info@suwar-magazine.org

آكيتيا .. قصّة الأرض والهويّة

آكيتيا .. قصّة الأرض والهويّة
Whatsapp
Facebook Share

 

"أرخى الليل رطوبته الثقيلة على أرواح الكائنات المرئية في أرض البداءة، وأتاح للأرواح اللامرئية  خفّة التسلل لغزو الأحلام، ونامت ريح خريف بارد الأوصال، في فراش رماديّ داكن، نوماً متقطّع الأنفاس، وتعب الرمل الجفول من ملاحقة حلمه الغامض على أشرعة الريح، واستراح في حضن أمه الدافئ. وحدها القلوب الشقية ظلت ساهرة تُحكم التوازن القلق لعلّة الخلق في معادلة الحياة والموت" ... هكذا افتتح الكاتب جاد الله الجباعي روايته آكيتيا، الغنية بالرموز والإشارات والعلامات التي تُدخل القارئ والقارئة في عالم مسحور، لا تلبث اللغة أن تفتح باباً من أبوابه حتى تسدّ أبواباً أخرى. اللغة المترفة تبدو بطلة الرواية كما في روايات سليم بركات. 

عندما تتكثّف اللغة تتوهّج المعاني وتفيض الدلالات، فتغدو الكتابة كأنها فن تقطير الكلمات للحصول على روح اللغة (إسانس) أو لغة الروح، التي تنفتح على فضاءات رمزية وأسطورية تتصادى فيها آلام المحرومين من حقوقهم، والمقتلَعين من أرضهم. هذه اللغة تضع العقل أمام تحديات التحليل والتركيب والاستقراء والاستنتاج والتأوبل.

آكيتيا، رواية للكاتب السوري جاد الله الجباعي، صدرت عن دار الحصاد بدمشق، عام 2011. وله قبلها رواية "أفاريز الشبابيك الوهمية"، صدرت عن الدار ذاتها.  

        تتناول الرواية مسألتين مختلفتين، المسألة الكوردية، ومسألة النازحين من الجولان السوري المحتل، وهما نموذجان لمسائل مشابهة في أماكن أخرى وأزمنة أخرى، لكن الكاتب لا يتناولهما من الجانب السياسي، بل من الجانب الإنساني، على الرغم من خضوع أبطال الرواية لسلطة أمنية لا تكفّ عن مراقبتهما وإذلالهما، تحت اسم خدمة الشؤون الاجتماعية، فتفقد الحياة معناها في نظرهما ويستقيل الأنبياء من نبوءتهم.

آدم الكردي محروم من الجنسية السورية أسوةً بمئات آلاف الأكراد الذين جُرّدوا من جنسيتهم بإحصاء عام 1962، ولا تزال قضيتهم معلقة حتى اليوم، وسمعان الجولاني مُقتَلع من أرضه منذ هزيمة حزيران عام 1967، كأن الكاتب يريد أن يقول في روايته، أن الأرض والجنسية متعادلتان في القيمة، وهما في المضمون تساويان الهوية والوطن، وإلّا لماذا نطلق على الفرد صفة السوري أو المصري أو الأوروبي لولا ارتباط معنى الهوية بالأرض، ولولا أن الهوية تبرز سمات الأفراد الشخصية؟ يتبادر إلى الذهن سؤال ذو أهمية: لو كان آدم الكردي متمتّعاً بجنسيته وما يرتبط بها من حريات وحقوق مدنية هل كان يمكن أن يُقتلع سمعان من أرضه ويحرَم من حقّه فيها؟

        سمعان وآدم مشتركان في المعاناة والفقدان، مشتركان في ضياع الذات والهوية، لا الهوية الوطنية فحسب، إنما الهوية الإنسانية، هوية الوجود، لكن آدم منفيّ من الوجود، لا سمات شخصية، ولا هوية ولا أرض، وكذلك سمعان، على الرغم من اختلاف الأسباب التي أدّت إلى هذه المعاناة. 

        لم يكن اختيار الكاتب لأسماء روايته اختياراً كسولاً، أو اعتباطياً، إنما هو اجتهادٌ في دمج الأسطورة بالواقع، إذ لكل شخصية دلالتها الرمزية ونظيرها الأسطوري: "آدم" الإنسان وآدم أبو الأنبياء، ولد من غير دين أو مِلّة، ومن غير قومية أو جنسية أو وطن، فكان الكون وطنه حتى ظهور المُلك فصار شقيّاً، معادله الواقعي آدم الكردي المعذب الذي لا ينتمي إلّا إلى الشقاء والعدم. وسمعان العمودي الرمزي، الذي بقي جالساً متنسّكاً فوق عموده طيلة أربعين عاماً، محروماً من متاع الدنيا ومتعها، نظيره في الحياة المعيشة، سمعان الجولاني وحقه المغتَصب.

أحيقار البصير ملك الحكمة، مجرّد شاهد على المعاناة الإنسانية وواقع اللاعدالة، فأين الحكمة في اغتراب الإنسان عن إنسانيته، وأين عدالة السماء والأرض في المساواة بين البشر؟ أبو العلاء المعري، بخلاف أحيقار عرَف الحدود بين الوجود والعدم، وبين العدالة والظلم، فحمّل الأنبياء مسؤولية شقاء البشر. استحضار كل تلك الشخصيات هو استحضار للوجود من قلب العدم، ورفض للواقع الذي صار عدمياً، يستهتر بالحياة الإنسانية وينتهكها.

آكيتيا ابنة آدم، يدلّ اسمها على رأس السنة الكردية حسب ما ورد في الرواية، حائزة على إجازة في الحقوق، لكن شهادتها لا تعني شيئاً ما دامت مأخوذة بذنب أبيها أنه كردي، - الإنسان مذنب في نظر السلطات المستبدة حين يولد من قومية تخالف قوميتها- فلا يحقّ لآكيتيا العمل بشهادتها ولا المطالبة بأبسط حقوقها. هل على الأكراد أن يعتذروا عن كونهم أكراداً، لكي يُعترف بإنسانيتهم وحقوقهم؟!

"الغبيرة"، قرية صحراوية حدودية، تشبه ساكنيها في البحث عن ذاتها، الشمس فيها مخاتلة والظل أيضاً، مليئة بالغبار والدخان اللذين يفقدانها ملامح وجهها الصباحي، لم تكن الغبيرة إلا وعاءً لمن فقد هويته الإنسانية تحت مراقبة السلطة السياسية التي لا تغفل عن شيء، فقد مات سمعان داخل مكتب الخدمة الاجتماعية وهو في الحقيقة فرع أمني يلتقط الأخبار ويراقب الأفراد ويدّعي ويحكم على هواه. كان سمعان يراجعه يومياً برفقة آدم لإثبات عدم مغادرتهما مكان إقامتهما الجبرية، يترأّس هذا الفرع مساعد أول يدعى أبو نزار السمين، صاحب الكرش المنتفخة من الابتزاز. مات سمعان مقهوراً، مبتوراً، مات ذليلاً، وماتت إنسانيته في فحوى السؤال: "أين كنت حتى الآن يا سمعان؟،  تكرر السؤال مرات ومرات: سبعة أيام يا سمعان، زمن خلق كامل، أين كنت في تلك الأيام السبعة؟

ردّ سمعان بكلمة واحدة: لم أكن. (...) كنت ميتاً على سطح بيتي، في ظل تينة إن شئت. .. نام سمعان وفارقته رائحة الجسد.

المسألة الكوردية مسألة مزمنة، كالمسألة الوطنية في الجولان، لا يزال حلّهما على جدول أعمال التاريخ، وما يجري بين الكورد والعرب في سوريا والعراق وفي غير مكان دليل واضح على تعايش هشٍّ وملغوم، فاجتماع سمعان وآدم في الرواية، هو وصل بين قوميتين مختلفتين لا تعترف أيّ منهما بالأخرى، ولكن ما يوحّدهما أقوى من النزعات الإثنية والتعصّبات والحماقات الأيديولوجية. التجارب الإنسانية مشتركة بين البشر على اختلاف لغاتهم، فعلينا أن نتعلم فنّ الانتقال من الضجيج إلى الكلام، والكلام إنتاج للمعنى، وإنتاج للقيمة أيضاً، وأن نتعلم فنّ الانتقال من الإيمان إلى التفكير. أي أن نتعلم فنّ الانتقال من التبعية إلى الحرية. الإيمان يستبعد الآخر بداهة، أمّا التفكير فيستحضره ضرورة، وعلى هذا الاستحضار، استحضار الآخر والاعتراف بحقّه في الاختلاف، يتأسس التسامح، حسب تعبير جاد الكريم الجباعي.

لم تغبِ الأنثى من الرواية، فهي في نظر الكاتب، سيدة المكان وسيدة الزمان، وسيدة الحضور في لحظات الغياب، فهي التجدّد والانبعاث المتمثل في آكيتيا، وصلة السماء بالأرض، المتمثلة بزوجة آدم المتوفاة والتي لا تكفّ عن مناجاته:

"اصحَ يا آدم لا تنم، انظر إلى صدر السماء ستراني، أنا نجمة الصبح البهية، قلادة النور على صدر الليل الساحر، وربة السحر(.....) أنا روح بابل ورائحة عدن، نوّارة النور ومُقل الربيع الضاحك (...) أبي أسماني درّة السماء، وأمي أسمتني زبد البحر، كُتب اسمي برائحة الفاكهة الشهية وصلبان السعف، وممالك الزوال أنكرتني". الغبيرة والجولان كالنساء أنكرتهما ممالك الزوال.

        "كان مساء وكان صباح يوم ثان" هذا الإيقاع التوراتي الذي استخدمه الكاتب، يرمز إلى عبثية الوجود بين قطبين متناقضين في حياة واحدة، في معادلة الحياة والموت، العدالة والظلم، الخير والشر، والنور والعتمة.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard