الانتظار .. الأبارتايد المعمّم
أثناء قراءاتي الأولى لماركس وإنجلز ولفلاسفة التنوير وبعض الأعمال الكبيرة التي عاصرت حربين عالميّتين عبرتا القرن الذي ولدت فيه، أتذكّر انطباعاً بصرياً لمفردة الإمبريالية العالمية، كان انطباعاً بصورة كائن خرافي برؤوس متعدّدة، لونه بنّي محروق، وهو كائن ليّن ولزج وسريع الحركة، تأمّلت هذه الصورة لسنوات، وما كان يشغلني حقاً هو أنه على افتراض كانت الكائنات تحتاج لمثال، كما تحتاج الوردة للضوء كي تنهض للحياة، فما هو مثال هذا الكائن الخرافي؟
إلامَ ينظر في تحوّلاته المرعبة على سطح الكوكب، ومن أين يستقي القِيَم التي تقوده إلى مثاله المُضمَر؟
الحقيقة أنني لم أقتنع بالإجابات التي قدّمها الكثيرون في كتبهم ودراساتهم، كاللوبي اليهودي والماسونية العالمية ومحاولات البحث في أعماق التاريخ عن روابط التوحّش وقِيَمها، وبدا لي ملامح تصّور خجول، في أن التجربة البشرية بمجملها، قد قدّمت لهذا الوحش الخرافي نماذج خارقة، هي التي تقدّم له بسخاء مثاله القِيَمي.
يكفي أن تولد في القرن العشرين أنظمة فائقة في التوحّش كالأنظمة الشمولية في الشرق الأوسط وإفريقيا والنظام الصهيوني في فلسطين، إنها الأنظمة التي قدّمت مثالاً لا ينضب بأدواته ومنظوماته المتوحّشة وكانت بالنسبة لذاك الكائن العالمي المتوحّش كأنها هدية من السماء بعد أن فقدت الهدية الأولى/ فكرة الله/ بريقها، وأصبحت مجرّد أداة أكثر منها ملهماً عبقرياً للسيطرة.
لقد استمرّ نظام الأبارتايد حتى تسعينيّات القرن الماضي، مؤكّداً أن اللعبة الديمقراطية في مواجهة الشعوب لا تجدي نفعاً، ولا بد من تأكيد نخبوية السلطة والعبودية العرقية تشريعياً، كما قدّم النظام الصهيوني أمثلة فاقعة في تشريع الاحتلال وقدّمت الأنظمة الديكتاتورية نماذج مذهلة في تشريع المافيا بما يتماشى مع الأنظمة الديمقراطية لنشاط ذلك الكائن، والمُلفت حقاً أن تصبح هذه الأنظمة بمثابة النبيّ الجديد بالنسبة لرأس المال.
لم تفلح الديمقراطية في مواجهة نهضة الستينيات الثقافية في الولايات المتحدة وثورة الطلاب في فرنسا، وكان لا بدّ من الاستعانة بالمثال المنحطّ للأنظمة الأكثر انحطاطاً، والبدء في تشريع العبودية المعاصرة عبر مؤسّسات عالمية عملاقة كمجلس الأمن والأمم المتحدة ومتفرّعاتها وصولاً إلى القوانين التنفيذية التي تكرّس تفوّق من يمتلك المال.
لقد دفن العالم نظام الأبارتايد في نهايات القرن الماضي، لينهض من جديد كضمير حيّ في نشاط سياسات الدول والشركات.
لقد سحق العالم /بأكاذيب مُشَرْعَنة/ديكتاتورية البعث في العراق، مستنهضاً أدوات تلك الديكتاتورية ومتفوّقاً عليها في تدمير المدن، وتفكيك الكيانات الاجتماعية الناهضة بأشد أنواع أدوات هذه الديكتاتوريات انحطاطاً /الطائفية/، ويجري الآن في سوريا هذا التبنّي الفاقع لمافيات أثبتت خدميّتها المنحطّة في القيام بالمهمّة على الوجه الأكمل، ومصدّرة تقنيّات جديدة ومُبهرة في إحكام قبضة المافيات المعاصرة على عنق البلاد ونهش ملامحها وتدمير أنفاس شعبها الذي أراد الحياة.
رصد الكاتب الجنوب أفريقي ج.م كويتزي، في روايته "في انتظار البرابرة" ملامح هامة في وعي الحرية، ووعي الاستبداد في الكتابة الأدبية والسرد الروائي، وفتح نافذة غير متوقعة لهذا الرصد.
إنه الانتظار
ذلك الزمن الرهيب الذي نجد أنفسنا في خضمه، الانتظار، الزمن الذي يجعلنا ساكنين بخفة من يراقب موته، كشاة وحيدة تقف وسط حلقة من مئات الذئاب الجائعة، يجعلنا مركزاً ساكناً للعدم.
ما الذي يفعله بنا ذلك الزمن، وماذا نفعل فيه؟
في انتظار البرابرة ينهض الخوف، فنبني الأسوار والقلاع حول بيوتنا ومدننا وبلادنا وطوائفنا وعقائدنا.
من هم أولئك البرابرة؟
الحقيقة التي تكتسح الوعي المعاصر، هي أن الخوف لا يحتاج إلى المعرفة، إنها تفككه، لذلك فإن غيابها هو شرط حضوره إننا نرفع في مواجهة الخوف كل ما يلزمه حقاً لتدمير المعرفة، نغرق في أدواته بخفة معاصرة ونتمترس خلف أسوارنا نمتهن تدمير الحياة، ذلك أننا .. من جديد، في انتظار البرابرة!