تفكّك المجتمع أم تفكّك السلطة
نفترض، في هذه المقاربة، أن تشظّي السلطة هو السبب المباشر في تفكّك المجتمع، سواء في ذلك المجتمع الصغير / المجتمعات الصغيرة، أو المجتمع الكلي. وهذا لا يقتصر على السلطة السياسية (العامة) وحدها، بل يتعدّاها إلى جميع أنواع السلطة وأنماطها. إذ كل سلطة تنتج مقاومة، قد تتحول، في شروط غير ديمقراطية وغير إنسانية، إلى سلطة مضادة أو مقابِلة ومعارِضة. ينطبق هذا على السلطة الأبوية والسلطة التعليمية والسلطة البطركية، والدينية منها خاصة، وعلى السلطة السياسية. فمن دون هذه المقاومة التي تنتجها السلطة لا يستقيم تفسير التمرّدات الصريحة والمباشرة والمواربة وغير المباشرة، ولا تفسير النزاعات العائلية والعشائرية والانشقاقات المذهبية، وظهور المِلل والنِّحل، ولا يستقيم تفسير الانقسامات الحزبية والنزاعات السياسية. ويمكن القول: إن أشكال ممارسة السلطة تعيِّن أشكال المقاومة والمعارضة، ومدى توازن الحياة الاجتماعية والسياسية وتماسكها.
لا تذهب هذه المقاربة المذهبَ التقليديَّ الذي يقسم المجتمع والعالم قسمين: حاكمِين ومحكومين ومحكومات وظالمِين ومظلومين ومظلومات، أو فاعلِين وفاعلات ومنفعلِين ومنفعلات، بل تفترض أن كل علاقة اجتماعية تولّد سلطة، تتحدّد هذه السلطة بمدى توازن العلاقة وتكافؤ طرفيها أو أطرافها. فالعلاقة المتوازنة بين زوجين متكافئين، على سبيل المثال، تنتج في الأسرة النووية، سلطة تنظيمية وتوجيهية، معرفية وأخلاقية، غير تلك التي تنتجها علاقة غير متوازنة بين زوجين غير متكافئين، وهكذا في جميع المستويات. فلا يمكن معرفة الحاكم معرفة موضوعية إلا من خلال محكوميه، ولا نستطيع معرفة الظالم معرفة موضوعية إلا من خلال مظلومه، أي من خلال العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبين الظالم والمظلوم، بما هي علاقة سلطة.
تستند هذه الفرضية على معطَيين: وجودي (أنطولوجي) ومعرفي – أخلاقي. أولهما كون السلطة ضرورية ضرورةً تاريخية، إلى أمد غير معلوم. ولكن لا ضرورة بلا حرية. الحرية تضع الضرورة، وتعمل على تفكيكها وإعادة إنتاجها مرة تلو مرة. والثاني كون الحرية مقترنة بالمسؤولية أو لا تكون حرية مدنية. صفة المدنية هنا هي ما تنزع عن الحرية قشرتها الميتافيزيقية، وتدمجها في التجربة الإنسانية.
وكنا قد أشرنا منذ وقت غير قصير (قبل عام 2011) إلى تشظّي الحقل السياسي الوطني في سوريا، نتيجة تبعيث الدولة وتبعيث سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، جزئياً أو كلياً، وتبعيث الجيش والأجهزة الأمنية بوجه خاص، وهدر عموميتها وقوام وطنيتها، وإنتاج نمط جديد من السلطة يرتكز على العلاقات الاجتماعية التقليدية ويعيد إنتاجها، بعد تفكيك منظومتها الأخلاقية بعوامل التسلط والاستبداد والفساد والإفساد، تحت شعارت اشتراكية قومية فارغة من أي محتوى معرفي أو أخلاقي. فإن ضمور عمومية الدولة أو تلاشيها، ومن ثم ضمور عمومية مؤسساتها أو تلاشيها، يعني تشكّل سلطات موازية، ومؤسسات موازية، تعبّر عن تشقق الحياة الاجتماعية وجفاف نسغها الإنساني، فتكفّ الدولة، وهذه الحال، عن كونها دولة، وتكفّ مؤسساتها عن كونها مؤسسات عامة. وهذا مما يفضي إلى نتيجة من أخطر النتائج، التي لم نتنبّه إليها باكراً، هي انقطاع الحيوات الخاصة للأفراد والجماعات عن حياتهم العامة أو النوعية، التي تجسدها الدولة أو الجمهورية. وحين يحدث هذا، وقد حدث في سوريا باكراً، تتهتّك الروابط المدنية، وما قبل المدنية أيضاً بين الأفراد والجماعات، وينزلق المجتمع شيئاً فشيئاً، إلى أسوأ ما في تاريخه، أي إلى ما سماه هوبز "حرب الكل على الكل"، و"الإنسان ذئب الإنسان"، أو إلى "حارة كل مين إيدو إلو" ومبدؤها الأخلاقي غير الناظم: "دبّر راسك"، الذي يفتح أبواب الفهلوة والشطارة والانتهازية والكذب والتدليس والنفاق، باب السينيكية أو الكلبية.
نشير بوجه خاص إلى ثلاثة أنماط من السلطة السائدة في بلادنا، منذ عصور، والتي يُعاد إنتاجها باطّراد، في سياق إعادة إنتاج المجتمع البطركي والنظم السلطانية: السلطة الأبوية والسلطة البطركية والسلطة الكلبية، نعني سلطة المستبد "الحديث" العارية من أي قيمة اجتماعية وإنسانية. ونعتقد أن السلطة الأخيرة ما كان يمكن أن تكون كذلك، لولا تشظّي السلطتين الأبوية والبطركية، من دون أن تتغير القواعد الأساسية لإنتاجهما، وهو ما يفسر حالة التذرّر أو التنثّر الاجتماعي، التي يمكن معاينتها بالملاحظة المباشرة، ويفسر من ثم طبيعة ما يسمى "التحولات الاجتماعية - الاقتصادية"، التي لم تفضِ إلى تشكّل مجتمع مدني حديث، ما جعل بلادنا في برزخ بين بين، لا هي داخل الحداثة، ولا هي خارجها، تتضافر فيها مثالب الحداثة ومثالب التقليد، نعني بهذه المثالب هدر الكرامة والشرف وهدر الإنسانية. (نستعير مفهوم الهدر من مصطفى حجازي)
وإذ تلتبس مفاهيم المجتمع الأهلي، التقليدي، والمجتمع المدني، الحديث، ويلتبس من ثم مفهوم المؤسسات، ونسبتها إلى هذا أو ذاك، على نحو قطعي وتفاصلي، يؤدي إلى تشكّل نظيمتين أيديولوجيتين، تقليدوية وحداثوية، متفاصلتين .. نفترض أن المجتمع الأهلي يحمل جنين المجتمع المدني، بحكم التعارضات الاجتماعية الملازمة للاجتماع البشري، في كل زمان ومكان، ومنجزات الفكر الإنساني والخبرة الإنسانية، على اعتبار هذه التعارضات هي محرك التاريخ الاجتماعي - الاقتصادي والسياسي، وعلى اعتبار أن المجتمع ليس ما هو عليه فقط، بل ما يمكن أن يكونه أيضاً، لأنه بنية ديناميكية لا تعرف السكون والثبات. ولذلك ننطلق من رؤية تواصلية للمجتمع ومؤسساته، تضع عملية التعقيد أو التركيب الاجتماعي، وقواعد إنتاج السلطة، في حسبانها. فالتحليل الاجتماعي الأكثر نجاعة وجدوى هو الذي ينطلق من البنية الاجتماعية المعقدة أو المركبة هنا والآن، ويستشف ممكناتها أو يستكشفها، ثم يعود القهقرى وصولاً إلى العناصر البسيطة، التي يمكن أن تسهم في ترجيح ممكنات على حساب ممكنات أخرى.
نقصد بالعناصر البسيطة ما يسميه ميشيل فوكو "ميكروفيزياء السلطة"، أي علاقات القوة الأولية، التي تنشأ من العلاقات التواصلية / التفاصلية المتبادلة بين الأفراد والجماعات، ونقاطها المبثوثة في الجسم الاجتماعي، من جهة، وجنيالوجيا المعرفة، أي المبادئ الأولية التي تشكل أنماط التفكير ومنظومات القيم، بالتلازم الضروري بين هذه وتلك، من الجهة المقابلة؛ إذ السلطة معرفة مموضعة، لا تتحدد بطبيعة موضوعها فقط، بل بإرادة السيطرة عليه أيضاً، بدءاً من السيطرة على الطبيعة الأولية، وعلى الطبيعة البشرية تالياً. هذه الإرادة، إرادة السيطرة أو إرادة السلطة، ولا فرق، مكنونة في المعرفة، وتنبثق منها، فتستقل عنها، لكي تعيد إنتاجها وإنتاج ذاتها فيها.
العلاقة المركبة بين المعرفة والسلطة هي، من أحد وجوهها، العلاقة المركبة بين الحرية والضرورة؛ الضرورة مكنونة في الحرية وتنبثق منها، حسب نظرية الكاوس أو الفوضى، ونظرية اللاتحديد أو اللايقين، فتستقل عنها لكي تعيد إنتاجها وإنتاج ذاتها فيها مرة تلو مرة. السلطة ضرورية، ومن إنتاج العلاقات الضرورية بين الأفراد والجماعات، ومقاومتها ضرورية بالقدر نفسه، وإلا فلا تحسّن ولا تقدّم. وعي ضرورة السلطة هو شرط مقاومتها، من أجل إعادة بنائها على مبادئ المساواة والحرية والعدالة، ولكي لا تفضي مقاومتها إلى الفوضى والعدمية، على نحو ما أفضت إليه في سورية.
فالتفكّك الاجتماعي والتحلل الأخلاقي اللذين أصبحا من أبرز مظاهر الحياة في سوريا نتيجتان مؤكدتان من نتائج تفكّك السلطة، وتحولها التدريجي لا إلى سلطة / سلطات توتاليتارية فقط، بل إلى سلطة عدمية ومعارضة أو مقاومة عدمية، يمكن أن يتحول يأسها إلى "شجاعة"، وقد تحول بالفعل في الحرب التي لا تزال مفتوحة. السلطة العدمية، كسلطة البعث، تولد قابلية العدمية لدى من تتسلط عليهم، فتتفشى العدمية في المؤسسات والتنظيمات، بدرجات متفاوتة تراوح بين اللامبالاة والكلبية، وتنمو باطّراد، وتنمو معها، بسببها، التطرّفات الأيديولوجية والمذهبية والإثنية والجهوية، والنزعات العنصرية، والرغبة العارمة في القضاء على الخصم الفعلي أو المتوهَّم، كدعوة بعض المثقفين صراحة إلى ضرب العمق البشري (العلوي) للسلطة، أو ضمناً، كعدّ "الأقليات" موالية للسلطة "العلوية" ومناصرة لها، وعدّ المثقفين العلمانيين، "الأقلويين" بالولادة حلفاء السلطة أو عملاءها.
وأهم من يظن أن السلطة السورية متماسكة، وقوية بذاتها، أو يمكن أن تكون كذلك، وقد تحول أشخاصها الوالغون في دماء الشعب إلى رؤساء عصابات، لكل منهم سلطة، كسلطة "المعلم" أو تزيد، يجمعهم فقط ما يحسبونه دفاعاً عن وجودهم واستمرار سلطتهم ومغانمهم، فمرآة السلطة هي معارضوها، مهما تكن درجة معارضتهم، ومهما تكن أشكالها. وما تسمى الجماعات الإرهابية والتكفيرية هي مرآة الجيش والمخابرات، وقد تواطؤوا موضوعياً، إن لم يكن ذاتياً، في بعض الحالات، ما يشي بأن "الأزمة السورية" مفتوحة على أزمات جديدة، نأمل ألا تكون طويلة الأمد.
يفرّق الفلاسفة والعلماء بين المساواة والتكافؤ، المساواة تقتضي تشابهاً أو تجانساً تاماً بين طرفيها أو أطرافها، أمَّا والعالم هو عالم تنوع واختلاف وتفاوت، فلا مجال للحرية والعدالة إلا بالتكافؤ، والاعتراف المتبادل بتساوي البشر في الكرامة الإنسانية، وتساوي المواطنات والمواطنين في الكرامة الوطنية والجدارة والاستحقاق، والمدخل إلى ذلك هو تكافؤ المرأة والرجل، تكافؤ النساء والرجال. البشر، رجالاً ونساء، متساوون في الإنسانية فقط، وهذه لا تقبل التفاوت والتفاضل. ومواطنو دولة بعينها ومواطناتها بالطبع، متساوون ومتساويات في المواطَنة والوطنية، وما تقتضيان من حريات وحقوق والتزامات، فقط، وهاتان المواطَنة والوطنية لا تقبلان التفاوت والتفاضل أيضاً، وإن يكن للوطنية بُعد شعوري، عاطفي أو وجداني لا يمكن قياسة، ولا يمكن الحكم فيه، إلا في حالات التقدير العام للعطاء والإبداع، أو في الحالات الجرمية، وهذه وتلك حالات فردية وأفرادية، ليست القاعدة، بل الاستثناء، الذي لا يؤكد القاعدة، بل ينفيها جزئياً أو كلياً. لذلك يبدو لنا أن المخرج الوحيد من نفق التفكّك والتنثُّر هو العدالة، بما تعنيه من حرية ومساواة وتكافؤ: تكافؤ الأفراد وتكافؤ الفرص وتساوي الشروط، وهذه مقدمات ضرورية للعدالة الاجتماعية.
لعل ما تقدّم يفسّر تنثّر "المعارضة السياسية" ومايسمى "قوى الثورة" ونزاعاتها البينية وعقم الحوارات، التي دارت ولا تزال تدور بين بعض أطرافها، وهشاشة التحالفات وظرفيتها، وتضارب رؤى التجمعات و"المنصات" ومصالحها ومرجعياتها ومصالح أفرادها .. ويلقي الضوء على انعدام الثقة المغلّف بأيديولوجيات، تنمّ جذورها المعرفية والأخلاقية المشتركة، أو المتشابهة على زيفها وتناقضها مع ممارسات من يتبنّونها، ويرفعونها إلى مصافِّ المقدسات.
بقي أن نقول: إن ما يسمى "قوى الثورة" (نعني الجماعات المسسلحة) لم تكن، وليست في واقع الحال سوى قوى ثورة مضادة للثورة السلمية وأهدافها، ومتمفصلة مع نواة السلطة الشمولية بألف مفصل ومفصل، ومتواطئة معها موضوعياً إن لم يكن ذاتياً، كما تقدّم، وقد جرَّت ما كانت "معارضة سياسية" إلى مواقعها. وليس تعددها جميعاً سوى تعبير عياني عمّا نسميه تفكّك السلطة، ونعتبره علّة تفكّك المجتمع، فإلى أن تتفسخ قواعد السلطة / السلطات القائمة، وتتغير مبادؤها، سيبقى التفكّك الاجتماعي قائماً، وقد يتمادى.