.. حتى كدت أن أموت مع الأول لأنه مات، وأن أحيا مع الثاني كي لا يموت.
وكلاهما مات.. يا للموت، تلك البضاعة المخزية التي يتساوى في ارتدائها الفارس والصرصار.
الموت إهانة.. سمعتها من اثنين.. من عزمي موره لي، ومن برهان بخاري، وكأنهما تلميذان كسولان يتلصّصان على أوراق بعضَيهما في امتحان النجاة.
- ألم أقل لكم أن الموت كلب؟
كلب شهي، عضّ بأنيابه، الصدر الهائل لمارلين مونرو، بأنيابه التهم المتنبّي، أبو العلاء، شارلي شابلن، داليدا، سعاد حسني، وحتى جوزيف ستالين، فما بالك بأنيابه وقد انغرست بقافلة من صحابة الرسول؟
لا.. بل حتى الرسول نفسه لم ينجُ من عضّة هذا الكلب.
اليوم ربما ذكراه.. أعني ذكرى برهان.
نعم.. رجل يموت دون (سي في).. ولِمَ يكون (السي في)؟
(سي في) كأن نقول:
الاسم مسبوقاً بحرف الـ (د)، ذلك الحرف الحيوان الذي يوطّد التلامذة المجتهدين، حفظة الدروس.
أو بصفة العالِم.
ولا بصفة الرفيق.
نعم مات بلا لقب.
لا الاستاذ يتّسعه.. لا أفندم يليق به.. ولا باشا، ولا حتى صعلوك.
هو الأستاذ والأفندم والباشا والصعلوك، وهو:
القلب، صاحب السعادة الحزين.
مات برهان بخاري من زمان.
ما أسخف أن نحتفل بالأموات.. ما أسخف ألّا ننساهم.
أدعوكم للنسيان، أنا المسكون بموت :
نجيب، إكرام، برهان، ناصر، وموت ذاك الوعد الذي كان عليه أن يموت.