مأساة أهالي مخطوفي دوما
أُحبِطت مئات العائلات السوريّة حين تكشّف لهم أن مصير أبنائهم المخطوفين في دوما ظلّ مجهولاً بعد الوعود التي سمعوها، والكلام عن "انتصار" كانوا فيه المهزومين.
يبدو جليّاً أن موضوع المخطوفين لدى الفصائل الإسلامية في الغوطة الشرقية (فيلق الرحمن أو جبهة النصرة أو جيش الإسلام) كان آخر همّ المفاوض الأسدي، ومن طبيعة الأمور ألّا يكون المفاوض الروسي أكثر اهتماماً بهذا الموضوع. اتّضح للجميع أن هذا البند لم يكن له أي أولويّة، وأن المفاوض الأسدي لا جواب لديه عن مصير آلاف المخطوفين الذين تجمّع أهاليهم المنكوبون في صالة الفيحاء واهمين أن لهم حصّة في "الانتصار"، فاكتشفوا أنهم في الموقع المهزوم، كما قال أب لأحد المخطوفين، في فيديو ينطوي إلى جانب القهر على انكشاف وهم طالما ساد في وعي هؤلاء المنكوبين.
لم يجد أحد من المسؤولين ما يدفعه للتحدّث إلى هؤلاء الناس، لتوضيح الصورة، أو لقول كلمة طيّبة أو حتى للقول مثلاً: إننا كنّا نكذب "لضرورات وطنية"، فطالما كان في هذا التعبير سحر أسدي خاصّ اعتاد الناس أمامه وبتأثيره على لملمة مآسيهم وبؤسهم؛ لأنهم صدّقوا يوماً:"كلّنا للوطن". "الضرورات الوطنية" التعبير الزائف الذي سرق أعمار وحيوات وسعادة هؤلاء الناس، ولا يزال.
لم يجد أحد من المسؤولين الأسديين حاجة إلى أن يشرح لهؤلاء الخائبين الباكين المطعونين في أكبادهم أين اختفى الآلاف من أبنائهم. وإذا لم يعودوا أحياء فأين جثامينهم؟ لكن للحقّ، لم تقصّر القيادة القطرية لحزب البعث (نعم!)، فقد فركت عينيها ثم قالت: "وبذلك تكون الدولة قد أوفت بوعدها بتحرير كامل المختطفين". كامل المخطوفين هو كناية عن 140 مخطوف، فيما كانت حكومة الأسد تتحدّث عن خمسة آلاف مخطوف. ولكن هذا لم يَفُتِ القيادة القطرية أيضاً، فقد أشارت إلى أن "ما تتداوله وسائل التواصل الاجتماعي عن وجود آلاف المختطفين لدى تنظيم "جيش الإسلام" في دوما غير صحيح". ليست الوزارة المسمّاة "مصالحة وطنية"، هي من تداول هذه الأرقام، وليست هذه الأرقام هي أسماء لها كنى واسم أب وأمّ ومكان تولّد، إنها مجرّد كلام على وسائل التواصل الاجتماعي! وكأن الناس نسيت الصور التي عرضها أخوة القيادة القطرية في المنهج، أقصد جيش الإسلام، وظهر فيها أعداد كبيرة من المختطفين من مدينة عدرا العمالية. طبعاً، لا يستحقّ كلام "القيادة القطرية" التعليق، إلا لأن هناك "أسديين" كثر يقولون به، لضرورات وطنية أيضاً!
على هذا يبدو أن "القيادة القطرية"، ومَن يقول قولها، يبرّئون جيش الإسلام الذي يسمّونه "إرهابي" من قتل المخطوفين، لأنه كلام "غير صحيح". رغم أن وسائل الإعلام الأسدي نفسه نقلت عن مخطوفين محرّرين قولهم إنه جرى تصفية الكثير من المخطوفين. ورغم أن تقارير صحفية تحدّثت عن إقدام جبهة النصرة وفيلق الرحمن على إعدام ما يصل إلى 3000 مخطوف قبل مغادرتهم جوبر. كل هذه المأساة لا تحتاج إلى تقصّ وبحث عن الجثامين ..إلخ، تحتاج فقط أن ترمى في سلّة مهملات "القيادة القطرية" ملفوفة في ورقة مكتوب عليها "غير صحيح".
دعونا نفترض أن المفاوض الأسدي أهمل ملفّ المخطوفين لكي ييسّر الاتّفاق؟ لكن لماذا لم يعامل طلب جيش الإسلام بتوجّه مقاتليه إلى درعا أو القلمون بالدرجة نفسها؟ ولماذا أصر النظام على رفض هذا الطلب، ولو كلّفه ذلك معركة اقتحام دوما؟ ولماذا لا يكون لبند المخطوفين القيمة نفسها؟ ثم لماذا لم يحصل المفاوض الأسدي "المنتصر" على أماكن المقابر الجماعية التي دُفن فيها المخطوفون الذين قُتلوا كما يحصل المفاوضون، ولاسيّما "المنتصرون" منهم، على خارطة الأنفاق وعلى خارطة الألغام ..إلخ؟ هل أدلّ على إهمال ملفّ المخطوفين من أن يقوم ضابط، تأثّر بمرأى هؤلاء الأهالي، بوقف الباصات التي تقلّ مسلّحي جيش الإسلام مطالباً إياهم بالكشف عن مصير المخطوفين؟ ألا يشير هذا إلى أن موضوع المخطوفين كان آخر هموم المفاوض الأسدي؟ هل يوجد أكثر من هذا الاستهتاربمصائر ومصائب الناس؟
هكذا يتبخّر المخطوفون، وتتحوّل الأسماء الثلاثية إلى مجرّد حبر على ورق، وتتحوّل نكبات الناس بفقد أبنائهم وأحبّتهم إلى مجرّد أوهام، فقط لأن "الدولة" منهمكة بما هو أهمّ! هل يعقل أن تنشغل الدولة بمن فقد أثر ابنه أو أبيه أو أخيه ..إلخ، بينما هي تواجه خطر ضربة "غربية" مُحتمَلة؟ دائماً لدى الدولة ما يشغلها عن محكوميها.
مع ذلك يصرّ الإعلام الأسدي على اعتصار عبارات الولاء من الضحايا. لا يحقّ للمخطوف أن يسأل إلى أين أنتم ذاهبون بنا؟ بل عليه أن يوجّه التحيّات والشكر. لا يحقّ له أن يسأل بأي منطق تريدوننا أن نصدّق أنكم تعملون على تحرير بلد من الإرهاب، في حين يغرق مسؤولو الدولة، في هذه الأوقات، بخيرات منهوبة من الدولة؟ أو هل يمكن لدولة فاسدة أن تحارب الإرهاب؟ وهل الإرهاب سوى شقيق الفساد الروح بالروح؟ لا يحقّ للسوري أن يختلّ عقله حين يخرج مسؤول بكل مظاهر النعمة وإكسسوارات الغنى، كي يفاخر بالأم التي قدّمت خمسة من أولادها فداء للوطن، وهي تنام على الحصير.
اعتصار الولاء من الضحايا يقتضي قطع حبل التضامن مع المنكوبين. لا يوجد تضامن فعليّ مع أهالي المخطوفين المنسيّين الذين ضاع أثرهم. هنا فرح وطبول وتمجيد، وهنا بكاء وإحباط وصراخ لا يجد من يسمعه. هذا هو الحال المطلوب من نظام الأسد، شعب بدون أواصر وبدون مشاعر تضامنية. رسالة نظام الأسد تقول: نحبّكم أحياء مقاتلين على جبهاتنا وننكركم مخطوفين أو أمواتاً.
الصور المرعبة التي خرجت من داخل أقبية وسجون نظام لا تكشف فقط أخلاق وطريقة تعامل هذا النظام مع معارضيه، إنها تكشف أخلاقه وتعامله مع الإنسان عموماً بمن في ذلك مؤيّديه. المبدأ بسيط ومنسجم، السلطة المنفلتة من الحساب، كسلطة الأسد، لا ترى إلا ذاتها. التضحية بالمؤيّدين في سبيل السلطة، يعادل تماماً التخلّص من المعارضين في سبيل السلطة. الإنسان في خدمة السلطة وليس العكس، هذا هو المبدأ الأسديّ الخالد.