تأثير الجغرافيا على السياسة في المفاوضات السوريّة (1)
الجيوسياسيّة أو الجيوبوليتيك مصطلح تقليدي ينطبق في المقام الأول على تأثير الجغرافيا على السياسة، فهـو علم دراسة تأثير الأرض (برّها وبحرها ومنتفعاتها وجوفها وثرواتها وموقعها) على السـياسة في مقابل مسعى السياسة للاستفادة من هذه المميّزات وفق منظور مستقبليّ. وقد تطوّر هذا المفهوم ليُستخدم على مدى القرن الماضي شاملاً دلالاتٍ أوسع، وهو يشير تقليدياً إلى الروابط والعلاقات السببية بين السلطة السياسية والحيّز الجغرافيّ في شروط محدّدة. وغالباً ما ينُظر إليه على أنه مجموعة من معايير الفكر الإستراتيجي والصفات المحدّدة على أساس الأهمّية النسبيّة للقوة البرّية والقوة البحرية في تاريخ العالم.
تأسيساً على هذا فإن النظام السوريّ منذ عهد حافظ الأسد قد أدرك أهمّية الموقع الجيوسياسي لسورية، ولعب ببراعة من خلال سياسة الاذرع الممدودة التي مكّنته من دخول لبنان واستثماره للورقة الفلسطينية في حربه ومقايضاته مع إسرائيل، ودائماً ما كان ناجحاً في هذه اللعبة من خلال ابتزازه للمحيط الإقليمي عبر توظيف أدواته، إن كان صوب العراق أو تركيا أو الأردن، كما نجح في استنزافه لأموال الخليج وعواطفه.
وبالنظر إلى مراحل تطوّر الصراع في سوريا منذ بداية الحراك المدنيّ 2011 إلى اليوم، نجد أن لعبة الجيوبوليتيك التي كان يتقنها النظام تكاد أن تنتهي على المستوى الإقليميّ، لتنتقل إلى دائرة الفعل الداخلي واستثماره عكسياً من الخارج في صراعه مع الآخر، حيث أرسى كل طرف ـ من خلال حلفائه العسكريين والسياسيين على الأرض - حيّزاً من الجغرافيا السوريّة ليتفاوض على أساسها، ويسخّرها لبناء إستراتيجيّته في المنطقة لعقود مُقبلة، إذ إن موقع سورية ودورها في زعزعة أو خلق استقرار المنطقة هو ما يعطيها الأهمّية الكبرى لتكون ساحة صراع، حيث لا يتعلّق الأمر بمواردها الطبيعية وخيراتها.
وسيكون للجيوبولتيكيّة تأثير كبير ومباشر في المرحلة الجديدة من الصراع، وهو ما يمكن تسميته بالحرب الباردة السورية بين الأطراف الدولية والإقليمية وخاصة الولايات المتحدة وروسيا الاتّحادية.
فالنظام السوري وحلفاؤه باتوا يسيطرون على ٤٤.٨٪ من مساحة الجغرافيا السوريّة، أي أكثر من ٨٣ ألف كم مربع، أمّا قوات سورية الديمقراطية فأصبحت تفرض سيطرتها على نحو 42 ألف كم مربع من مساحة الأراضي السوريّة أي بنسبة 22.8%.
بينما تراجعت نسبة سيطرة هيئة تحرير الشام والحزب الإسلامي التركستاني وفصائل تضمّ مقاتلين جهاديين إلى 16.5%، بمساحة وصلت إلى أكثر من 30600كم مربع من مساحة سورية، كما تراجعت نسبة سيطرة تنظيم داعش إلى نحو 15.8% من مساحة سورية، أي حوالي 29300 كم مربع، أمّا فصائل درع الفرات والقوات التركية فتسيطر على مساحة أكثر من 2250 كم مربع، بنسبة 1.22%، فيما تسيطر الفصائل المدعومة أمريكياً وغربياً في البادية السوريّة من خطّ معبر التنف على مساحة نحو 3550 كم مربع، بنسبة 1.91% من الجغرافيا السورية. حسب المرصد السوري.
بالنظر إلى خارطة توزّع القوى نلاحظ التغيير في الموازين على الأرض بشكل كبير، حيث بات النظام وحلفاؤه يسيطرون على نصف مساحة سورية تقريباً، ويزيد من أهمّية هذه المساحة سيطرتها على ساحل البحر المتوسّط وبعض حقول النفط في دير الزور، أمّا قوات قسد وحلفاؤها فأصبحوا صاحب ثاني أكبر نفوذ على الأرض بعد أن سيطروا على مساحات كبيرة من المناطق التي كانت تسيطر عليها داعش، بعكس فصائل المعارضة التي تضاءلت نسبة سيطرتها على الأرض بشكل كبير.
إذاً، فمرحلة الجيوبولتيكية تكاد تكون قد حُسمت، وإن بقي بعض التصعيد الذي نشهده قُبَيل كل جولة من التفاوض، وبدأت مرحلة تكريس السلطة السياسية على الحيّز الجغرافي، وهذه تحتاج إلى أدوات وآليات عمل مختلفة عن سابقتها، وستبرز ملفّات تفاوضية بشكل أقوى، مثل ملفّ الدستور والانتخابات، ويجب بناء أدوات عمل سياسيّة تنسجم مع هذه المرحلة، سوف أوردها في مقالي المقبل.