سلمية.. تعايش في زمن الحرب
سيارات دفع رباعي مزودة بالأسلحة الرشاشة تجوب الشوارع، وأخرى فارهة يملكها أثرياء جدد جنوا أموالهم من عمليات السلب والسرقة على الحواجز ومن القرى المحيطة.
مشهد يومي يتخلله أصوات إطلاق رصاص و انفجار قذائف مدفعية، وغارات للطيران الحربي بين الحين والآخر، على تخوم مدينة سلمية الممتدة حتى مشارف ريفي حماة وحمص من جهتي الشرق والجنوب.
على مداخل المدينة وعلى أطرافها انتشرت حواجز عسكرية، مع تحول الاشتباكات مع تنظيم "داعش" و"فتح الشام" إلى روتين، قبل أن ينسحب التنظيم من الريف الشرقي بعد شن عمليات قصف صاروخي ومدفعي على المدينة راح ضحيتها العشرات جلهم من المدنيين و بينهم نساء وأطفال.
جماعات طائفية متنوعة تعيش في المدينة
عقب الأحداث الدامية في مدينة حماة سنة 1982، نزحت عشرات العوائل الحموية إلى مدينة سلميّة هرباً من المجازر، و إثر انتهاء القتال عادت بعض العوائل إلى منازلها فيما بقيت بعض الأسر في المدينة ونقلت معها المهن التي كانت تعمل بها. تجمعت هذه الأسر في حي واحد بني فيه جامع وأصبح يطلق عليه حي الحمويّة.
يقول الصحفي والباحث صبر درويش لـ" صور" إن المدينة تضم بنسبٍ أقل، مجموعات وافدة أخرى، كالشركس، والكرد والعلويين والبدو وغيرهم من الجماعات .بينما الجماعة الأكبر التي تقطن مدينة السلمية فهي من الطائفة الإسماعيلية حيث تعتبر المدينة المركز العالمي للطائفة الإسماعيلية الآغاخانية.
ويضيف درويش أنه "عبر العقود الماضية وحديثاً، لم يذكر نشوب نزاعات بين هذه الجماعات المختلفة عن بعضها عقائدياً أو إثنياً، كما أنه لم يُذكر أن عكر صفو المدينة تكتلات اجتماعية لها طابع مذهبي أوغير ذلك" .
إلا أن حدوث مجزرتين في قرى بريف سلمية، الأولى جرت في قرية المبعوجة (2015) إثر هجومين لتنظيم داعش على بيوتها ليلاً، أسفرت عن مقتل 50 مدنياً بينهم نساء وأطفال ينتمون للطائفة الإسماعيلية والسنية والعلوية، واختطاف التنظيم نساء وأطفال ما زال مصيرهم مجهولاً، المجزرة الأخيرة حدثت أواخر أيار الماضي في قرية عقارب الصافية، راح ضحاياها قرابة 52 مدنياً من مختلف الطوائف التي تقطن في المدينة أدى إلى موجة من المشاعر السلبية مشابهة لما حدث بعد سلسلة من التفجيرات التي طالت مقار تابعة لقوات نظام السوري سنة 2013 وسط المدينة، والتي أوقعت العشرات من الضحايا، وكانت في أغلب الأحيان بتوقيع من"جبهة النصرة" التي تبنت هذه التفجيرات أو تنظيماتٍ شبيهة بها.
"ومن المشاعر المشحونة بالخوف والغضب، وحتى الهلع، تولدت مجموعة كبير ةٌ من ردود الأفعال، والتي كان من ضمنها بروز احتكاكات سلبية بين قسمٍ من سكان المدينة مع الجماعات النازحة إليها، وأدى موالو نظام دوراً مهماً في إذكاء هذه المشاعر، وفي توجيه إصابع الاتهام إلى النازحين كونهم داعمين لمتطرفين. ونتيجة ذلك غادر المدينة الكثير من أسر النازحين، وانضمّ إلى المغادرين قسمٌ آخر من معارضة المدينة". (1)
بقيت المدينة محكومة بالخوف وعناصر" الشبيحة"، بينما من بقي في المدينة فيرزح تحت ضغوطات ليس أولها غياب أساسيات الحياة اليومية من ماء وكهرباء وغذاء، وليس آخرها انتهاكات حقوق الإنسان. ( 2)
ويشير درويش إلى أن حارة "الجورة"، وهي من الأحياء القديمة التي تقع وسط المدينة، ضمّت تاريخياً خليطاً متعدداً من الجماعات، كالأسر الحموية، وأخرى إدلبية، وقدامسة، وكرد، إلى جانب أسر السلامنة المتواجدة منذ عقود طويلة.
" حارة الجورة كانت مركزاُ للتظاهرات الشعبية التي طالبت خلال السنوات الماضية بإسقاط النظام السوري".
أدرك الأسد الأب خطورة مدينة سلمية حيث يتحدث الجميع بالسياسة، لذلك عمل على إفقار سكانها وزج بشبابها العلماني في السجون بعد تأييدهم حركة الإخوان المسلمين في حماه 1982.
في ذلك التاريخ رفعت رابطة العمل الشيوعي المكونة بغالبيتها من الأقليات شعار إسقاط النظام ، ويعد هذا التكاتف من حزب علماني مع حركة الإخوان المسلمين مؤشراً واضحاً على أن أهالي السلمية ليسوا طائفيين ولا يشكلون أقلية وإنما جزءاً من نسيج السوريين المضطهدين بل والأكثر اضطهاداً، أما الإشارة الثانية فهي استقبال أهالي السلمية وإيوائهم لأهل حماه المهجرين والهاربين من القتل والتدمير اللذين لحقا بالمدينة، حسب ما يقول الفنان المسرحي مولود داؤود لـ"صور".
ويرى داؤود أن التشابك الاجتماعي في السلمية جعل الفرز على أساس طائفي صعباً، ففي العائلة الواحد تجد الاسماعيلي والسني والملحد أو اللاديني، ويرجع ذلك إلى التجربة التي مرت بها المدينة بعد منتصف القرن العشرين، حيث انتشرت أحزاب مختلفة في المدينة (الحزب الشيوعي السوري القومي السوري الاجتماعي- حزب البعث – الحزب الناصري ) كانت كفيلة بتشكيل هويتها الثقافية.
رجال ونساء يتظاهرون ضد النظام السوري
"بخلاف أغلب المدن السورية التي انتفضت في تاريخ منتصف آذار من عام 2011، بادر في الخروج في أول مظاهرة خرجت في مدينة سلمية بتاريخ 25 آذار عام 2011 مجموعة من الرجال والنساء المحسوبين على قوى المعارضة السورية التاريخية"، يقول درويش.
ويضيف أن عدد الذين شاركوا في المظاهرة الأولى لم يتجاوز العشرين إلى الثلاثين شخصاً، ويكاد أبناء المدينة يعرفونهم واحداً واحداً، "بعضهم ينتمي إلى حزب العمل الشيوعي الذي نشط فترة حكم الأسد الأب، وتعرضوا للاعتقال مرات عدة خلالها، وآخرون كانوا ناشطين في ربيع دمشق بداية عام 2000، ومساهمين في تشكيل المنتديات التي نشأت في ذلك التاريخ، و نالوا نصيبهم من الاعتقال بدورهم".
ويتابع درويش قائلاً: إن أعداد المتظاهرين بدأت بالازدياد فيما بعد، ومع حلول النصف الثاني من شهر نيسان من ذلك العام، كان الآلاف من أبناء مدينة سلمية قد حسموا خيارهم، وانضموا إلى صفوف المنتفضين.
كان ثمة تجاوب ملحوظ في صفوف أبناء المدينة مع مجمل الحراك الثوري الذي انطلق في سوريا، بينما كان للناشطين الأوائل تأثيراً كبيراً استمر حتى توقف الحراك السلمي في المدينة. وكان لهم الدور الحاسم في بناء وتشكيل أولى المجموعات التي قامت بقيادة الحراك الثوري في المدينة، وتنظيمه.
في رمضان سنة 2011 وصلت أخبار للمعارضة في سلمية أن الشبيحة سيعتدون على المصلين بعد انتهائهم من صلاة التراويح، لذلك قرروا الدخول إلى جامع السوق الكبير والصلاة معهم، والخروج جميعاً هاتفين للحرية، منع ذلك الشبيحة من مواجهة المتظاهرين، حيث كانوا لايحبذون الاشتباك المباشر معهم.
ومع اجتياح قوات النظام السوري لمدينة حماة في شهر من آب 2011، نزحت عشرات العوائل الحموية إلى مدينة سلمية بمساعدة ناشطين من المدينة، عقبها نزوح عائلات أخرى من حمص و حلب (2014-2013) مع اشتداد وتيرة المعارك فيها، ووصلت أعداد النازحين الجدد إلى المدينة قرابة 150 ألفاً حسب إحصائية تقريبية، يعيشون مع الطائفة الإسماعيلية في أحياء المدينة وفي بعض القرى القريبة.
حمل السلاح مهنة و هروب من القتال
انتشرت في السلَمية ميليشيات عسكرية تشكلت من المتطوعين يقودها ضباط متقاعدون من الخدمة في قوات النظام، إلى جانب تشكيل مليشيا الدفاع الوطني و"الفوج الخامس اقتحام"، وازدادت مع ازدياد سطوتها عمليات الخطف والقتل.
خمس ميليشات مسلحة من بينها حزب الله اللبناني إلى جانب التواجد العسكري الروسي والإيراني، لم يمنع "داعش" المتمركز في قرى صغيرة بالريف الشرقي من قصف المدينة بالصواريخ وارتكاب مجازر في قرى محيطة.
تنتشر ميليشيا الدفاع الوطني داخل المدينة وعلى نقاط التماس في الريف الشرقي، في حين تتمركز كتائب البعث في الداخل وتقوم بمهام تشبه مهام الشرطة، في حين تدعم روسيا مالياً وعسكريا "فوج الاحتياط " المكون من المطلوبين للخدمة الاحتياطية في قوات النظام، والذين يجندون فيه بعد تعديل أوضاعهم حسب ناشطين في المدينة.
يتمركز أيضاً في الريف الشرقي "لواء الصقور" بدعم وتدريب إيراني، وينشط وكلاء "اللواء" في محاولة لتجنيد الشباب في صفوفه، وهو مركز لتدريب عناصر حزب الله اللبناني والذين يتمركزون وقوات النظام في قرية "صبورة" التي تعد ثكنة عسكرية، وتبعد 7 كم عن قرية المبعوجة التي شهدت مجزرة نفذها تنظيم "داعش".
ابراهيم شاب يبلغ من العمر ثلاثين عاماً، كان يملك محلاً لبيع الخضراوات في سوق المدينة قبل أن يغلقه ويتطوع في صفوف ميليشيا الدفاع الوطني، بعد إغرائه من قبل رفاقه براتب يتجاوز ثلاثين ألف ليرة سورية وبسلطةٍ يفرضها سلاحه، عدا عما سيكسبه من عمليات السرقة والتي تعرف شعبياً ( بالتعفيش ) .
أما موسى يقول إنه تطوع في صفوف الميليشيات للدفاع عن المدينة، التي تتعرض باستمرار لهجمات تنظيمات إرهابية مثل تنظيم داعش وجبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً)، ولكي يقضي خدمته العسكرية الإجبارية ضمن حدود المدينة وذلك بعد تعديل وضعه، خوفاً من سوقه إلى الجبهات الساخنة.
في حين لم يجد مهند مهرباً من ترك التعليم في إحدى المدارس والالتحاق بحاجز لقوات النظام على أحد مداخل المدينة، بعد أن تم إبلاغه ليلتحق بالخدمة الاحتياطية؛ ويقضي الآن عامه السادس في قوات النظام.
تتم عملية التجنيد عبر شبكة العلاقات الشخصية والعائلية في كتائب البعث، إضافة إلى "الفوج الخامس اقتحام" الذي شكله النظام السوري حديثاً وبقية الميليشيات، فيما يتوجه الموظفون المطلوبون للخدمة الاحتياطية إلى فوج الاحتياط خوفاً من فصلهم أو حرمانهم من رواتبهم، ويبلغ الحد الأدنى لأعمار المتطوعين في الدفاع الوطني ولواء الصقور وكتائب البعث 17 عاماً، حسب ناشطين.
مصادر أهلية من داخل المدينة طلبت عدم الكشف عن هويتها قالت لـ" صور": إن الركود الاقتصادي وانهيار القوة الشرائية لليرة السورية وغياب فرص العمل، إضافة لتدني الأجور مقابل جنون في أسعار المواد الاستهلاكية، دفع المئات من الشباب العاطلين عن العمل للانخراط في الميليشيات لأسباب اقتصادية حيث الأعمال الحرة شبه متوقفة، والأجور لاتسد الرمق، ولأسباب نفسية كالشعور بالأمان والقوة الذي يمنحه السلاح لحامله، والذي يستعمل الآن في عمليات الخطف، وابتزاز المدنيين والتعدي على الجيران وإرهابهم.
كما أدت حملات التجنيد الإجباري وتردي الوضع الأمني والمعيشي إلى هجرة ماريقارب 6000 آلاف شخص تشكل العائلات ما نسبته 40% ومن هم تحت سن العشرين 10% ، وتشكل الإناث النسبة الأقل، حسب إحصائية أهلية شبه رسمية.
وتشير المصادر إلى أن عمليات الخطف والابتزاز تراجعت في الآونة الأخيرة، لأن معظم الأهالي يعيشيون حالة فقر وعوز، وبالتالي لم تعد هذه العمليات تدر أرباحاً على عصابات الخطف كما كانت في السابق.
يتلقى نحو 80% من العائلات القاطنة في المدينة والنازحة إليها من ريفها ومن ريفي حمص وحماة وحلب، مساعدات تقدمها "شبكة الآغا خان للتنمية" و"جمعية البر"، إلا أن المساعدات تأخذ بالتناقص كماً ونوعاً بشكل تدريجي، بحسب المصدر ذاته.
--
- –(2) بحث السوريون وتجربة النزوح - العلاقة بين سكان مدينة السلمية والنازحين إليها قسراً