الرسالة التي قسّمت المجتمع المدنيّ السّوريّ
استطلاع رأي حول الرسالة التي قدمت لمؤتمر بروكسل
تدور نقاشات حادة بين النشطاء والمشتغلين في مجال المجتمع المدني السوري حول مؤتمر بروكسل الذي عُقد الثلاثاء الماضي للهيئات المانحة، ورسالة المجتمع المدنيّ السّوري، التي قدمت للمؤتمر من قبل ممثلي 36 منظمة سوريّة تمت دعوتها للحضور.
هذة الرسالة ساهمت في إظهار عمق الخلافات، والانقسامات التي تعتري الحالة المدنية السورية، والتي يفترض أنها تستند إلى مبادئ حقوقية بالدرجة الأولى تتمثل في خدمة المجتمع.
مجلة (صور) حاولت استطلاع رأي بعض العاملين بالشأن المدني، طارحةً عدة أسئلة تبين آراءهم حول مخرجات مؤتمر بروكسل، ورسالة المجتمع المدني السوري التي أثارت كل هذا الجدل واللغط على وسائل التواصل الاجتماعي، والانقسام الحاد الذي خلفته بين المنظمات السوريّة.
يرى علاءالدين الزيات المدير التنفيذي لمنظمة تماس، مقيم في تركيا، وأحد المشاركين في صياغة الرسالة، أن التفاعل الذي حدث بعد رسالة المشاركين في الفعالية الجانبية المدنية في بروكسل يعتبر نقاش سيبنى عليه الكثير من الآمال، حيث لم تشهد منظمات المجتمع المدني حراكاً معمقاً يطال الهوية، والبنية، والدور، والوضع يدفع بهذه البنى نحو ملامح أعلى في الهوية، على الرغم مما شاب عدد من النقاشات من تخندق، وحوارات متاريس، سواء في ردود الأفعال التي غادرت مساحة الحوار إلى مساحة التخوين، أو الدفاع المستميت عن الرسالة، وكأنها غير قابلة للنقد.
يقول علاءالدين "كأحد المشاركين في مجموعة الصياغة كان يهمني، مسار العملية، وتفاصيلها الإجرائية أكثر بكثير من الأثر المتبقي للرسالة بعد تلاوتها في المحفل، لأني أعتقد أن هذا المسار هو الهام، ووهو قابل للبناء، والتطوير في حين أن الرسالة حتى لو اعتمدت بشكل تشجيعي كوثيقة، لكنها لن تغير في استراتيجية الاتحاد الأوروبي، أو المانحين فيما لو كنا ننظر بواقعية للأمر".
أما من حيث المضمون، فإن المعنى الحقيقي لاختراق خطوط الصراع، وتقديم رؤية مجتمعية سورية لمختلف هواجس السوريين كان جلياً في معظم مفرداتها، وهذا لا يفسر بأنه بازار سياسي للتفاوض، ولا معدلات الحد الأدنى بل تعبيراً عن قدرة عدد من السوريين على مغادرة خنادقهم القاتلة، والبحث في تفاصيل دورة مجتمعهم الذي يزداد تآكلا شهراً بعد شهر".
ويضيف الزيات "كان سؤالنا المستمر للمنتقدين حول تفريط الرسالة بمبادئ العمل المدني، ومدى تعاطيها مع قضايا السياسة من منظور سلطوي بينما القراءة الهادئة من خارج منصة الخطاب الثوري ستكشف إلى أي مدى المحتوى الاجتماعي بارز، وجلي في أغلب الفقرات . هل هي رسالة كاملة الوضوح والرؤى؟ بالطبع لا، هي محاولة أولى لفعل من هذا النوع، ولن يعيبها شدة النقد، بل على العكس، هذا ما يجعلنا نهتم بكل المداخلات التي وصلت بحلوها ومرها، لنكون أوفياء للأفكار التي سطرها مجموعة من الشجعان طلَّقوا خنادقهم، ولم يطلِّقوا مبادئهم".
وقال: " ماذا بعد ؟ نعم العنوان المعضلة الذي لم يُقرأ، ولم يقدم حاملي الرسالة على أنهم ممثلو المجتمع المدني كان خطأ غير مقصود، وأيضاً آلية التمثيل كانت، وماتزال قاصرة عن تقديم مساحة متوازنة تشمل الجميع، ويجب إعادة النظر فيها، أما الاختراق الحاصل الذي سببته الرسالة، فسيتتابع تدريجياً إلى أن نقول هناك مجتمع مدني سوري يعيد اكتشاف مساحات حقوقه، وبنيته وتعبيراته المنظمة، وهو يستحق الحرية والكرامة والعدالة، وعليه أن يبرهن عن هذا الاستحقاق بتماسكه، ووحدته، وقدرته على صناعة التغيير.
والنقطة الأخيرة التي أثارها علاءالدين الزيات حول "العنوان المعضلة" بحسب وصفه كان خطأ غير مقصود، والذي علق عليه بسام سفر صحفي، وناشط مدني وسياسي مقيم في دمشق بقوله "مهما كانت صفة منظمات المجتمع المدني، وممثلوهم الذين التقوا في بروكسل لا يحق لهم التحدث عن المجتمع المدني السوري بصفة عامة، وإنما عليهم التحدث باسم منظماتهم، فالمجتمع المدني السوري غني، ومتنوع تنوع وغنى المجتمع السوري. وبالتالي كان المطلوب منهم التوقيع باسم منظماتهم. ويجري من خلال هذا التعاطي استغراق الحالة المدنية السورية وفق مفهوم عزل المجتمع المدني السوري عن السياسة، ووفق معايير خاصة بهذه المنظمات باتجاه السعي لخلق مساحة رمادية تجعل من المجتمع المدني مطية لتمرير رسائل متعارضة ومتعاكسة في اتجاهات متعددة، تحت شعارات الحيادية، وعدم التدخل في السياسة، وأن ما يحتاجه المجتمع السوري مزيداً من تعميق الصلة لمعرفة احتياجاته الحقيقية بعيداً عن التماهي الزائد في رغبات الغير في التشغيل.
ويبدي فاروق حجي مصطفى المدير التنفيذي لمنظمة برجاف للإعلام والحريات وبناء القدرات رأياً مشابهاً لما جاء علاء على ذكره، حيث يرى أن المشاركين في المؤتمر من المجتمع المدني السوري تنفّسوا الصعداء لأنّه، وبالرغم من حجم الاختلافات استطاعوا أن يضعوا اللبنة الأولى لبناء التوافقات في المشهد السوري، في الوقت الذي يعجز النظام والمعارضة عن صياغة خطاب من خمس كلمات توجه للعالم، فإنّ المجتمع المدني السوري الذي حضر فعاليات بروكسيل استطاع أن ينجز توافق على أهم تحديات المرحلة، واحتياجاتها ومآلاتها. حيث وقف الكل ضد احتلال مناطق من سوريا، وطالبوا بانسحاب كل الأطراف منها، وكما أنّ العدالة الانتقالية وتطبيقها بالروحية الوطنية لا الانتقامية ممر لإحلال السلام إلى ذلك، مثل فك الحصار الإقتصادي على مجال التعليم، والصحة، وما يحتاجه الناس في حياتهم اليومية، واعتبار القرار الأُممي 2254 هو مقاس الحل، وليس مكان آخر.
يقول فاروق حجي مصطفى "الانطلاق بالمسؤولية تجاه الناس، والتفكر بحالهم وقضاياهم قد يزعج السقف السياسي من الحيزين المعارضة والنظام، وإن اختراق الجدران التي بنتها، وحمتها المعارضة، والنظام معاً من أصعب المهام التي يواجهها المشتغلون في المجال المدني، ويضيف "ثمة من يرى بأن معادلة (علينا أن نكون منتصرين)، هي التي تشغل بال الجميع. بيد أن ما حدث في بروكسل هو أمر آخر تَمثّل في أنّ الكل يخسر، والمنتصر الوحيد هو تجاوز الشقاق، والخوض في معركة بناء توافقات من أجل بناء مستقبل البلاد، لا يمكن أن تصبح سوريا كما تريد المعارضة، ولا كما يريد النظام. فسوريا المستقبل تصنعها التوافقات بين المكونات المجتمعية والسياسية، وتأسيس لثقافة مختلفة على النمطية السائدة قائمة على نفي فرض رأي على الآخر، بل فرض كل الاّراء على المشهد للخروج برأي يعبر عن جميع البيئات، والمكونات، أو لنَقُل الجماعات.
لكن هناك من يرى الموضوع بطريقة أخرى تعارض كلياً ما أتى على ذكرها المستطلعة آرائهم، بأن ما حدث هو انعكاس لموازين القوى بعد الهزائم العسكرية للمعارضة، ومحاولة النظام استرجاع كافة المناطق التي خرجت عن سيطرته، وبالتالي إعادة تأهيل النظام من جديد دولياً.
الدكتور جلال نوفل طبيب نفسي ومختص بحالات الصدمة والأزمات مقيم في مدينة غازي عنتاب التركية، ويدير أحد المراكز الصحية هناك، يقول "ما يحصل يعكس ميزان القوى الراهن، والتحضير لإعادة تأهيل نظام الأسد. ورسالة المنظمات السورية هي تأكيد للطابع السياسي لما يسمى منظمات المجتمع المدني باعتبارهم ملحقين بالأطراف الممولة والداعمة لا منظمات مجتمعية بل منظمات NGOs خارج سوريا والخارجة عن سيطرة النظام. وتلك التي تحت سيطرته هي GOs ملتزمة بسياسات السلطة واشتراطاتها".
في حين ترى نبال زيتونة تعمل مع شبكة المرأة السورية وتقيم في النمسا، أن الحيادية التي توخاها بيان منظمات بروكسل كانت مشبوهة. إذ لم يحدد البيان هوية مرتكبي العنف غير المسبوق على المدنيين قصفاً وحصاراً وتهجيراً واعتقالاً وموتاً تحت التعذيب.. كما استخدم البيان مصطلح الهندسة الديموغرافية بدل التهجير القسري، والتغيير الديموغرافي الذي مارسه النظام، وداعموه الدوليون. كما أضاف البيان صفات على مفهوم العدالة الانتقالية بقصد تفريغه من محتواه مستقبلاً، فكان البيان يتماهى مع خطاب النظام ضارباً عرض الحائط بمطالب السوريين.
وكانت مجموعة منظمات مدنية مصنوعة لهذا الغرض في الداخل السوري وجهت إليها دعوات بروكسل، وتم تجاهل منظمات أخرى حتى الدعوات كانت مشبوهة، وركز البيان على مطالب النظام في رفع العقوبات المفروضة عليه: وليست هي المرة الأولى فقد حاول ديمستورا غير مرة التماهي مع مطالب النظام من خلال مجلسه الاستشاري النسوي الذي صنعه لهذا الغرض.
نتيجة الانتقادات الواسعة للرسالة التي تمت صياغتها في بروكسل، والتي كان معظمها من المشتغلين في المجال المدني أصدرت مجموعة من المشاركين في صياغة الرسالة توضيح حول مشاركة منظمات مدنية سورية في مؤتمر بروكسل للمانحين، تناولت النقاط التي كانت مثار النقد، والتهجم في محاولة لتقديم توضيح، يقول أسعد العشي المدير التنفيذي لمنظمة بيتنا سوريا، وأحد المشاركين في صياغة الرسالة "سياسياً البيان لم يحقق أي شيء لكنه أثار جدلاً وهو ما أراه أمراً صحياً، وضرورياً، لفتح مجالات للنقاش لتحقيق الهدف المشترك في الوصول لبلد حر وموحد."
تتفق رزان برغل (مسؤولة تطوير) في مركز المجتمع المدني والديمقراطية( CCSD) مع ما ذهب إليه أسعد العشي في الجدل والانقسام الذي حدث خلال الأسبوع الفائت حول الرسالة، ومؤتمر المانحين، والذي تراه بأنه شيء طبيعي مصاحب لأية خطوة تحدث بسياق الوضع السوري، وهي أول ورقة تشكل أرضية مشتركة لطيف جيد من منظمات المجتمع المدني، التي تعمل بمختلف مناطق السيطرة في سوريا ودول الجوار، ولديها تواصل واحتكاك مع السوريين بمختلف هذه المناطق.
تقول رزان "هناك المعترضين دائماً، وهو أمر صحي، وبالتأكيد هناك نقد بنّاء، ورؤى مختلفة لأدوار المجتمع المدني ينبغي أخذها بعين الاعتبار، وحيث أن السعي للتوافق يجب أن يصب دائماً في ضمان الحقوق والحريات لجميع السوريين، وألا يؤثرعليها.
وأتمنى من جميع المشاركين التركيز على الهدف من البيان والقاعدة المشتركة التي تم بناؤها".