إدلب تحت النار: طوفان الدم والخراب ينعي "خفض التصعيد" ويؤكّد فشل الجهود الدولية
"مجزرة مخيفة، مؤلمة دون نهاية. لا أستطيع البكاء، أربع غارات دفعة واحدة استهدفت مركز بلدة حاس بريف معرّة النعمان، استشهد جاري وابنه، رأساهما انفصلا عن جسديهما، الجثث محترقة ومتفحّمة ومقطّعة، جميهم أشلاء!
كان الجوّ مشمساً والأهالي جالسون أمام بيوتهم، قصفت طائرة النظام السوري مركز البلدة في منطقة السوق، وهي نقطة تجمّع الناس قرب المدارس والمساجد، لا تحتوي المنطقة على أي مقرّ عسكري. لا أستطيع أن أرسل لك أي صورة، حفاظاً على مشاعرك، لا يوجد أي حلّ للموضوع، وليس له أي نهاية، العالم شريك بالجريمة، شركاء أساسيون بصمتهم."
لعلّ هذه الرسالة من محمد عارف، أحد مشرفي الوحدات الصحّية بمحافظة إدلب، والتي أرسلها عبر "الواتس آب" لصديقه واصفاً مشاهداته للمجزرة، تختصر الكثير ممّا يمكن قوله عن الوضع في إدلب.
أم عمر (أمّ لطفلين نزحت لمخيّم عشوائي) تقول لمجلّة صور: "نزحنا بثيابنا فقط، تركنا كل شيء وراءنا، قسم من الأهالي ساقوا مواشيهم معهم، فهي كل ما يمتلكونه في الدنيا، نعيش في خيمة نصبناها بالقرب من شاحنة زوجي، لا مساعدات غذائية والبرد قارس، مدارس أطفالي المتعثّرة أصلاً نسيناها، كل ما نطلبه وقف القصف وأغطية تقينا برد الشتاء."
هذه شهادة أخرى تقول الكثير عن واقع النزوح نتيجة للقصف الوحشي على المنطقة.
نهاية أستانا
الأحداث الميدانية والعسكرية الأخيرة في محافظة إدلب وأرياف حلب الجنوبي وحماة الشمالي والشرقي، أعادت الشمال السوري إلى واجهة الأحداث.
التطوّرات المتسارعة خلال الأيام الماضية، أصبحت عامل تهديد يخيّم على اتّفاقية خفض التصعيد الرابعة التي تشمل المناطق المذكورة، التي وقّعت عليها روسيا وإيران وتركيا في العاصمة الكازاخية أستانا، والتي تنصّ على وقف إطلاق النار، وتجميد الأعمال العسكرية وتثبيت خطوط السيطرة العسكرية لمختلف أطراف النزاع.
وكانت الاتّفاقية السرّية التي كشفت مصادر إعلامية بعض فصولها تنصّ على سيطرة النظام وحلفائه من الميليشيات الأجنبية على المنطقة الواقعة شرقي سكّة الحجاز، وفصائل المعارضة على غربي السكة، على أن تضمن كلا الحكومتين الروسية والتركية التهدئة عن طريق نشر نقاط مراقبة على طرفي السكة.
لكن تضارب المصالح الروسية الإيرانية، وهشاشة الاتّفاقيات الدولية حول مصير شمال سوريا، سمح للنظام وحلفائه بالتواطؤ مع روسيا بالتمدّد غرب سكة القطار في محاولة لقضم وضمّ مناطق جديدة لسيطرته، واستغلال الضغط الدولي على تركيا نتيجة عملية "غصن الزيتون" التي تستهدف قوات الحماية الكردية، والتي راح ضحيّتها عشرات المدنيين، ما يجعل الاتّفاقية عرضة للانهيار.
داعش: أداة تمدّد النظام
تعقيد الخارطة العسكرية، دفع قوات النظام السوري، لفتح معركة عسكرية في ريف حماة الشرقي، الذي يسيطر تنظيم داعش على أجزاء واسعة منه.
يقول الناشط الإعلامي أحمد الحموي لمجلّة صُوَر: "معركة النظام الجديدة المزعومة ضد تنظيم داعش، جعلته يتمدّد نحو ريفي إدلب الجنوبي والشرقي، عابراً من مناطق سيطرة النظام، مستغلّاً انشغال فصائل المعارضة، التي تحاول صدّ تقدّم قوات النظام على عدّة جبهات، أهمّها مطار أبو الظهور العسكري، وربما خلال الأيام القادمة ستتوغّل داعش في أجزاء من محافظة إدلب وتفتح جبهات مع قوات المعارضة".
ويتابع: "يجمع الكثيرون على أن هذا التطوّر الميداني، هدفه دفع عناصر داعش نحو إدلب، للتغطية على المجازر اليومية التي يقوم بها النظام السوري، ولكسب ذريعة أمام المجتمع الدولي لمحاربة الإرهاب في المحافظة. على ما يبدو فإن اتّفاق خفض التصعيد خدعة كبيرة، وخطوة لكسب الوقت لقتل المزيد من المدنيين، ومخطّط للسيطرة على محافظة إدلب."
بالتزامن مع ذلك تدور حرب اغتيالات خفيّة وسط الفصائل العسكرية المسيطرة على محافظة إدلب بجميع انتماءاتها، وعن الموضوع يقول الحموي: "خلال الأسابيع القليلة الماضية تمّ اغتيال عدد من قيادات هيئة تحرير الشام، إضافة لمحاولة اغتيال قائد كتيبة عقربات في ريف إدلب الشمالي التابع “للجيش الحرّ”، وقيادات عسكرية أخرى."
ويرى العقيد المنشق أبو إبراهيم أن "الهدف الأساسي من الاغتيالات هو نشر الفوضى وزعزعة الاستقرار والأمن داخل المجتمع، وفي بنية الفصائل العسكرية المعارضة، والتي تشكّل ورقة ضغط حسّاسة، فيتمّ دفعها للاقتتال البينيّ، ممّا يساهم في تشتيت جهودها وقوّتها."
ويتابع العقيد أبو إبراهيم : "مَن يستهدف قيادات “الجيش الحرّ” هم خلايا نائمة تابعة لتنظيم داعش والنظام، إضافة لوجود يد طولى تابعة لأجهزة استخبارات دولية، هي المسؤولة عن اغتيالات عناصر هيئة تحرير الشام، والأمر ليس ببعيد عن عمليات الاغتيال التي طالت عدداً منهم بواسطة الطائرات دون طيار خلال الأشهر الماضية، والتي تُتّهم دول غربية بتنفيذها."
وفي سياق آخر نضيف الحملة العسكرية، التي يقوم بها الجيش التركي بالتعاون مع عدد من فصائل درع الفرات أو ما يُعرَف بالجيش الوطني الذي شكّلته تركيا، مزيداً من التعقيد على شمال سوريا، وتخلّف المعارك المتبادلة، بين المجموعات المهاجمة وقوات الحماية الكردية المسيطرة على منطقة عفرين، أضراراً تطال عشرات آلاف المدنيين من سكان عفرين الأصليين والنازحين إليها، إضافة لأضرار تلحق ببعض المناطق على الحدود السورية التركية، والتي يقطنها آلاف السوريين في مخيّمات عشوائية، ما أدّى إلى سقوط عشرات الضحايا من المدنيين.
الكيماوي مجدّداً
في مساء الرابع من شباط الجاري، استهدف النظام السوري مدينة سراقب ببرميل متفجّر يحتوي على غاز الكلور السام المحظور دولياً، ما خلّف عدداً من القتلى والجرحى، وسط ذهول السكان المحلّيين، نتيجة الحملة الممنهجة على المدينة بمختلف أنواع الأسلحة والطيران.
هذا التطوّر المفصلي، إضافة لاستخدام النابالم المحرّم دولياً، دفع المجلس المحلّي للمدينة بالتعاون مع مجالس أخرى لإصدار بيان حمل عنوان (محرقة بشريّة بأدوات إقليمية ودولية)، ذكّروا فيه باستخدام النظام للسلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية عام 2013، حيث اكتفى وقتها المجتمع الدولي بمصادرة أداة الجريمة وترك المجرم طليقاً دون محاسبة، ما دفعه لإعادة استخدام الغاز السام في خان شيخون عام 2017، مع استمرار النظام السوري وحلفائه من الروس والإيرانيين بصبّ نيران طائراتهم، مخلّفين أكبر محرقة بشرية لا تبقي ولا تذر، على حدّ وصف البيان.
وناشد البيان "الأمة العربية والإسلامية والشعوب الأوروبية والشعب الأميركي ومنظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان في كل العالم للضغط على مجلس الأمن ليتخلّى عن نفاقه."
كما دعا "جميع المتعاطفين مع السوريين للتظاهر من أجل وقف المحازر الحاصلة، والمطالبة بخروج جميع المحتلّين." وطالب جميع المعنيّين بإيقاف جميع خطوات الحلّ السياسي "حتى تحقيق وقف شامل لإطلاق النار وإدخال المساعدات الطبّية والإغاثية إلى جميع المناطق المحاصرة وإطلاق سراح المعتقلين."
تدمير الخدمات الصحّية
تسبّب الاستهداف الممنهج للمنشآت الطبّية، بأزمة إضافية تثقل كاهل السكان والمؤسّسات الصحّية.
يقول الممرض عمار سرور من ريف جسر الشغور: “لم يعد في المنطقة أي خدمات طبّية، بعد قصف نقاطها الطبّية، مَن يريد هذه الخدمات عليه التوجّه للمشافي على الحدود السورية التركية، الحالات الحرجة يجب اسعافها إلى داخل تركيا عبر المعابر الإنسانية، لكن التطوّرات العسكرية تؤخّر في دخولها، الأمر الدي يؤدّي إلى موت عدد من الجرحى أثناء انتظار دورهم في الدخول."
وفي نفس السياق أعلنت منظمة سامز (الجمعية الطبّية الأمريكية السورية) تعليق العمل في مشفى المعرّة المركزي، بعد استهدافه بستّ غارات جوية، وهو أكبر المشافي بريفي ادلب الجنوبي وحماة الشمالي، ويضمّ جميع الاختصاصات الطبّية والجراحية، ما أدّى إلى خروج أقسام الإسعاف والحواضن والعناية المشدّدة عن الخدمة.
مأساة نزوح جديدة
تضمّ محافظة إدلب قرابة ثلاثة ملايين سوري، أكثر من مليون منهم من المهجّرين قسرياً والنازحين، وتسبّبت الأوضاع الميدانية والعسكرية المستجدّة بسيل بشريّ جديد، قدّرته منظمات معنيّة بما يزيد عن ثلاثمئة ألف مدني، في حين صرّح المركز الإعلامي في مدينة معرّة النعمان لمجلّة صُوَر أن الأعداد الحقيقية تبلغ قرابة نصف مليون إنسان.
وأضاف المركز: "وثّقنا مند بداية كانون الأول 2017 وحتى العاشر من شهر شباط الجاري 2018، خمسة آلاف غارة جوية من الطيران السوري والروسي على محافظة إدلب وريف حلب الجنوبي، استُخدم فيها ألف برميل متفجّر وألغام بَحرية وصواريخ موجّهة قادمة من البحر، وخلّفت 405 شهيداً منهم 175 طفلاً و80 امرأة، ونحو ثلاثة آلاف جريح، وتمّ استهداف 7 مشافٍ و9 مراكز صحّية و20 مدرسة وخمسة مراكز للدفاع المدني و18 مسجداً و12 مخيماً للنازحين، و6 مقرّات للمجالس المحلّية."
ووسط حالة صدمة وذهول وصل الآلاف من النازحين الذين باتت بلداتهم وقراهم شبه خالية من سكانها، باتّجاه عمق محافظة إدلب، ونتيجة الأعداد الهائلة من النازحين، اضطرّ غالبيّتهم لافتراش الطرقات ومزارع الزيتون، نتيجة عدم قدرة المخيّمات على استيعاب الأعداد الهائلة.
يقول الصحفي محمد كركص لمجلّة صُوَر: "بعد فرار هؤلاء النازحين باتّجاه أرياف معرّة النعمان وسراقب، تمّ استهداف المنطقتين فانتقلوا جميعاً مع سكان المدينتين باتّجاه عمق المحافظة بالقرب المناطق الحدودية مع تركيا".
ويتابع "المشاهد مروّعة، قوافل النازحين لم تتوقّف، في ظِلّ برد شديد، نعيش حالة ذهول، والنازحون هائمون على وجوههم، لا يعرفون أين يجب أن يتّجهوا، لم تسلم طرق نزوحهم من قصف الطيران، حتى مخيّماتهم العشوائية التي بنوها على عجل تقصف، يتوزّعون على 455 نقطة، بعمق محافظة إدلب وريفي حلب واللاذقية، جزء بسيط منهم قام باستئجار بيوت في المدن والبلدات، أمّا الباقون فلا يملكون قُوت يومهم".
ويضيف: "رغم كل الصعوبات استنفرت المجالس المحلّية وفرق الدفاع المدني جهودها للتصدّي للأزمة الإنسانية السريعة، وافتُتحت أبواب المدارس والمساجد لاستقبال النازحين، لكن الأزمة أكبر من قدرة الجميع، الدعم الإغاثي قليل جداً نتيجة ضخامة الأعداد، واستنفاد طاقات المنظمات الإغاثية سابقاً في تأمين آلاف المدنيين الواصلين من حيّ الوعر الحمصي وريف دمشق".