info@suwar-magazine.org

الوطنيّة .. جدليّة الانتماء والتواصل

الوطنيّة .. جدليّة الانتماء والتواصل
Whatsapp
Facebook Share

 

"حريّ بنا، نحن السوريين والسوريات، أن نبحث، بقدر ما نستطيع من الموضوعية والشعور بالمسؤولية الوطنية، عما أوصل بلدنا، سوريا، إلى حال من التسلّط والاستبداد والفساد وتهتّك النسيج الوطني، ناهيكم عن الإفقار والتهميش والتمييز بين السوريات والسوريين على أساس العرق واللغة والدين والمذهب والجنس والاتجاه الفكري والانتماء السياسي .. وأن نكشف سر الأيديولوجيات ما فوق الوطنية والممارسات ما دون الوطنية، من دون أن نلقي بالمسؤولية كلها على جهة واحدة، داخلية أو خارجية، لأننا جميعاً في مركب واحد، إن غرق نغرق معاً وإن نجا ننجُ معاً" [1].

 

كانت هذه دعوتنا، منذ تسعينات القرن الماضي، بل منذ اتضحت ملامح النظام التسلّطي والاستبداد الكلّي، التوتاليتاري أو شبه التوتاليتاري، إثر الأزمة الوطنية، التي عصفت بالبلاد بين عامي 1978 و 1982، إذ بدت لنا حينها أهمية تأسيس الوطنية السورية معرفياً، بالتضاد مع الأيديولوجيات القومية والإسلامية والاشتراكية، وبالتضاد مع مقولَتي: "دولة البعث" و"سوريا الأسد".

 

وقد كان هذا، أي التفكير في تأسيس الوطنية السورية معرفياً، على مبادئ الحرية والمساواة والعدالة والمواطنة المتساوية وحكم القانون .. مستهجَناً من قبل كثيرين من الفاعلين في الحقلين الثقافي والسياسي، وكانت الفاعلات قليلات، والحقلان الثقافي والسياسي حقلاً واحداً. وقد عدَّ كثير من الأصدقاء ذلك تنكّباً عن "الخط القومي الاشتراكي" ونكوصاً أو "ارتداداً" عن الماركسية إلى الليبرالية.

 

        ولكن هذا كله لم يحُلْ دون المثابرة، على نقد الأيديولوجيا القومية، في إهابها اليساري، بوجه خاص، والتفكير في مسائل الأمة والقومية والمجتمع المدني والدولة الوطنية وحرية الفرد وحقوق الإنسان، انطلاقاً من الواقع القائم في سوريا، ونقد مقولة "الدولة القطرية" باعتبارها تنكّراً للدولة القائمة بالفعل، وتهميشاً للمجتمع، وانسياقاً مع إستراتيجية السلطة الشمولية في قضم الدولة، وتبديد عموميّتها، أي وطنيتها، وعمومية مؤسّساتها، شيئاً فشيئاً، واعتبار السيطرة الأمنية الفظّة والهندسة الاجتماعية القهرية بديلاً من الروابط الاجتماعية – الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية، التي تشد الجسد الاجتماعي وتوحّده.

وقد ساعدنا في هذا كله نقد التصوّر القوموي، العروبوي، المبني على مقولات "الأمة العربية"، و"المجتمع العربي"، و"الدولة العربية"، التي ليس لها أي ارتسام واقعي، سوى في النسق الأيديولوجي البعثي، المؤسّس على الاستنجاد بالتاريخ العربي، واللغة العربية، والثقافة العربية - الإسلامية، والتراث العربي - الإسلامي، .. مما يعزّز الميول السلفية والأصولية ويوقظ العصبيات ما قبل المدنية وما دون الوطنية، وقد عزّز الأولى وأيقظ الثانية بالفعل. هذا لا ينفي بالطبع أهمية اتحاد الدول العربية، اتحاداً فدرالياً أو كونفدرالياً، يحفظ حقوق الجماعات غير العربية، وفق مبدأ حق تقرير المصير، والشرعة العالمية لحقوق الإنسان والمعاهدات والمواثيق ذات الصلة.

 

وقد بنينا رؤيتنا للمسألة الوطنية، على جدل الانتماء والتواصل، على اعتبار الانتماء حاجة بشرية نوعية مغروزة في الطبيعة البشرية، لا تقل جذريةً عن الحاجات الطبيعية، ولا سبيل إلى تلبيتها إلا بالتواصل الاجتماعي والإنساني. وهو، أي التواصل، مما يحيل على الممكنات الأخلاقية للكائن البشري، بصفته كائناً عاقلاً وأخلاقياً، وعلى الممكنات الأخلاقية للأسرة أو العائلة، باعتبارها مؤسسة طبيعية من جهة، ونواةَ الاجتماع البشري، من الجهة المقابلة. إذ نعتقد أن المجتمع المدني، بصفته "فضاء من الحرية"، يتوسط بين الأسرة والدولة، مركَّبٌ من عنصرين: طبيعي وأخلاقي، حدّه الطبيعي ماثل في الأسرة أو العائلة، وحدّه الأخلاقي يسمو إلى الدولة، بصفتها "الحياة الأخلاقية للشعب"، بتعبير ماركس، و"الحياة النوعية" (الإنسانية) للفرد والجماعة، وباعتبارها، أي الدولة، ميدان الحرية الموضوعية والأخلاق الموضوعية ومملكة القوانين، وفق تشخيص هيغل، ودولة حق وقانون ومؤسّسات، وفقاً لفلاسفة العقد الاجتماعي، ومن يترسّم خطاهم في أيامنا.

 

وإذ يميل معظم علماء الاجتماع السياسي إلى اعتبار المجتمع المدني "فضاء من الحرية"، فإننا نراه كذلك، مع تعريف الحرية بأنها "حرية مدنية" مشرَّعة قانونياً، واعتبار الفرد (الرجل والمرأة) عضواً كامل العضوية في المجتمع المدني، أي في فضاء الحرية، وعضواً كامل العضوية في الدولة السياسية، مملكة القوانين، في الوقت ذاته، ومن ثم فإن الحرية نسبية، كالمساواة، وتؤلّفان معاً تركيباً جدلياً فريداً هو العدالة.

 

ورأينا أن المجالات التواصلية والتداولية هي التي تحدّد أشكال الانتماء أكثر مما تحدّدها المجالات التبادلية، التي تغلب فيها المنافع المادية على القيم الأخلاقية، مما تعدُّه كل جماعة قيمها العليا. وأن تضارب المنافع المادية، بوجه خاص، عامل رئيس من عوامل التفاصل والتنابذ و"التدافع". وقلّما يكون هذا التضارب صريحاً، إذ غالباً ما يحتجب أو يتقنَّع بأقنعة أيديولوجية. لذلك يمكن أن تُلاحَظ علاقة طردية بين كلبية المنافع الفردية والخاصة وبين كثافة الأيديولوجيات التي تحجبها وتقنِّعها. ما  يضعنا إزاء شبكة من العوامل المتداخلة والمتضافرة، تعيق الانتقال من الانتماءات ما قبل الوطنية إلى الانتماء الوطني، بالمعنى الحديث للكلمة، شبكة تتألف من انتماءات طبيعية وشبه طبيعية مختلفة، ومنافع متضاربة، وأيديولوجيات متنافرة، تشكل النوى الصلبة للعصبيات.

 

ولكن هذا، لا يجوز أن يحجب عن النظر العقلي والرؤية الأخلاقية جدلية التفاصل / التواصل، أو التجاذب / التنابذ، وآلياتها الظاهرة والخافية، التي هي الأساس الموضوعي لحيوية المجتمع وعمليات التشكّل الاجتماعي - الاقتصادي والثقافي والسياسي والأخلاقي، التي لا تني ولا تتوقف ولا تكتمل، حتى في ظل الاستبداد الكلي، الذي ينهك الجسد الاجتماعي، ويقفِّر الحياة الإنسانية، كما كانت الحال في سوريا، وإلا لكان الخروج من سجن الاستبداد مستحيلاً.

وما زلنا نعتقد أن الانتماءات الدينية والمذهبية تابعة للانتماءات الأوليَّة، الطبيعية وشبه الطبيعية، التي نعتبرها انتماءات أصلية، (مما يحيل على البنية المركّبة للعصبية)، إذ بوسع الأفراد والجماعات أن يتحوّلوا عن معتقد ديني إلى معتقد آخر، اختياراً أو اضطراراً، ولكنهم لا يتحوّلون عن انتماءاتهم العرقية أو الإثنية أو القومية، بالمعنى المكتسب من الدولة القومية الحديثة. حتى المهاجرون الذين يكتسبون جنسية الدول التي هاجروا إليها، يظلون متشبّثين بأصولهم جيلاً بعد جيل، ما داموا على تواصل مع ذويهم أو أقربائهم في البلدان التي هاجروا منها، وعلى علاقة ما بأوطانهم.

 

وإلى ذلك، رأينا أن التواصل كان العامل الرئيس من عوامل تطوّر أشكال الانتماء ومضامينه، أو العامل الرئيس من عوامل تطورّ الهوية / الهويات، العرقية والإثنية والقومية، وسيظل العامل الرئيس من عوامل تطوّر الذوات. ومن البديهي أن التواصل يضع نقيضه، التفاصل، المؤسّس على الأَثَرة والطمع والتنافس والتدافع .. التي تنبثق من حب التملك، والنرجسية وأوهام المركزية، والرغبة في إثبات الذات، والدفاع عن "الهوية".

 

ثمة علاقة لا تخفى بين اتّساع المجال التواصلي والتداولي، بموازاة المجال التبادلي، وبين انتشار قِيَم التسامح والاعتدال؛ فكلما اتسع المجال التواصلي، متجاوزاً حدود الجماعات الطبيعية وشبه الطبيعية تخفّ الكثافة الأيديولوجية، ويتراجع منسوب التعصب، وتنتشر قِيَم التسامح والاعتدال. يلاحظ هذا بوضوح على صعيد القرى والبلدات والحواضر والمدن. ويلاحظ بوضوح أكثر في البيئات التعليمية والعلمية وتنظيمات المجتمع المدني، والمؤسسات العامة، في أوقات السلم والاستقرار السياسي.

 

هنا تبرز القيمة الأخلاقية لمفهوم "التعارف"، الديني والتاريخي في الوقت نفسه: }يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل، لتعارفوا ..{، إذ التعارف غاية أخلاقية. هذا التعارف، الذي قوامه المعرفة، بدلالاتها اللغوية والمفهومية، لا يكون إلا بالاعتراف المتبادل باستقلال الوجدان وحرية الضمير، ويقابله مفهوم التجاهل أو الإنكار والتنكُّر السائد بين العصبيات، وجذره تنكُّرٌ لإنسانية الآخر المختلف وكرامته وجدارته واستحقاقه، وتنكُّرٌ لإنسانية المرأة وكرامتها وجدارتها وأهليتها واستحقاقها، بالتلازم الضروري بين هذين الشكلين من أشكال التنكُّر والإنكار. وهذا مما يجعل الاعتراف بإنسانية المرأة وكرامتها وجدارتها وأهليتها واستحقاقها ومساواتها بالرجل في الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المدخل الضروري للاعتراف بالآخر المختلف، وإلا كان الاعتراف هشّاً والتعارف ملغَّماً، وقد يكون مدخلاً إلى المكر والكيد للآخر أو وسيلة لاتّقاء شرّه، (من عرف لغة قوم أمن مكرهم).

 

في ضوء ما تقدم، يمكن القول: إن الانتماء الجذري إلى الجماعة الإنسانية، أو إلى النوع الإنساني، حاكمٌ، ويجب أن يكون حاكماً على سائر الانتماءات الأخرى، بما فيها الانتماء الوطني أو القومي، وإلا كانت الوطنية أو القومية، ولا فرق، مجرّد نزعة عنصرية. الإنسية أو الإنسانية جذر الوطنية ورافعتها. الهوية الوطنية أو القومية المنفتحة على المستقبل هي هوية إنسانية مبدأً ومآلاً.

 

فلا يمكن للعربي أن يعترف بحقوق الكوردي، مثلاً، ولا يمكن للمسلم أن يعترف بحقوق المسيحي أو للمسلم السني أن يعترف بحقوق الشيعي .. إلخ قبل أن يعترف أي من هؤلاء بأن الآخر المختلف مساوٍ له في الإنسانية، وله الجدارة نفسها، ويستحق الحريات المدنية الحقوق المدنية نفسها، ويُتوقّع منه أن يؤدي الواجبات الأخلاقية والالتزامات القانونية ذاتها. الوطنية كالإنسانية صفتان لا تقبلان التفاوت والتفاضل.

 

 


[1]  - فقرة من محاضرة ألقيت في مدينة القامشلي، في منتدى جلادت بدرخان، عام 1998.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard