مؤتمر بروكسل وما رافقه من جدل وانقسام
يبدو أن مؤتمر بروكسل لم يكتفِ بجمع السوريّين بمختلف انتماءاتهم، بل ساهم أيضاً بإظهار عمق الخلافات والانشقاقات، كلٌّ حسب موقعه وموقفه من القضية السورية. ومن الطبيعي جداً وجود مساءلة مجتمعيّة، وأن يتمّ مساءلة جميع المشتغلين في الشأن العام، وهذه المساءلة تتّخذ أشكالاً متعدّدة في العديد من الدول، وسورية ليست باستثناء. ويمكن تحديد نقاط عدّة حول المساءلة:
1. طالت المساءلة منظمات المجتمع المدني جميعها بدون استثناء، ولم تَطَلِ المنظمات المشاركة في مؤتمر بروكسل فقط، وكانت هجوماً على المشروع المدنيّ ككلّ.
2. انحرفت المساءلة عن مسارها الإيجابيّ لتأخذ شكلاً من أشكال الثأريّة بدلاً من مناقشة المحتوى الوارد في نصّ الرسالة، وتحوّلت إلى تصفية الحسابات "المنظّماتيّة" والشخصية بين العديد من المشتغلين في الشأن العام.
3. انحرفت المساءلة عن مسارها وتمّ تحميل المجتمع المدني أعباء القضية السوريّة كلّها، متناسين دور الأطراف التي ارتكبت الفظائع في سورية، وعلى رأسهم العسكر الذين أوصلوا البلاد إلى ما هي عليه.
4. انحرفت المساءلة عن مسارها، وتحوّلت إلى أداة لانتقاد آليّة العمل في غرفة المجتمع المدني التي يشوبها الكثير من الملاحظات التي لا تنتهي، بدءاً بآلية الاختيار وتحكّم مكتب المبعوث الخاصّ دي مستورا مع مجموعة من السوريّين.
5. الطرف الذي تعرّض للمساءلة لم يستطع امتصاص أو تقبّل الانتقادات التي وُجّهت إليه، على الرغم من وجود كثير من الملاحظات حول محتوى الرسالة، والتي من شأنها تصويب العمل المدني في سوريا.
هذه المساءلة وما رافقها من تخوين، وأيضاً تشرذم في المواقف حول رسالة مؤتمر بروكسل، يتعلّق ببنية المجتمع المدني السوري، إذ من المعلوم أنه مجتمع غير حيادي، ولديه مواقف سياسية واضحة، سواء تجاه النظام السوري أو تجاه الأطراف الأخرى، وهو شيء مفهوم في ظلّ تعقيدات الوضع السياسي السوري، ولكن من غير المفهوم عدم حياديّة المجتمع المدني تجاه المجتمع بحدّ ذاته، فموقف العديد من المنظمات تجاه المدنيين في عفرين ووقوفها صامتة تجاه الانتهاكات، يوضح لنا فقدان المجتمع المدني لبوصلته، والتي من المفروض أن تكون بوصلة إنسانية تعزّزها حقوق الإنسان.
المجتمع المدني السوري منقسم بين مجتمع مدني مؤيّد ومجتمع مدني معارض، بمعنى سياسيّ لا حقوقيّ، وهو ما كان لاعباً رئيساً في تحويل المؤتمر إلى مؤتمر تفاوضيّ، مبتعدين عن المحور الرئيسي، وهو حقوق الإنسان، ممّا جعلهم يسعون إلى توافقات بدلاً من تثبيت قِيَم. إن انقسام المجتمع المدني السوري، وعدم توفّر الوقت الكافي، حوّلت صياغة البيان إلى صياغة سياسية أكثر منها صياغة حقوقية، فَفَقَدَ روح المجتمع المدني الإنسانية وبوصلته الحقوقيّة.
وبما أن المؤتمر أخذ الشكل التفاوضي، فمن الطبيعي أن تسود قاعدة رابح – رابح، وخاسر – خاسر، أي بما معناه سوف تحقّق نقاطاً لصالحك مقابل تنازلك عن نقاط لصالح خصمك المفاوض، وبالخوض في النقاط المكتسبة والنقاط المفقود، فإننا بحاجة إلى تفنيدها بشكل جيد للوصول إلى نتيجة.
1.الحلّ السياسي وفق مسار جنيف، ووفق القرار 2254، ورفض كافة أشكال العنف وفي مقدّمتها استخدام أسلحة الدمار الشامل، هو الحلّ الأمثل، والسبيل الوحيد والأفضل للسوريّين، وهو ما يشكّل اليوم سقفاً سياسياً عالياً للسوريّين، وخاصة للمعارضة بعد كل إخفاقاتها السياسية والعسكرية.
2. الهندسة الديموغرافية حقيقة في سوريا، والجميع يعاني منها قبل الثورة وبعدها، ولكن للأسف يتم العمل على ملف التغيير الديموغرافي كملف سياسي لا ملف وطني، وهو ما يفقد أصحابها مبدأ الحق لذلك تخضع لمبدأ المنتصر، وثقافة الغنيمة.
3. لا يوجد شيء اسمه العدالة الانتقالية الوطنية غير الانتقاميّة وغير المسيّسة، إنما يوجد عدالة انتقالية فقط، من مقوّمات ومعايير نجاحها ألّا تكون مسيّسة، وألّا تكون انتقاميّة، وأن تكون أمام محاكم وطنيّة، إذا توفّرت.
4. كشف مصير المعتقلات والمعتقلين، والمختطفات والمختطفين ألا يشكّل مطلباً للسوريّين منذ اليوم الأول للمفاوضات.!؟
5. رغم أن الرسالة لم تتطلب رفع العقوبات كما يروّج له البعض، انما اكتفى بإعادة النظر في العقوبات التي تؤثر سلباً على قطاعات التعليم والصحة وسُبل العيش. يبقى للأمر حساسية مفرطة لأن العقوبات الاقتصادية ذات صلة أساسية بالحلّ السياسي، وهي من الأدوات القليلة المتبقّية للضغط على حلفاء النظام، وبالتأكيد إذا قمنا بسؤال السوريّين الذين يعيشون في مناطق سيطرة النظام عن موقفهم من العقوبات، فإن الغالبية العظمى سوف تؤيّد إلغاءها؛ لأنها تلقي بظلالها عليهم، ومن سوء حظّنا، نحن السوريّين، أن هذا المطلب يشكّل هدفاً مشتركاً للنظام السوري، ولفئة كبيرة من السوريّين، ورغم ذلك يجب أن تقترن العقوبات الاقتصادية بالتقدم في العملية السياسية.
6. فشلت المعارضة في تأمين الوثائق القانونية للسوريّين، وبالمقابل حافظ النظام على شرعيّته القانونية بإعطاء الوثائق، وأغلب السوريّين الموجودين في دول الجوار هم معارضون هُجّروا من بلدهم، وإذا كنّا نريد أن نزيل الصفة الشرعية عن القنصليّات، فعلينا مقاطعتها، وعدم دفع الأموال، والرشاوى لها مقابل الحصول على جوازات سفر أو تمديدها لا أن ننافق لأن الرسالة طالبت بتحسين الخدمات للسورين، وتقديمها بكرامة.
7. عودة اللاجئات واللاجئين الآمنة والطوعية، وضمان معاملتهم وفق اتّفاقية اللاجئين للعام 1951، وزيادة دعمهم في دول الجوار، لا أعتقد بوجود عاقل يرفض هذا المطلب، سواء كان مؤيداً أم معارضاً.
8. توفير بيئة عمل لمنظمات المجتمع المدني من الناحية القانونية والتشريعية، هو مطلب محقّ، وخاصة بعد كل المعاناة التي تعانيها المنظمات في دول الجوار.
9. عدم إدانة انتهاكات النظام السوري بشكل واضح، هو مطلب محقّ للمنتقدين، فالنظام استخدم جميع أنواع العنف، والعقاب ضدّ المعارضين له، ولكن هذا لا يعني أبداً غضّ النظر عن انتهاكات الأطراف الأخرى المتعدّدة.
خلاصة القول.. إن المؤتمر حقّق أهدافه، إذ تشكّل الرسالة أكبر اتّفاق حصل بين المحور المؤيّد والمحور المعارض، وأغلبها لصالح محور المعارضة. فالرسالة، جملة وتفصيلاً، لصالح السوريّين بمختلف انتماءاتهم، ولكن من سوء الحظّ، مرّة أخرى، أن تتقاطع مصالحنا واحتياجات مجتمعاتنا المختلفة مع الأطراف العسكرية والسياسية المسيطرة.
لقد نجح المؤتمر في جمع 4,4 مليار دولار مساعدات للسوريّين، أغلبها للسوريّين في دول الجوار؛ لتحسين أوضاعهم والحيلولة دون الوصول إلى أوروبا، وبالمقابل استمرار الاتحاد الأوروبي في استخدام ورقة إعادة الإعمار، والعقوبات كورقة ضغط للانتقال السياسي، وتثبيت أنه لا حلّ في سوريا خارج مسار جنيف وقرارات الأمم المتحدة وخاصة القرار 2254، وتثبيت دور منظمات المجتمع المدني في عملية الانتقال السياسي في سوريا، وهو ما استفزّ العسكر والسياسيّين الذين- يوماً بعد يوم- يفقدون دورهم نتيجة إخفاقاتهم.
إذا كان لابدّ لنا من الندم، فعلينا أن نندم لأننا فقدنا دور القيادة - حتى في المؤتمرات التي تُعقَد باسم السوريّين - الذي ذهب إلى المنظمات الدولية، وعلينا أن نندم على ما أضعنا من الفرص بمراهقاتنا السياسية منذ العام ٢٠١٣، وعلينا أن نندم للدور السلبيّ والهدّام الذي يصبح يوماً بعد يوم جزءاً من ثقافتنا.
واذا كان لا بدّ لنا من الندم، فعلينا أن نندم لسكوتنا على الانتهاكات المتكرّرة من أجل أهداف سياسية قصيرة الأمد.
وفي النهاية لا يسعني إلّا أن أتساءل عندما نقول سوريّين: مَن نقصد بهم؟ هل هم فئة معيّنة دون أخرى؟ بعد كل إخفاقات المعارضة، هل تشكّل الرسالة انتصاراً للمعارضة أم للنظام؟