مجلات الأطفال السورية بعد 2011
(كي لا ننسى)
قد لا يخفى على أحد وضع الطفل السوري والانتهاكات التي ارتُكبت بحقّه منذ بدء الأزمة إلى الآن. أمام هذا المشهد المأساوي كانت هناك محاولات من جهات مدنية لإيجاد حلول وبدائل تخفّف من الأزمات العميقة والبالغة التعقيد، بالالتفات إلى المنتج الثقافي الموجّه للطفل السوري، لما له من دور في بناء هوية الطفل الإنسانية، وتعزيزها وغرس قيم المواطنة، إذ أن الأطفال هم الشريحة التي يعوّل عليها في البنى المعرفية، والثقافية والعلمية لأي مجتمع.
مجلّات الأطفال السورية التي بدأت مسيرتها منذ 2013، هي من المنتجات الثقافية التي كان هدفها الأساسي التواصل مع الطفل، لما لها من أهمّية في بناء شخصيته وبلورة اهتماماته، خاصة في ظلّ المآسي التي عايشها، والعنف الذي مورس عليه بشكليه المادي والرمزي. فهذه المجلّات نافذة ثقافية لتنمية مهارات القراءة والحوار والمناقشة. كما أنها مؤثّر ثقافي تربوي رافد لعملية توجيهه، وتنحو نحو تنمية مداركه المعرفية واللغوية والجمالية وتطويرها، وتكوين عادات وقيم يؤمن بها، وتسهم أيضاً في إشباع خياله وإغناء رغبته في القراءة، وتهيّئ له فرص اكتساب خبرات ومهارات عديدة. لذلك تعدُّ رديفاً حقيقياً للكتاب المدرسي، وجزءاً من العملية التربوية والتعليمية، وبديلاً لمن حرموا من مدارسهم، خاصةً أنها تتميز بالتنوع، وتتوجه إلى شرائح عُمْرية مختلفة من الأطفال، وبالإمكان أن تكون في متناول أكبر عددٍ منهم.
مجلتا أسامة والطليعي كانتا من أبرز المجلات الموجّهة للطفل ما قبل الأزمة السورية، وهما مازالتا مستمرّتين في الصدور حتى الآن، وعلى الرغم من أهمّيتهما في حياة الطفل السوري تربوياً وتعليمياً، إلا أنهما لم تبتعدا عن الوعي النمطي المؤدلج والتلقيني، وخاصة في ظل الأزمة. هذه الأدلجة التي رفضتها أول مجلة أطفال تمّ تأسيسها بعد بدء الأزمة، وهي طيارة ورق (3 آذار 2013) التي صرحت في أكثر من مكان أنها لم تسقط في فخّ قولبة الأطفال سياسياً في ظل الاستقطاب الحادّ الذي تشهده البلاد، وتبعتها على الخطا نفسها مجلة زيتون وزيتونة (7 آذار 2013)، لتلحق بهما الكثير من المجلات مثل (قصب، وزورق، وبياعة الزنبق 2013) ( قوس قزح، وتين بعل، وسنونو، وغراس، وخطوات صغيرة 2014)، (حنطاوي، وعطاء 2015).
لم يكن بالإمكان أن أتابع المنتج الثقافي الذي قدّمته كل مجلات الأطفال بعد2011، لأسباب عدّة، ولكن يمكنني أن أقول إنني اطّلعت عليها، وتابعت مجلّتين منها هما: طيارة ورق، وزيتون وزيتونة، هذا الاطّلاع وهذه المتابعة تجعلني أستشرف وضعاً ثقافياً جديداً يعيد إنتاج الفضاء المعرفي لدى الطفل، لجعله منفتحاً على إنسانيته وعلى الآخر، وحمايته من عمليات الإقصاء والتهميش التي يتعرّض لها، من خلال زجّه خارج طفولته، وتحييده عن أي صراع أيديولوجي، ثم التعامل معه بموجب شرعة حقوق الطفل التي تنصّ عليها المواثيق العالمية.
تأسّست هذه المجلات في مناطق مختلفة من سورية، كان هدفها واحداً، هو الطفل السوري، متّفقة على قِيَم المساواة والمصداقية والإبداع والتعاون والتسامح والسلام والتفاهم، مركّزة على رفع سوية الوعي بحقوق الطفل، متّبعة طرق التربية الحديثة والتعلّم البنّاء (معرفياً ولغوياً وبصرياً ونفسياً)، إضافة إلى المهارات الاجتماعية والحركية. فهي تحاكي الإنسان في هذا الطفل، بغضّ النظر عن انتمائه أو دينه أو جنسه. وقد كان السبب الأول لصدورها هو تعويض الأطفال عن غياب المجلات السورية والعربية، وإبقاؤهم على تواصل مع القراءة والكتابة في ظل الحرب والنزوح وغياب المدرسة ووسائل التواصل الأخرى، واقتصر توزيعها على مناطق معيّنة، بسبب المعوّقات التي واجهتها.
على الرغم من ذلك من حيث المنتج الثقافي يمكننا أن نستشفّ أنها ليست حصرية أو خاصة بمنطقة معيّنة دون غيرها، بل هي موجّهة لكل طفل سوري في أي بقعة وُجد( في الداخل أو الخارج، في المناطق الساخنة أو ما يسمّى بالمناطق الآمنة)، فطفل من السويداء أو طرطوس سيستمتع بها، ويتعلم منها بالقدر نفسه الذي يستمتع بها، ويتعلم منها طفل من إدلب أو حمص. هناك حاجة ملحّة لهذه المجلات تربوياً ونفسياً، بسبب طبيعة خطابها التربوي والتعليمي، خاصة في ظل غياب القِيَم المدنية. فهي تساهم في تأسيس وعي إنساني ومدني، أطفالنا في أمسّ الحاجة إليه، ولا نبالغ إذا قلنا إن العنف الرمزي الذي يتعرّض له أطفال المناطق الآمنة، ليس أقلّ خطورة من العنف المباشر الذي يتعرّض له أطفال المناطق الساخنة.
بعد سنوات من العمل الجادّ، الذي بذله القائمون على هذه المجلات مابين 2013 و 2017، نفاجأ بعناوين مؤلمة مثل:"الطفل السوري يفقد صحافته"، الصادر عن جريدة عنب بلدي، أو" توقّف الدعم ينهي مسيرة مجلات الأطفال"، الصادر عن جريدة زيتون. هذه العناوين التي تضمّنت تصريحاً (ببدء رحلة الانحسار في ظل غياب الدعم المالي المقدّم من قِبَل المنظمات، والذي أسهم بشكل فعّال في عمليات الطباعة والنشر والوصول إلى الشريحة المستهدفة، فزيتون وزيتونة التي وصلت إلى العدد93 ، وطيارة ورق التي وصلت إلى العدد 101، كانتا آخر المجلات المتوقّفة عن الصدور ورقياً، بعد توقّف الدعم المقدّم من قِبَل مؤسّسة دعم الإعلام الحرّ (ASML)، المعروفة بــ "سمارت" والتي تولّت دعم عدّة مجلّات سورية مخصّصة للأطفال).
توقّف دعم هذه المجلات على اعتبارها منتجاً ثقافياً ولا يدعم أي طرف من أطراف الصراع، همّه الوحيد هو الطفل، إشارة واضحة إلى أنّ هيئات العمل المدني، والمنظمات الأممية التي تُعنى بشؤون الطفل، تفتح عيناً على المشكلة وتغمض العين الأخرى، حين تتناقض مع مواثيقها التي تبقى في جانب كبير منها حبراً على ورق. ففي ظل غياب إمكانات الدعم الداخلية الناتجة عن التردّي الاقتصادي والثقافي الحادّين، كان الأجدى من المؤسّسات والهيئات الدولية المعنيّة بالطفل أن تضطلع بكامل مسؤولياتها في إيجاد ودعم الوسائل الثقافية التي تُعنى بالطفل، خاصة أن بنود لوائحها العريضة تقرّ بأن: "تحت أي ظرف كان، يجب أن يحظى الطفل بحقوقه".
ولكن على ما يبدو أن هذه اللوائح هي المرآة الفعلية للكيفية التي يتمّ من خلالها تغليب مصلحة على مصلحة، ففي سلّم المصالح المرتفعة للعالم، تتلاشى في الأعالي التفاصيل الصغيرة لابتسامة طفل أو طفلة، كان يمكن أن تحدث لو أن هناك من يكترث جدّياً. فإذا كان هناك بالفعل صعوبات في تمويل مجلات أطفال الداخل ما الذي يمنع من إنتاج هذه المجلات في الخارج، أي في الدول المانحة، وإدخالها إلى سورية كما تدخل المساعدات الغذائية.
أطفالنا ضحيّة واقع، ذنبهم الوحيد أنهم وُجدوا فيه، فالطفل السوري في كافة المناطق يعاني من عوز إنساني حادّ. ومن المؤسف أن نختصر هذا العوز إلى الحاجات المادية من غذاء ولباس ومأوى، متناسين الضغوط والآثار النفسية التي كان يمكن لمجلات الأطفال أن تخفّف من وطأتها، وأن تحافظ ولو جزئياً على ما تبقى من هذه الطفولة المسلوبة، وتكون بوصلةً لمشاريع الدعم النفسي التي نشطت ميدانياً.
الحلول كثيرة ولكن لمن يريد أن يفتح عينيه. (طفلتي الصغيرة ذات الخمس سنوات التي تشاركني رأيها بما أكتب، قدّمت حلاًّ: قرّرت أن تتبرّع بما ادّخرته في حصّالتها، لتعاود المجلات صدورها).