التعفيش.. شريعة المتقاتلين في سوريا
عملية مُمَنهجة وشبكات منظّمة وإغراء للمقاتلين
الجيش السوري الوحيد بالعالم الذي يمارس التعفيش
الفصائل المسلّحة وجيش النظام "يعفّشون" والجيوش الأجنبيّة تُدافع
يتذكّر السوريّون ذلك المشهد بألم، إذ تخرج دبابة مخصّصة لقتال العدو، من حيّ بابا عمرو بحمص، عقب سيطرة قوات النظام عليه في آذار 2012، وعلى ظهرها جهاز تلفزيون محزوم بعناية. ولم يبقَ سرّاً، ما وجد داخل الدبابة، من أدوات منزلية مسروقة، إذ مذ تلك اللحظة، توازت مسارات الحرب السورية مع عمليات التعفيش.
وتحدّث لـ (صُوَر) باحثون عسكريون وناشطون مدنيون، حمَّلوا قوات النظام والمعارضة المسلحة مسؤولية التعفيش، كعملية منظّمة ونهج دأبوا عليه مع بداية الثورة، بهدف ترويع الناس وسرقة ممتلكاتهم وامتهان كراماتهم، مشيرين إلى وجود شبكات متداخلة المصالح، ترعى التعفيش الذي صار المعادل الموضوعي لجريمة السرقة.
الضوء الأخضر
يوجّه السوريون انتقادات لاذعة للأشخاص الذين يقومون بسرقة منازل الناس في المناطق التي يدخل إليها الجيش السوري مجدّداً، أو تلك التي تسيطر عليها فصائل المعارضة المسلحة. وتزايدت حدّة هذه الانتقادات، مع استكمال الجيش السوري فرض سيطرته على الغوطة الشرقية في نيسان الماضي، والمخيّم والحجر الأسود وببيلا وبيت سحم قرب دمشق في أيّار المنصرم.
وأشعل النار في الهشيم، إلقاء الشرطة العسكرية الروسية القبض على عناصر من الجيش السوري، وهم يُخرِجون مُقتنيات الناس من ببيلا، وإرغامهم على الانبطاح أرضاً. ما أدّى إلى إثارة مشاعر المؤيّدين للنظام، الذين نظّموا حملات على وسائل التواصل الاجتماعي دفاعاً عن جيشهم، بصفته "مؤسّسة فوق كل اعتبار". ثم أصدرت قيادة هذا الجيش بياناً "تبرّأ" من هؤلاء العناصر، ورفض انتماءهم للجيش، واعتبرهم البيان أنهم "مطلوبون"، وأن أسماءهم معمّمة على كل الحواجز الأمنية. هذا الموقف أثار بالمقابل سخرية المعارضين، الذين قاموا بحملات تنديد تنال من ولاء هذا الجيش، المتّهم بالقتل والدمار والسرقة.
ويرى الناشط الحقوقي سليم شغري أن مشاهد الأدوات المنزلية المختلفة، التي أُخرجت من مناطق متعدّدة، تثير الاستياء، "برّادات، غسّالات، أفران غاز" وأدوات موبيليا مختلفة، إضافة إلى الأبواب والنوافذ، حتى الأسلاك الكهربائية لم تنجُ. وقال: إن تعفيش منازل الناس "جريمة لاتُغتفَر"، مارسها "المارقون والحرامية". ويلفت إلى أن جيشاً عقائدياً يلتزم أفراده وقادته بالسرقة وتعفيش المنازل لايمكن الاطمئنان إليه، والقبول به حامياً للأرض، ومدافعاً عن الشعب السوري. وردّاً على سؤال ( صُوَر) أن قيادة الجيش السوري رفضت هذه التهم، يؤكّد شغري أن الرفض منقوص، ولايمكن أن يُؤخذ بعين الاعتبار، مدلّلاً على رأيه بالقول: دائماً نرى عمليات التعفيش عقب دخول جيش النظام إلى المناطق التي يسيطر عليها المعارضون، ودائماً يَستبقون ذلك بإطلاق تحذيرات للسكان المحلّيين للخروج من منازلهم للحفاظ على أرواحهم، ويُرغم السكان على ذلك، علماً أن الجيش في الغوطة الشرقية والمخيّم دخل دون مواجهة، وضمن اتّفاقات معيّنة. ويتساءل الناشط الحقوقي، كيف تخرج هذه المُقتَنيات؟ ومن يسمح لها بالوصول إلى مناطق يسيطر عليها النظام؟ ليجيب: ببساطة شديدة، هذه عملية منظّمة ومُمَنهجة اتّبعها النظام مكافأة لأفراد جيشه، وتشجيعاً للخارجين عن القانون للانضمام تحت مسمّى القوات الرديفة، ليستبيحوا ما يشاؤون، ويبتزّوا الناس، ويسرقون ممتلكاتهم.
ويؤكّد شغري أن النظام جيشاً وقوى أمنية أعطى الضوء الأخضر لأتباعه، للتعفيش والسرقة والقتل والتدمير دون روادع أخلاقية أو غيرها، حتى أن العديد من عناصره تخلّوا عن أخلاقيات وقوانين الحرب من أجل المنفعة الشخصية، وأن النظام غضّ النظر عن كل هذه الممارسات مقابل الحفاظ على الولاء، وهذا ما يدحض ذهنية الجيش العقائدي.
شريعة التعفيش
يشترك النظام والمعارضة في خلق الظروف المناسبة للتعفيش، وفتح المجال لتابعيهم لاستباحة حقوق الناس. إذ حذا النظام والمعارضة المسلحة حذو بعضهما في تعفيش وسرقة ممتلكات المدنيين وابتزازهم. وبرأي العامل بالشأن الإغاثي في دوما بريف دمشق نوّار الحلبي، أن التعفيش لم يختلف كثيراً، عندما كان فصيل جيش الإسلام يسيطر على المدينة وأجزاء كبيرة من الغوطة الشرقية، أو عند تسلّم قوات النظام المنطقة. ويتابع الحلبي: إن من وقف ضد ممارسات جيش الإسلام كان مصيره الموت ومصادرة ممتلكاته، وهناك الكثير من الحوادث التي استحوذ فيها مقاتلون مسلحون على ممتلكات أناس لايريدون سفك الدماء أو المشاركة بالحرب، وعند دخول قوات النظام بدأ التعفيش على "أبو جنب"، ولم يسلم مرفق خاص أو عامّ من السرقة.
هذه الممارسات يمكن سحبها على كل المناطق في سوريا، فعندما سيطر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على مساحات شاسعة من المنطقة الشرقية في سوريا (الحسكة، الرقة، دير الزور)، وأجزاء من حلب، طبّق التنظيم، المصنّف إرهابياً على المستوى العالمي، شريعة التعفيش بحقّ البشر والحجر. وفرض عناصره على الناس الانضمام إلى صفوفه، ووضعوا كل المقدّرات من مال وقوة بشرية تحت تصرّفه، فضلاً عن الممارسات غير الأخلاقية بحقّ النساء.
ويجد الحلبي أن ذهنية التعفيش ارتبطت بممارسات الحرب، وامتلاك قوى وعناصر سلطات مفاجئة وكبيرة، دفعت بهم إلى إذلال الناس وامتهان كرامتهم، وجزء من هذه الممارسات كان "التعفيش". لافتاً إلى أنه ليس أقسى من رؤية أثاث بيتك مسروقاً، سوى أن ترى هذا البيت مدمّراً.
ماركة مسجلة
استباحة الممتلكات نقطة التقاء قوية بين المتحاربين على أرض سوريا، وتعفيش هذه الممتلكات، عمل يقوم به كل من يحمل بندقية ويطلق رصاصة. السؤال، كيف تحوّلت القيم الرافضة للسرقة، ووضعت حدوداً قاسية على مرتكبيها، إلى شرعنة هذا الجرم؟ وكيف يقبل من يقود ثورة أن يسرق ممتلكات الضعفاء، أو أن يقوم من يدافع عنهم بسلبهم؟
يرى الخبير العسكري محي الدين إبراهيم أن الجيوش تمارس أفعالاً تبدو مرفوضة من المجتمع المدني، وغير مقبولة قانوناً، لأن الجيوش تتدرّب عادة على القتال فقط، وتُترَك لحظات دخولها إلى المدن وانتشارها بين المدنيين، لتعليمات قادتها المباشرين، وإلى الاتّكاء على ثقافتها وسلوكها الأخلاقي. ويبيّن إبراهيم أن حالة التعفيش ماركة مسجّلة في سوريا، ولا يوجد جيش في العالم مارس السرقة أو سمح لها أن تتجاوز الحدود كما فعل هذا الجيش. ويضيف بالمسطرة ذاتها نقيس على كل الفصائل المسلحة المعارضة التي مارست أبشع أشكال الاستغلال والسطوة على المدنيين، ويمكن تفسير هذه السلوكيّات بالاستناد إلى التخاذل وانعدام الضمير وغياب الأخلاقيات عند كل من يمارسها. ويلفت إبراهيم إلى أن التناقضات التي عاشها الناس في غمار الحرب في سوريا، كانت مفاجئة للجميع، فالجيش الذي "يدافع عن الوطن" والفصائل المسلحة التي "تحاول تحرير الوطن"، مارسوا جميعاً التعفيش المنظّم.
ويَرجع الخبير العسكري بالذكريات إلى أواخر سبعينيات القرن الماضي عندما دخل الجيش السوري إلى لبنان، ومارس التعفيش، وتحوّلت ناقلات الجند، وسيارات المبيت، إلى سيارات نقل ترانزيت "للمعفّشات" التي يسرقها عناصر الجيش. وهنا لايمكن وضع الملامة أو المسؤولية إلا على القادة وكبار الضباط، هؤلاء هم من سمحوا للجند بذلك، ودفعوهم للتعفيش لحسابهم. ويخلص إبراهيم إلى أن قساوة الحرب ومراراتها، كانت تقابلها قساوة ودناءة أخرى من قِبل المتحاربين الذين بدلاً من الدفاع عن ممتلكات الناس قاموا بتدميرها، وسرقة محتوياتها، ومن ثم أعلنوا زوراً الانتصار، وهذا فعل لايقبله عقل أو منطق.
قوّات التعفيش
لم يختلف التعفيش الذي قام به مقاتلوا النظام والمعارضة على حدّ سواء، وإنما اختلف الشكل فقط. عناصر الأول رأَوا فيه هدية ثمينة لا تضاهي حجم التضحيات التي يقدّمونها، فيما عناصر القوى المسلحة وجدوا فيه حقّاً مشروعاً، ومكافأة لهم على محاربة النظام.
ويرجّح الخبير العسكري إبراهيم أن التعفيش المُمَنهج، يقف خلفه كبار الضباط، الذين يمتلكون صلاحيات واسعة، وبيدهم إيقافه، لكنهم منحوا جنودهم حقّ ممارسة ما يشاؤون بشرط الحفاظ على الولاء. ويؤكّد أن العسكري الذي اعتاد على الدفع لضابطه، وجد الفرصة مناسبة بأنه يستطيع أن يفرض الأتاوة على الناس، ويسرق ممتلكاتهم، ويحقّق أرباحاً دون مساءلة. ويتابع الخبير نحن نتحدّث عن شبكات منظّمة، متشابكة المصالح، واسعة الصلاحيات، فالمسروقات تخرج من مناطق محرّرة مجدّداً، وتدخل إلى مناطق سيطرة النظام، برغم انتشار الحواجز الأمنية والعسكرية المختلفة.
و ردّاً على سؤال لـ (صُوَر) مَن هذه الشبكات بالضبط؟ قال إبراهيم: يصعب تحديد الأسماء كلها، لكن السلطات تعرفهم بالاسم، وعلى سبيل المثال، كل من ينتمي إلى قوات النمر ( سهيل الحسن) يمارس التعفيش باسمه، هذا يعني أن المعفّش الأكبر هو النمر، وأغلب الموارد تأتي إلى حسابه الخاص، وأنه كان يسدّد مستحقّات عناصره من عائدات التعفيش والأتاوات التي تفرضها الحواجز التابعة لقواته. وكذلك ـ يتابع إبراهيم ـ يمكن القياس على بقيّة الضباط التابعين للجيش السوري، وقادة الفصائل المعارضة المسلحة، الذين يتحكّمون بكل شيء، وأوامرهم تبدو مقدّسة لتابعيهم.
ويرى الخبير أن القوات الرديفة في معظمها هي قوات التعفيش الحقيقية، وهي من تُوكَل لها المهمّة بكل أبعادها. ويشرح ذلك بأن الجيش السوري عندما يحرّر منطقة، يذهب بمهمّة فورية إلى منطقة ثانية، واقتضت الخطّة العسكرية أن تتولّى القوات الرديفة كالدفاع الوطني، الذي يقوده بدمشق وريفها فادي صقر، وغيرها كصقور الصحراء التابعة لأيمن جابر، وعناصر جمعية البستان التابعة لرامي مخلوف، تتولّى مهمّة التمركز في المناطق المحرّرة، وكان عناصرها يتكفّلون بسرقة محتوياتها كاملة. وهنا ـ بحسب إبراهيم ـ تأسّست مجموعات تقوم بعمليات التعفيش، وفقا لتخصّصات معيّنة ( أدوات كهربائية، أثاث، سيراميك، بلاط، نوافذ، أبواب...إلخ)، وهنا بدأت عملية بيع المناطق المحرّرة لتعفيشها. ويشرح الخبير عمليات البيع هذه، بأن ضباط الجيش المسيطرين على منطقة محرّرة، يبيعونها إلى عناصر التعفيش من القوى الرديفة، وهؤلاء يقومون بالتعفيش، وفقاً لتخصّصاتهم المذكورة آنفاً، وهناك من يتكفّل بنقلها إلى الأسواق وبيعها.
ويرى الخبير أن النظام لايريد أن ينهي عملية التعفيش، لأنه يعلم أن الكثير من عناصر القوى الرديفة الذين يعملون إلى جانبه، يغريهم فقط مكتسبات التعفيش وليس الرواتب الهزيلة التي تبلغ للفرد نحو 100 دولار شهرياً، كما أن النظام ضمن بذلك انضمام كثيرين من الخارجين عن القانون والذين لديهم استعداد للسرقة، ليقفوا إلى جانبه. ويبيّن الخبير العسكري أن النظام يتطلّع إلى تسجيل الانتصار بأي ثمن، والتعفيش هو أبسط الأثمان، وأقلّها كلفة عليه، كما أنه بتغاضيه يبعث برسالة إلى كل سوري، مفادها أن الحرب يجب أن تطال الجميع، وأن يدفع ثمنها الكل، دماً ومالاً، خراباً وتدميراً وتشريداً، إنه الكأس المرّ الذي لا بدّ للجميع من شربه.
موكب المعفِّشين
أخفى التعفيش حرباً صامتة بين حلفاء النظام السوري لاسيّما حزب الله والإيرانيين، والقوات الرديفة العاملة إلى جانب النظام، خاصة عقب تحرير حلب. ونقل هذا الخلاف مراسل قناة الميادين المموّلة إيرانياً، إذ عمد مراسل القناة في حلب رضا الباشا إلى توجيه انتقادات صريحة للتعفيش والمعفّشين متّهماً علي الشّلّة ومجموعته، وهو أحد شبّيحة النظام ، بالقيام بأعمال التعفيش مستخدمين أسلوب القتل، لا سيّما في المنطقة الصناعية بالشيخ نجار. كلام الباشا أثار ردود فعل متناقضة من داخل الحلف ذاته، وأدّى إلى توجيه اتّهامات كثيرة بحقّه، منها أنه إيراني، فضلاً عن تلقيه التهديد بالقتل، إضافة إلى وقفه عن العمل كمراسل للميادين. وبالمسطرة ذاتها، يمكن القياس على البيان الخجول الذي أصدرته قيادة الجيش عقب مشهد انبطاح عناصره مرغمين أمام عناصر الشرطة العسكرية الروسية.
الأمر ذاته حدث في ضاحية حرستا بريف دمشق، الشهيرة باسم ضاحية الأسد، إذ تدخّلت القوى الأمنية لوقف سيل التعفيش عقب تحرير الغوطة الشرقية، وداهمت محلّات التعفيش. وقارن المؤيّدون بين مَن يبذل الدم، ومَن يرضى بالتعفيش. في حين نقل مراسل وكالة أنباء دولية، كان يعدّ تقريراً عن الحجر الأسود، أن قافلة الصحفيين التي نظّم الجيش السوري جولة لها، تأخّرت عن الخروج أربع ساعات بسبب عمليات التعفيش، ومرور موكب المعفّشين.
تغذية الحرب
تسقط الأخلاقيّات في الحروب، لكن تبقى بعض بوادر للإنسانيّة، إلّا في الحرب السوريّة، غابت الأخلاقيّات كلّها، وسقطت الالتزامات والمبادىء، وغدت السرقة أو التعفيش مصدراً لتغذية النزاع السوري ودفعه إلى الأمام، وجعله حقيبة بيد الجيل القادم.
وتغدو المسألة أكثر عمقاً، وجرحاً نازفاً، لحظة نرى أن الجيوش الأجنبيّة تدافع عن السوريّين، فيما الجيش السوريّ والفصائل المعارضة المسلّحة يقومون بالتعفيش.