عن المُتعة والحَرب
ارتباط مفهوم المُتعة بالشرّ، الرغبة بالتنافس، الرغبة بالأذى .. ماذا لو كانت المُتعة خالية من هذه الدوافع ؟
التنافس الأعمى .. الآخذ الأصمّ .. الاستئثار الأخرس .. ، الدوافع التي تمّ تعميمها في العلوم والآداب والثقافات واللغات والحياة اليوميّة.
ماذا لو كانت الرغبة المحض التي تجذب ذَكَراً يسير في غابة لأنثاه، وتجذب الأنثى لذَكَرها، في هذه اللحظة بالضبط .. هل نحتاج إلى التملّك .. إلى الأخذ ؟
وهو فيما يعنيه حرمان أحد ما ممّا نأخذ والاستئثار به لأنفسنا ؟..
/ ذلك يختلف بالطبع عن الأخذ والمنح في فِعل الحبّ .. الحبّ نشوة المحاكاة ، وفيه الأخذ فنّ .. والمنح كذلك .. ذلك أن الحبّ هو مسرح المفاهيم /
أليست متعة الرقص عند زوربا كازانتزاكس، ومتعة التسامي والحبّ النبيل عند دون كيخوته، ومتعة الإيمان عند سانشو، ومتعة زراعة الأثر في الهواء العابر عند سقراط، ومتعة الطيران في فضاءات الجنون عند دالي ووبونويل، ومتعة الزوايا الحادّة لبيكاسو، أليست جميعها مُتعٌ أسقطت مفاهيم الأخذ والعدوانية التي تسكن في التملّك والفرض والانتصار ؟
وفي المقابل .. أليست مُتعُ الخلود و الاستعراض و الاصطفاء والقتل، ومتعة الجريمة، ومتعة تعميمها، ومتعة مراقبتها عن بعد، ومتعة الاستعباد، ومتعة العنصرية، ومتعة الذلّ، ومتعة الصمت، ومتعة النبوءة، ومتعة اغتصاب الخيال الحرّ، ومتعة قصائد البيانات وروايات البحث الآلي عن دهشات إعادة تدوير الكوكب ...
أليست متعة أن تكون تحت سقف صُلب ، متعة أن يكون سقف ما تفكّر مستوحىً من الماضي ، متعة القبر الذي تشدّ الحياة إليه في رأسك ؟
أليست جميعها متعٌ معاصرة بامتياز، أليس الأدب والسينما والميديا هو تزاحم هذه المُتَع على نوافذ الوعي المعاصر للعالم ؟!
متعة /الحضيض هو الآخر/
قد تبدو مفردة الحضيض مفردة تشير إلى ترتيب اجتماعي في أسفل درجاته، لكن هذا الفهم للمفردة ناتج عن ثقافة عنصرية في حقيقة الأمر، فالعنصرية هي بالضبط ترتيب العالم في توابيت يابسة .
الحضيض هو الإنسان المنتهَك خارج أسوار الذات المحصّنة، الحضيض هو الآخر / وفق ثنائيات الثقافة المعاصرة/ ذلك الآخر الذي يعيش شروطاً دون إنسانية ، الآخر الذي قد يكون ملمسه ناعماً في المدن المعاصرة، أو بجلدٍ خشن كالصخور في شتات المخيّمات، أو في مدن الحضيض المُتخمة بالصفيح وشوادر الأمم المتحدة وبيوت الكرتون .
إن متعة / الحضيض هو الآخر/ واحدة من أكثر المُتَع انتشاراً في الفنّ والأدب والميديا والصحافة والحياة ، هي متعةُ تتربّع على رأس الهرم في سلّم المُتَع المعاصرة ، لكنّ هذه المتعة أثبتت أنها الأكثر شراسة في التاريخ ، والأكثر فاعلية في ديمومة مُتَع التملّك والقوّة والاستئثار والجريمة .
هل تستيقظ المُتَع التي تنبلج كفجر أو تتدفّق كنهر؟
بدلاً من مُتَعٍ تزدحم في أسلاكٍ تحبس الضوء ، بدلاً من المُتَع الحادّة كأشفار السكاكين ولُزُوجة الرصاصة ؟
هل تستيقظ مُتعُ الإشراقات الكبرى للوعي في أزمنة دوّامات الخراب الكبرى التي تجثم على الحياة خانقةً متعة إشراق العقل الحرّ من يقينيّات التاريخ والمعاصرة ؟
إن جملة الأفكار والمفاهيم والنظم والأيديولوجيات والعقائد والطوائف والأديان ، كقطعان ثيران السهوب الهائجة ، ستعبر من أمكنة كثيرة مدمّرة في طريقها كل شيء قبل أن يصيبها التعب، وتموت عطشاً، ذلك أن المطر قادم من المستقبل، لكنها الأفكار التي تتعطّش للدم وليس الماء ، والدم وديعة الانتقام .
متعة الضحيّة :
الضحيّة تثير القلق والشفقة والتعاطف، حسناً وماذا بعد ؟
ما بعد هذه المُتَع الصغيرة الناقصة، فإن الاستثمار فيما هو أبعد من ذلك كله، الاستثمار في متعة الضحيّة، إن الضحيّة تستحقّ أن يعتني العالم بها بشكل ما .. الضحيّة نجمة الإعلام كما الجسد المُشتهى نجم مجلات البورنو ..
نجومية الضحيّة واستحقاقها التعاطف والشفقة والسلال الغذائية والمساعدات الدولية، ومُعاركة المرض والجوع والخوف تحت أنظار العدسات، وفوق ذلك وهو الأهمّ ، أن الضحيّة لا تعمل، فهي قد سلّمت أمرها لهذا العالم، وعليه أن يقدّم لها استحقاقات النجوميّة وامكانيّة العيش في متعة البطالة مدفوعة الأجر .
ولنشوة متعة الضحيّة رجفان خاص، أورجازم لا يبلغه السادة، وذلك حين يُنشد المنشدون مستغرقين في ندب الموتى ونبش قداسة الضحيّة من التراب القديم الميت، هذه النشوة التي تجعل متعة الضحيّة مقدّسة، محرّمة على الآخر .
إن روح الإنسان العبقرية تتراجع بشكل مخيف بعد أن أحكم رأس المال براثنه حول عنق العقل العلميّ، ليقوده ككلب مخلص للاستثمار المفتوح والشرس واللانهائيّ.
يتعجّل رأس المال كجدٍّ هَرِم قبل هزيمته أو دماره عبر دمار العالم، في استحضار لحظة ليست بالبعيدة، كي يقول لنا : أنا من يستطيع أن يورثكم الخلود .. الإبداع خارج كفّيّ المجعّدتين، هو محض أساطير تركض مبتعدة عن مستقبل الحضور الإنساني كما تفرّ الطرائد الأخيرة .. أمام زحف الضباع .
إن السلام هو كوكب آخر.. مناخ آخر .. سكان آخرون .. مُتَع مختلفة .. لا نعرفها .. نحن أولاد العنف و نمثّل مرحلة من مراحل حياة الكوكب الأزرق .. وربّما تكون أقصر المراحل، لكنّ القادم تحت الشمس يقول أن عطش الدم سيعبر.
هل نستطيع تغيير هذا المسار ؟
ذلك أن نتغيّر ..
نسلخ الثوب القديم بما يعنيه نمط التملّك والأخذ والقوة والاستئثار والجريمة، ذلك أننا لا بدّ أن نصدّق ماركس، الرأسمالية هي ثوب الحياة القديم .. ولا ولادة دون سلخه كجلد الأفعى الميت عن جسم الحياة .