عن المونودراما
أثناء عملي الطويل في المسرح السوري، غالباً ما كنت أواجه سؤالاً غريباً من المسرحيّين، كتّاباً ومخرجين وممثّلين، لماذا تكتب المونودراما؟
يخطر لي أن المونودراما هي الوحشة الخالصة، لهذا أتفهّم نفور المسرحيين منها، تنهض المونودراما، من مواجهة الوحشة.
نبلاء المسرح، كنبلاء الجيش، حرّاس الكارثة الأجلّاء .
لا يمكن أن تكون نبيلاً في المسرح، هناك، وفي تلك العلبة المغلقة، ستكون على موعد مع ما هو أبعد من ذلك، إنها المواجهة العارية مع عري العالم، لهذا فإن الكتابة المسرحية هي الأقلّ رواجاً وقراءة ونشراً وعملاً.
لماذا المونودراما ؟...
سؤال يتردّد كثيراً، هنا أودّ أن أشير إلى مفاعيل تشكّل السؤال أولاً.
ما مدى مشروعية هذا السؤال بمقياس السؤال كمفهوم؟
وبكلمة، ما معنى هذا السؤال ؟!
فإذا كانت المونودراما هي عمل مسرحيّ لشخصية واحدة، فما الذي يدعو إلى تشكّل هذا السؤال (المُستهجِن في الغالب ), لهذا الفعل الإبداعيّ؟
تقوم المونودراما على مساحة من الخطأ، تجعل العقول المطمئنّة إلى ما حصّلته من رؤى ثابتة وتصوّرات واهنة عن المسرح تستنكر هذا الفعل.
فإذا كانت المونودراما تطلق شخصية واحدة لتستبيح حصّة الشخصيات الأخرى على الخشبة, (هذه الشخصيات التي يشكّل الحوار والتفاعل فيما بينها جوهر الدراما والصراع على الخشبة)، فهي، أي المونودراما تقوم على باطل .. على خطأ حقيقي وعميق يتحرّك في مناخ عملية الإبداع المسرحيّ من النصّ إلى العرض في مساحة عصيان الابن الضالّ، من هذا العصيان، تستمدّ المونودراما قوّتها وضرورة حضورها، إنها تقوم على ألَق الخطأ بالمعنى الإبداعي, أي على الخطأ الذي لا يودي نحو تدمير الإبداع، بقدر ما يقوم على نقض الشرعيّ في الإبداع باتّجاه ارتكاب المعصية، المونودراما الخطأ، تتحرّك في مناخ المسكوت عنه، الغائر والمخفيّ، لأن الصواب هو حكماً في مساحة المعلوم والمعروف..
إن الشخصية الواحدة على الخشبة، بقدر ما تستبيح مساحة الشخصيات الأخرى، بقدر ما تحرص على حضور أطيافها في مسامات الخشبة وخلايا أقمشة الكواليس ومنابع الإضاءة، أقول تستبيح ولا تغتصب.
تستبيح مساحة الخشبة، لأنها تريد أن تبوح بما لا يمكن أن تبوح به في حضور الشخصيات الأخرى، ولهذا فإن زمنها هو زمن العرض كله، وهي بغير هذا الشرط الزماني لا تستطيع أن توغل في مناطق غائرة في ذاتها، وكأن الشخصيات الأخرى تنحّت بملْء إرادتها لهذه الشخصية لكي تسمعها ولمرة واحدة كما لم تسمعها من قبل، وكأن الشخصيات الأخرى تنسلّ لتنتمي إلينا خلف الجدار الرابع، ولأنها شخصيات مسرحية، ومن طبيعتها التآمر، فهي لا تورّط نفسها بالانتماء إلينا، لتصبح في فضاء المتلقّي، بل بانسحابها نحو مساحاتنا، تورّطنا من حيث لا ندري بانتمائنا إليها، فنصبح مثلها، شخصيات تنتمي للعرض من زاوية المشارك الصامت بالخطأ الذي يرتكب أمام أرواحنا بحقّ التصوّرات الباردة عن الصراع على الخشبة.
بين الاستباحة والاغتصاب هناك مساحة شاسعة, هي عينها المساحة بين الحياة والمسرح, ففي الحياة, تقوم الشخصية الواحدة، والثقافة الواحدة، والمنطق الواحد، والرأي الواحد، باغتصاب مساحة الآخرين في القول والفعل والحياة، وهذا الفعل في الثقافة والحياة عموماً ليس خطأً بل جريمة، تُمارَس بحقّ الآخر الفرد والجماعة .
العقل الواهن، الواحد، الرخو، البارد. سيقول بأن المونودراما تمارس الإقصاء لأنها تعتمد على الشخصية الواحدة، سيماثل بين الحياة والمسرح، بعنجهيّة العقل البيروقراطي المطمئنّ والمتكسّب من الثقافة السائدة واستقرار أدواتها ومفاعيلها في الحياة...
بهذا الطمس التعسّفيّ نماثل بين المسرح والحياة بهدف تدمير المسرح لا دفاعاً عن الحياة.
وإذا كان المسرح هو فنّ الحوار الأرقى إلا أن هذا التصوّر لا يأتي من الحوار بين الشخصيات على الخشبة، بل بين المنظومات والمدارات الفريدة التي تشكّلها عناصر الطقس المسرحي برمّته، بمبدعيه ومتلقّيه وأغراضه, منظومات التفكير والحسّ الإنساني الفريدة والأرواح التي تنبض بالسحر.
في النص المونودرامي هناك تطرّف إبداعيّ من نوع ما، إنه تطرّف نحو الكشف والمكاشفة الأكثر غرابة ووحشة، ما الذي ستفعلهُ شخصية واحدة تحضر في زمن الخشبة البالغ في كثافته ودلالاته وخطورة تفاصيله؟
كيف للصراع أن يتجلّى دون أقطاب في حكاية العمل المسرحي ؟
أي جحيم في أن تترك شخصية واحدة في الجحيم كل هذا الزمن،؟
كمن يقتحم عزلة الله ليمثل أمام خطيئة الكون الذي يدّعي أنه خالقه، في المونودراما نطلّ على جحيم مشابه، يتناصّ مع الآلهة الصغيرة التي نحملها في أعماقنا، إننا أمام محاكمة لا تحتمل التمويه ولا المخاتلة ولا طرق وأساليب التملّص أو تمرير الحكايا خلف تقنيّات السّرد والصراع بين الشخصيات على الخشبة، هكذا تنبت المونودراما من لحظة الصفر في الحكاية لتقول كل ما لم تقلْه الحكاية دفعة واحدة، وهي بهذا لا يمكن أن تكون مشابهة للمونولوغ، أو التداعي، بل هي تدفّق هادر عليه أن يسلك أكثر الطرق وعورة كي يحقّق زمنه الخاصّ والفريد.