info@suwar-magazine.org

في "مديح" العسكر والعسكرتاريا

في "مديح" العسكر والعسكرتاريا
Whatsapp
Facebook Share

 

قامت الدول وتشكلت السلطات المركزية، الكلية، لا العامة، على ثلاثة أركان: الأمن، أي أمن السلطة الشخصية، أو سلطة العائلة أو السلالة واستقرارها واستمرارها، لا أمن المجتمع ولا أمن أفراده، إلا إذا كانت السلطة الكلية آمنة ومطمئنة إلى سيطرتها المادية وهيمنتها المعنوية. والثاني هو الجباية، من الخراج والمصادرات والأتاوى والخوات والرشاوى (الهدايا) والامتيازات المادية والسيطرة على مصادر الثروة .. إلى الضرائب المباشرة وغير المباشرة. والثالث هو الخدمات الاجتماعية، التي ترمي إلى استتباع المحكومين وكسب ولائهم، لا قبولهم وموافقتهم.

 

وقد كان أمن السلطة واستقرارها واستمرارها من أولويات السلطة المركزية وغاياتها الأساسية، لذلك تضخمت المؤسستان العسكرية والبوليسية تضخماً سرطانياً في جميع البلدان، ولا سيما تلك التي يسلطن فيها الاستبداد، ورصدت لهما أعلى الموازنات، وزودتا بأحدث التقنيات، باعتبارهما النواة الصلبة للسلطة والنظام السياسي، الذي تفرضه، بأساليب مختلفة، سوى النظام الديمقراطي، حيثما تحول المجتمع إلى مجتمع ديمقراطي، حسن التنظيم، ينظم نفسه بنفسه، والأحرى أن نقول حسن الانتظام، يضع القوانين، عن طريق ممثليه في الهيئات التشريعية والمؤسسات، ويحترمها، ويعمل بمقتضاها، ويحتكم إليها.

 

لعل تطور الخدمات الاجتماعية ونموها، وشمولها جميع أفراد المجتمع الحديث، وإن بنسب متفاوتة، يدل دلالة واضحة على تحولات نوعية في بنية السلطة، التي لم تعد سلطة شخصية أو عائلية أو عشائرية أو إثنية .. من جراء تطور الدولة الحديثة مفهوماً وواقعاً، من "دولة قومية"، بالمعنى الذي ساد في القرن التاسع عشر، مع تبلور الدولة الحديثة، إلى دولة ديمقراطية، ولم تعد مشروعيتها مقصورة على "الأمن"، وأدواته، أي القوات المسلحة والبوليس السري أو المخابرات، ونابعة منه.

 

 

هنا يمكن الوقوف على الفروق الرهيفة بين الأمن والسلام أو السلم، على المستويين: الوطني والعالمي، والفروق النوعية بين مقتضيات كل منهما، لا سيما أن مفهوم الأمن بات شائعاً وأثيراً، حتى لدى المثقفين، قصيري النظر أو ضيقي الأفق، أو الانتهازيين، المنظِّرين لما يسمى "الأمن القومي"، وهو الاسم المضلل للتبعية والزبائنية، على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، أو للتدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار والأبعد منها. (لم تعمل الإمبريالية، ولا تعمل اليوم إلا تحت مظلة الأمن القومي، ولم يتمكن الاستبداد والتسلط من الشعوب إلا تحت هذه المظلة).

 

يذكرنا مفهوم "الأمن" بمفهوم "الإلجاء" في النظم الإقطاعية، ولا سيما نظم الإقطاع العسكري، ومعناه أن يلجأ سكان منطقة معينة إلى السيد الإقطاعي، الممسك بعصا السلطة أو صولجان الملك، وينزلون له عن ممتلكاتهم وحقوقهم وحريتهم، بشرط أن يحميهم من الطامعين والمرتزقة واللصوص، فيقبل السيد لجوءهم إليه، ويقوم بإقطاع ممتلكاتهم إلى أعيانهم أو كبرائهم، على أنهم أتباعه أو "عماله" وممثلوه، ويصير كل واحد من هؤلاء سيداً صغيراً أو مستبداً صغيراً، نائباً عن سيده. الإلجاء هو معنى آخر للتبعية الذاتية، أو للعبودية الطوعية، على نحو ما تتجلى في الولاء المطلق لسلطة يدرك الموالون لها أنها سلطة استبداد وطغيان، مثلما يدرك المهووسون أنهم عبيد لإله متوحش، منقم جبار، مفترضين أنه إلههم وحدهم، منتقم لهم، وجبار على أعدائهم. وما زلنا نعتقد أن الإله الغضوب، المنتقم الجبار، هو ظل السلطان في السماء، لا السلطان ظل الله على الأرض.

 

 

المؤسسة العسكرية والمخابرات الملحقة بها، في أي دولة، بما في ذلك الدول الحديثة والديمقراطية، مؤسسة للتربية على التوحش والهمجية، تنمِّي في نفوس أفرادها ميلاً ضارياً إلى السيطرة، مهما كان موقع الفرد في مراتبها، سواء كان آمراً أم مأموراً، بل لعل هذا الميل يكون أقوى لدى المأمورين، الممنوعين من السيطرة، ويتحيّنون الفرصة لممارستها على المدنيين، وتنمي ميلاً ضارياً لقتال "العدو" الذي يحدده قادة المؤسسة الفعليون، وفقاً لمصالحهم وغاياتهم. العدو في الممارسة الخطابية السورية، أي في الأيديولوجيا والإعلام، على سبيل المثال، غير العدو في الممارسة العملية، غير الخطابية، هذا الأخير كان الشعب أو فئة أو فئات من الشعب، ثم الشعب كله، سوى الانتهازيين والمرتزقة والشبيحة والمجرمين واللصوص، ممن شاركوا في الحرب على الشعب، بوسائل عسكرية وغير عسكرية، بدءاً من عام 2011.

 

 

والجيوش في أي بلد علامة على هشاشة المجتمع وافتقاره إلى العدالة، واضطراب الحياة الاجتماعية وضمور الروح الإنساني، حتى في البلدان الديمقراطية والمجتمعات المتقدمة، وعلامة على نزوع عدواني كامن في بنية المجتمع والدولة، يمكن أن ينفجر في أي وقت، ويمكن أن ينفجر بالمجتمع نفسه والدولة ذاتها، كقنبلة في يد شخص أخرق أو معتوه أو مجنون، في ظل نظام عالمي مؤهب للعدوان، تنقعد الروابط بين دوله، أي أفراده، على مصالح عمياء، تنسب إلى الوطنية.

 

 

المجتمعات التي تزهو بجيوشها وقوتها التدميرية مجتمعات خرقاء، كمن يربي حيواناً مفترساً في بيته، بين أولاده وبناته، ويغدق عليه أكثر مما يغدق عليهم. الجيوش مرض المجتمعات المزمن، تحول في بعضها إلى مرض خبيث، قد يودي بها، كما أودى بالمجتمع السوري، الذي صار جزء منه يقدس "البوط العسكري"، ويعده رمزاً وطنياً.

 

 

لقد راجت اتجاهات فكرية مختلفة تناولت دور العسكر في العالم الثالث وعلاقتهم بالمجتمع؛ يرى أحدها، بتأثير ماكس فيبر، أن أحد بدائل التنمية السياسية والتحديث هو الأوليغارشية العسكرية العصرية، على اعتبار المؤسسة العسكرية هي الأكثر حداثة وتنظيماً في المجتمع، وأن العسكر هم الفئة الطليعية من طبقة وسطى جديدة. ويرى تيار آخر متأثر بالفكر السوفييتي أن ضعف البورجوازيات الوطنية في مرحلة الإمبريالية قد حول مسؤولية التطور والتنمية في العالم الثالث إلى الدولة، من طريق "التطور اللارأسمالي" أو "رأسمالية الدولة"، فمن الطبيعي أن تسمى الطبقة التي تسيطر على الدولة "برجوازية الدولة" التي يمثل العسكر أحد أجنحتها أو فئاتها. وثمة تيار ثالث يرى أن "العسكر لا يمثلون طبقة، وأن الدور الذي يعطى لهم كقوة ممثلة وموحدة للطبقة الوسطى الجديدة وكقوة محدِّثة ومطوِّرة للمجتمع هو دور غير واقعي. فما العسكر إلا نخبة اجتماعية تعمل لمصلحتها الخاصة، وتوظف من مختلف طبقات المجتمع، وتختار الأيديولوجية التي تناسب مصالحها وتديم هيمنتها وسيطرتها[1]. ونحن نميل إلى هذا الاتجاه الأخير، ولا نرى وجهاً للتيارين الآخرين، في سورية.

 

 

فالكشف الختامي الذي تقدمه لنا الأحداث الراهنة يبين أن المؤسسة العسكرية - الأمنية أو "مؤسسة الحرب والإرهاب"، على النحو الذي انتهت إليه، في حربها السافرة على الشعب، هي النواة الصلبة للبنية التسلطية ومصدر مشروعيتها الفعلية، وأن وظيفتها الأساسية، إن لم نقل الوحيدة، هي حماية النظام، بما هو نظامها، و"الدولة"، بما هي دولتها، والاقتصاد، بما هو "اقتصاد حرب"ـها على المجتمع. وليست مؤسسة بيروقراطية، بالمعنى الفيبري، لأنها تقوم على تسلسل الولاءات، والامتيازات وشبكة المصالح التي تعيِّن هذه وتلك، وتعيِّن علاقاتها بالفئات الاجتماعية ومجالَها الحيوي، المحلي والإقليمي والدولي. وليست ممثلة لطبقة، على افتراض أن المجتمع متبنين طبقياً، لأنها منفصلة عن الإنتاج الاجتماعي المادي والثقافي وعالة عليه. يؤكد ذلك ما انتهت إليه من عبث بالاقتصاد وإفقار منهجي للمنتجين، ليس الهدر والفساد والإثراء غير المشروع سوى صور من صورهما، علاوة على تدمير الطبقات الاجتماعية ولا سيما "الطبقة الوسطى" التي يفترض أنها تمثلها، وتحولها جميعاً إلى جماهير.

 

إن سجل تكاليف هذه المؤسسة، البشرية والمادية، المنظورة وغير المنظورة، وسجل حروبها الخارجية على "العدو" يؤكدان أنها كانت وبالاً على المجتمع والدولة، على الاقتصاد والسياسة وعلى الثقافة والأخلاق. وما الإشارات المهرَّبة تهريباً، في كتابات السوريين عن "نزع السياسة من المجتمع"، و"عسكرة الحياة السياسية"، و"السلطة الخفية"، و"الدولة الأمنية"، و"الاستبداد المحدث"، و"الدولة السلطانية"، و"السلطة الفعلية"، (في مقابل المؤسسات الشكلية، كمجلس الشعب والحكومة والإدارات العامة والقضاء) .. ما هذه الإشارات سوى تعبير مخنوق عن ذلك. لم يكن أحد من السوريين، وأنا منهم، يجرؤ على دراسة هذا السجل أو الإشارة إليه مجرد إشارة. وما زال كثيرون منا يتغنون بحرب تشرين "التحريرية" تغنِّيهم اليوم بالمقاومة والممانعة[2].

 

فلن يأمن السوريات والسوريون على حيواتهم ومستقبلهم وحياة أولادهم بوجود جيش ومخابرات قادته وعناصره من القتلة واللصوص والنهابين والمرتزقة الذين جندهم المحتلون الإيرانيون والروس وغيرهم، ومن المسلحين الذي سيُدمجون فيه، ولن يكون أمن وسلام واستقرار إلا بمحاكمة هؤلاء وأمثالهم من المدنيين. ومن يتذرعون بالخطر الإسرائيلي القائم بالفعل، لـ "الحفاظ على مؤسسات الدولة"، عليهم أن يدركوا أن "حماة الديار" وأمثالهم هم الذين مكنوا إسرائيل في جميع المواجهات السابقة، والذين يمكنونها في المواجهات الجارية.

 

 


[1] - خلدون حسن النقيب، المصدر السابق، ص 136 – 138.

[2] - راجع/ي بحثنا في كتاب خلفيات الثورة، الصادر عن المركز العربي للأبحاث وتحليل السياسات، 2013.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard