مَن يَصنعُ القرار؟
آلة العنف التي لم تتوقّف منذ سبعِ سنوات، وهي تحصد أرواح السوريين، زادت من وتيرة القتل في آخر شهرين، وكان للمدنيين الحصّة الأكبر من الضحايا، وأغلبهم من النساء والأطفال، وكبار السنّ وفق إحصائيّات مراكز التوثيق السوريّة.
كل هذا العنف ارتكبته الدول الضامنة بحسب اتّفاقيات خفض التصعيد التي تمّ التوصّل إليها في الآستانا في ظلّ عجز وصمت دوليّين، غريب للبعض، ومتوقّع للبعض الآخر، كما لم ترتقِ ردّة الفعل لدى السوريين إلى مستوى الوجع والدمار والتهجير الذي خلّفه هذا العنف، باستثناء بعض الجهود الخجولة في المناصرة التي أبدتها بعض المنظمات المدنية، والتي لم تكن متوازنة تجاه دعم قضايا المدنيين، فلم تستطع تلك المنظمات النأي بنفسها عن الصراعات السياسية، فوجدناها منقسمةً على نفسها تكيل بمكيالين في حالات كثيرة، إلّا ما ندر، تلك التي استطاعت أن تخلق توازناً في العمل المدني السوري.
موقف المجتمع الدولي، وخاصة مجلس الأمن، أمام كل تلك الفظائع والصور المأساوية كانت صادمة؛ لعدم قدرتها على اتّخاذ أي خطوة تجاه ما يحدث، وترك المدنيين يواجهون – وحدَهم - الحكومات المتوحّشة والمتعطّشة للسيطرة والمال، واكتفت بالإدانة والدعوة إلى ضبط النفس. فالدول كانت تستطيع قطع علاقاتها مع روسيا وسحب سفرائها، كما فعلت مؤخّراً في قضية تسميم الجاسوس سكيربال، وإيقاف التبادل الاقتصادي، كما كان بإمكانها طرد الحكومة السورية من الأمم المتحدة، وإيقاف مقعدها، والكثير الكثير من الإجراءات التي من شأنها ردع الدول التي تمارس العنف ضدّ السوريين، ولكن هذا لم يحدث، لأن تلك الحكومات محكومة بمصالحها الاقتصادية بالدرجة الأولى، تتحكّم بها شركات ولوبيّات اقتصادية، وأصحاب مصالح، وخاصة لوبي السلاح.
تُعدّ الدول والمناطق التي تشهد النزاعات والحروب الأهلية بيئة خصبة، وفعّالة لهذه اللوبيّات التي تحاول دائماً خلق شركاء لها في مناطق النزاعات، تقوم بعمليات السيطرة، والضبط الاجتماعي، وصناعة الرأي العام، كما يحدث في الدول المتقدّمة من خلال جماعات الضغط المختلفة.
لعلّنا نذكر في هذا السياق أن جزءاً كبيراً من عدم قدرة أمريكا على احتواء تركيا، سببه القضاء على جماعة فتح لله كولن بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، فجماعته كانت متغلغلة في كل مرافق وأركان الدولة، في المؤسّسات المدنية والعسكرية، بالإضافة إلى تأثيرها الاجتماعي الكبير من خلال مؤسّساته الدينية، وكانت لديها قدرة كبيرة على صناعة القرار التركي، إذ كانت تشكّل أحد الأركان الأساسية للدولة العميقة في تركيا.
تتميّز هذه اللوبيّات بامتلاك أموال، ونفوذ واسع، ممّا يمنحها التفوّق؛ ففي أمريكا مثلاً، موّلت الجمعية الأمريكية الوطنية للبنادق أو السلاح جزءاً من حملة ترامب الرئاسية، والذي طمأن بدوره حائزي الأسلحة بأنه سيحمي حقوقهم الدستورية في حمل السلاح، وسيلغي المناطق المحظور فيها حمل أسلحة، إذا فاز في الانتخابات، واتّهم هيلاري كلينتون بالسعي لإضعاف حقوق حمل السلاح.
وتصنَّف الجمعية الأمريكية الوطنية للبنادق أو السلاح "إن آر إيه" على أنها الراعي الرسمي للأسلحة الشخصية، فالمنظمة التي تأسّست في عام 1871، وبلغ عدد أعضائها 5 ملايين أمريكي، تقول إن مهمّتها الأساسية تتمثّل في نشر الطُّرق المُثلى للتعامل مع الأسلحة النارية، وتعريف الأمريكيين بأي تشريع أو قانون خاص صدر أو سيصدر بها، لكن المهمّة الحقيقية للجمعية هي العمل كلوبي للسلاح، وتُعتبَر أقوى جماعات الضغط في واشنطن، وتُقدَّر ميزانيّتها السنوية بـ200 مليون دولار، أنفقت الجمعية المذكورة في 2014 حوالي 28 مليون دولار على الأنشطة السياسية، حيث تمّ صرف 15 مليون دولار في الحملة الانتخابية ضــــد المرشّــــحين الديمقراطييـــن للكونغرس، وتمّ إنفاق 11 مليون دولار لدعم المرشّحين الجمهوريين المؤيّدين لأهداف الجمعية. وحسب صحيفة «واشنطن بوســت» فإن نفوذها يتعاظم باطّراد، وأسهمت الجمعية في فوز أربعة من بين كل خمسة مرشّحين دعمتهم في انتخابات الكونغرس، وهي تسعى على الدوام أمام المحاكم لإبطال أي قوانين يصدرها الكونغرس للحدّ من انتشار الأسلحة.))
وفي ألمانيا لعبت اللوبيّات ذات الدور، حيث أفادت مجلة (دير شبيغل) في أحد تقاريرها، بأن شركات ألمانية زوّدت النظام السوري على مدار ثلاثين عاماً في عهدي حافظ الأسد وبشار الأسد، بموادّ تُستخدَم في صناعة الأسلحة الكيميائية.
وأوضحت المجلة أن منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، أعطت الحكومة الألمانية قائمة بأسماء الشركات الألمانية التي تزوّد النظام السوري بمواد قد تُستخدَم في صناعة الأسلحة الكيميائية. إلا أن الحكومة الألمانية، بحسب المجلة، حافظت على "سرّية" اللائحة لأن الكشف عنها سيُلحق الضرر بالمصالح الخارجية لألمانيا.
واتّهمت المجلةُ الحكومةَ الألمانية بأنها كانت على دراية بتزويد شركات ألمانية النظام السوري بموادّ خطيرة، قبل تقديم منظمة حظر الأسلحة الكيميائية لائحة أسماء الشركات، ولفتت دير شبيغل إلى أن وثائق وزارة الخارجية الألمانية تثبت ذلك.
كما شهد عام ٢٠١٧ نقلة كبيرة في تجارة بيع الأسلحة، حيث أكّدت دراسة أن مبيعات الأسلحة في العالم، بلغت أعلى مستوى لها منذ الحرب الباردة في عام ٢٠١٧. وتصدّرت منطقتا الشرق الأوسط وأوقيانوسيا قائمة المشترين، فيما استحوذت أمريكا وروسيا والصين وفرنسا وألمانيا على حصّة الأسد من المبيعات.
وصفقات السلاح لا تتمّ بين شركات بيع السلاح والحكومات، بل تتمّ بين الحكومات، بحيث تلعب الحكومة التي تنوي البيع دور الوسيط بين الشركة والحكومة التي تنوي الشراء، وغالباً ما يقود هذه الوساطة أعلى قمّة هرم السلطة، فدعوات تيريزا ماي وبورس جونسون المتكرّرة للسعودية لإيجاد حلّ سياسي في اليمن، يحمل قدراً كبيراً من التناقض والبراغماتية غير المبرّرة بعد صفقات السلاح الكبيرة التي زوّدت بها بريطانيا السعوديةـ والتي يتمّ استخدامها في اليمن.
ولوبيّات السلاح ليست الوحيدة، فهناك لوبيّات النفط والغاز وشركاتها العابرة للقارات، التي تمتلك أيضاً لوبيّات وجماعات ضغط قوية، تمارس ضغطها على صُنّاع القرارات، وصياغتها في الدول ذات الاقتصادات الكبيرة. فتوقيع بعض عقود النفط على مرّ التاريخ، كلّفت ألوف الضحايا الأبرياء..
إن واحداً من أسباب خسارة الكورد لمدينة كركوك، هو الصراع النفطي، حيث قرّرت شركة النفط الأمريكية "إكسون موبيل" الانسحاب من مشاريع مشتركة مع شركة "روس نفط" في روسيا، وذلك تماشياً مع العقوبات الغربية المفروضة على موسكو.
وبحسب "رويترز"، فإن استثمار "روسنفت" يتزامن مع أزمة في علاقة كردستان مع الحكومة المركزية في بغداد، منذ أن أجرى الإقليم استفتاء على الانفصال في 25 أيلول 2017، ما أثار غضب الجارتين إيران وتركيا.
فالهدف الأساسي لهذا اللوبيّات، هو الربح والسيطرة دون الاكتراث لحياة الناس، فهي تبيع ما من شأنه سرقة أحلام الشعوب، وهَتْك أرواحهم بلا رحمة، وعلينا أن ندرك أن مواطني الدول الكبرى أيضاً يعانون من طمع وجشع هذه اللوبيّات، وعلينا أن ندرك أيضاً أن ثمّة الكثير الكثير من مواطني هذه البلدان يحاربون نفوذ هذه اللوبيّات، ويسعون إلى تقليص دورها وتحكّمها في الحكومات، وجعل معايير حقوق الإنسان، والحرّيات هي الأساس في التعامل بين الدول.
ولكن ما يعيب لوبيّات صناعة السلام، ضعف إمكانيّاتها، وتشتّت جهودها، ونقص مواردها الاقتصادية، والانشقاقات والخلافات الفلسفية بين قياداتها وأفرادها، فصناعة السلام أصعب بكثير من صناعة الحرب، كما أن صناعة السلام تحتاج إلى جهود ووقت طويلين، وقادتها يشكّلون قلّة بالمقارنة مع تجّار وصُنّاع الحروب، وأكبر مشاكلها هي عدم القدرة على تنسيق الجهود وربط بعضها ببعض، فالمنظمات المحلية المختلفة في الدولة بحاجة إلى ربط وتنسيق جهودها معاً لخلق الفارق.
فكلّ ما يجري من حولنا، ما هو إلّا مجرّد لعبة وخيارات سياسية، يتقنها البعض لسببين لا ثالث لهما: الأول هو فهمه لقواعد اللعبة وقدرته على تحديد خياراته، والثاني هو عدم فهم خصومه لقواعد اللعبة وعدم قدرته على تحديد خياراته.