مادونا بيننا.. ليتها تكون
من عَتَهِ المثقّفين، أنهم يكذبون.. ومن الأمثلة.
سيّدة تنشر على الفيس بوك مؤكّدة أن جمال المرأة (علمها) و (أخلاقها)، فتأتي التعليقات على النحو التالي:
جمال المرأة علمها وعقلها الراجح.
أمّا لو شئنا، أو استطعنا نَبْشَ فروة رأس صديقنا المثقّف، لتأكّدنا أنه ما من امرأة تهزّه أو تهزّ ركبه أو كوكبه بعقلها الراجح، بدءاً من نوال السعداوي وصولاً لروزا لوكسمبورغ، وبالتأكيد لا نستثني مدام كوري، فيما نستطيع التأكّد وباليقين والقطع، أن ثمّة امرأة هزّت العالم بهزّة من خصرها، وها هي "مادونا" قد تهزّ جدران غرفتي في هذه اللحظة.. تهزّ الباب، والنافذة، وتهزّ أصابعي أيضاً، وتهزّ الكيبورد المسجّى على طاولتي فتحيل الميت إلى حيّ، وتبعث الحياة من عظامه وهي رميم.
المثقّفون يكذبون، عكس الباطونجيّة، الحرفيين، المزارعين، وعكس كل أولئك الذين يشتغلون بالإنتاج المحسوس.. وأعني بالمحسوس.. كمشة قمح، طربيزا، وسادة، فستان عرس، لعبة صبي، مجمر وقود، أو حتى أولئك الذين يشتغلون بحجارة الجحيم، فهؤلاء لا يلتفتون كثيراً إلى (عقلها الراجح)، هؤلاء يصوغون عقلاً راجحاً بلا لغة ولا مفردات.. يصوغونه بأصابعهم، فتكون : المرأة الزارعة، الحاصدة، الأمّ، وحتى الفارسة بكامل معدّات الفرسان من السيف والرمح حتى درع الصدر الفولاذيّ، وقد كان صدرها بالأمس ساقياً للحليب.
المثقّفون يكذبون في السياسة، وتطلّعوا إلى خرائطهم:
- يزغردون للحروب، وحين تكون الحروب، يكون الهروب الكبير، فيحتلّون الردهات والزوايا، ويصنعون من ضحايا الحروب لاهوتهم العظيم.. ويتجوّلون ما بين المياردير والأمير، والتجربة السورية، ربما تكون النموذج الفاقع، ودليل من لا يحمل الدليل، ولو كان من حقّ الذاكرة أن تعمل كما يتوجّب عليها بعد اهتزازات ما صاحب خصر "مادونا" ذاك، لتذكّرنا ذاك الفيلسوف اللامع وهو يحمل حقيبة نكاته، ويتّجه بها إلى صديقه المفدّى بهجت سليمان، لينشدا معاً قهقات ليل لا تفرقع الخواصر، ولكنهما معاً يفرقعان، ذلك أن الفرقعة واجب وطني، وحين تكون "الثورات"، ينتقلون إلى حفلات القبور على ضحايا القبور، وينتقلون على ظهر حنتورهم العظيم: حنتور الفلسفة، والشعر، ومنشورات الفيس بوك، وكذلك ربطات العنق وربطات الأفواه، وإذا ما اضطرّتهم الظروف، فلا بأس أن يتنقّلوا في فنادق المؤتمرات.. ورشات العمل.. موائد التعارف بملابس الليدي غاغا، عراة، بلا ربطات عنق ولا حتى أعناق.
المثقّفون يكذبون.. و:
ذات يوم وصفهم العفيف الخضر بـ:"الكلاب التي تنبح ولا تعضّ".
وبالتأكيد، سيأتي من يعلّق على كلامي هذا بالقول:
التعميم لغة الحمقى.
ولن أناقش في صحّة مثل هذا الاتّهام، فالتعميم لغة الحمقى بلا قيد ولا شرط، ومع أنه يطيب لي أن أكون من الحمقى، غير أن ثمّة ما ينغّص حماقتي ويجعلني عاقلاً فيما أقول، ذلك أنني بتّ مرغماً على التعريف بما أقصده بمصطلح مثقّف.
أعني بالمثقّف، تلك الفئة التي اعتقدت أنها امتلكت حقّ المعرفة، واحتكرته، وأظنّ أن العفيف اعتقد بما أعتقد، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان ماركسياً ذات يوم، وتروتسكياً في يوم لاحق، ومحاوراً في وجود الله من عدمه في باقي الأيام، والثلاثة:
ماركس.. تروتسكي.. الله.. ثلاثتهم، صُنّاع أفكار، لا باطونجية، ولا ترزية، ولاصُنّاع طربيزات، وكل الفارق بينهم وبين المثقّفين أنهم:
الله، كتب الأروع:"فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر"، وهذا إقرار ضمني بأنه لم يُحِلّ لذاته الإلهية احتكار المعرفة، الخيار، القرار.
ماركس: حكى بالدياليكتيك، وما دام دياليكتيكياً، فهو نفي النفي، ما يعني أنه نفى نفسه عن احتكار المعرفة، وياله من رجل بالغ التواضع والزهد.
أما الثالث، فقد مات منفيّاً في منفاه، ما يعني أنه لم يكن من شركاء فنادق النجوم.. أو من محتفلي ولائم الجثث والأموات.
المثقّفون يكذبون، حين يتحوّل الانتاج الثقافي إلى "سوق"، وليس أيّ سوق.. سوق ليس من زبائنه القرّاء.. سوق (زبانيّة) لا سوق زبون، والفارق شاسع بين من يلبّي طلب زبون، وبين أن يتحوّل إلى زبانية لزبون، وهؤلاء الكذّابون، وأعني المثقّفين، ما زالت أصابعهم على السلاح.. سلاح الحضّ على السلاح، حتى انتهت البلاد، واندثر العباد، وباتت المقابر تضجّ بالأموات، وحتى:
بات على الأموات البحث عن مدافن خارج القبور.
المثقّفون يكذبون في الغرام.. في السياسة.. في الحرب، إدارة وتنظيراً.
و... هم الرابحون، وهل تعلم سيّدي القارئ، أن أجور كتابة زاوية مثل زاويتي هذه تساوي بعائدها المالي، منتوج خمس شجرات زيتون.. أكتبها بدقائق خمسة، وتكتبها الزيتونة ما بعد سقاية ورعاية وحبَل وولادة بـ ( 15) عام؟
- رابحون.. مهنتهم هزّ الرأس.. ليتها كانت هزّ البطن. لتكون:
- مادونا بيننا.