صورة الآخر، بين الواقعي والمتخيل
يشير المتخيل بوجه عام إلى كل ما هو ليس واقعاً متعيناً، أو إلى ما لا وجود له إلا في الذهن. أي أنه عمل المخيلة في صور المحسوسات ومعانيها الجزئية المنتزعة منها، تركيباً أو تفصيلاً. إلا أن هذا التعميم لا يلغي علاقة المتخيل بالواقع ولا ينفيها. لكنه يمزج الواقع المحول ذهنياً بالصور، بكثير من الظنون والشبهات والأوهام وأنواع المحاكاة، إذ ينفتح المتخيل على الذاكرة الجماعية ويمتح منها، عن وعي أو غير وعي، كلما استثارته ظروف تجربة حياتية مماثلة أو مشابهة إلى هذا الحد أو ذاك، لظروف تشكلها. "فالمتخيل مخزون عميق من الصور والأحكام المسبقة المتشكلة في الذاكرة الجماعية والذهن، والقابلة للاستثارة كل ما دعت الحاجة"، كنوع من رد الفعل غير الواعي غالباً تجاه الآخر. باعتبار أن علاقة الأنا بالآخر هي مسرح عمل المتخيل، ولحظة تقاطعه مع الواقع، التي تمكن الفكر من إدراك فاعلية المتخيل في بناء صورة الآخر المختلف في كل ظرفية، وأشكال تجليها في الثقافة واللغة والبنى الرمزية التي ينتجها الإنسان، والتي تحدد بدورها نوع الفاعلية الاجتماعية والسلوكية للفرد أو الجماعة تجاه الآخر في الواقع المعيش، وتغذيها وتتغذى منها من جديد.
بالرغم من أن صورة الآخر ليست ثابتة على الدوام، إذ تتغير تبعاً لنوع العلاقة الظرفية بين البشر والجماعات والمجتمعات، إلا أنها لا تخرج عن ترسيمة المركز والأطراف حسب (ميرسيا إلياد). فالأنا لا ترى ذاتها إلا في مركز الكون دائماً، فيما الآخر بالنسبة لها لا يكون إلا في الهوامش والأطراف، بغض النظر عن واقع الحال. ولا يمكن لمثل هذه الصورة أن تستمر لدى مختلف المجتمعات لولا أنها تستكمل عيب نقصانها الواقعي من عمق المتخيل. فليس العقل وحده أعدل قسمة بين البشر كما قال (ديكارت) أنما المتخيل كذلك أعدل الأشياء توزعا بين الناس.
في علاقة المركز والهامش تلك، ليس الآخر مثيل الذات ولا معادلها في القيمة والوجود، بل شيئاً مخفضاً وطارئاً مهدداً، يستوجب النفي والاستبعاد والتدمير، ويبرر للذات سلوك العنف والعدوان، بوجوب الحماية، ولا تكون الحماية إلا بأحد فعلين: إما الهروب، أو الهجوم والعدوان. وتتولى المخيلة عملية تركيب صورته وصورة الذات في الذهن وفق متخيل يعيش وهم المطابقة بين القيم والحقيقة. وكلما اشتد تمركز الأنا وازداد انغلاقها داخل أسوار الحماية الموهومة أو المؤدلجة تلك كلما تجلت في صورة((شعب الله المختار)) أو ((الملة الناجية)).
قد يوحي إظهار الجانب السلبي في علاقة الأنا بالآخر ومقاربة عمل المتخيل ودوره في تلك العلاقة أن صورة الآخر ثابتة وأن المتخيل لا يتغير، وأن الذات ليست بحاجة للآخر للتعرف على ذاتها، وهو ما كرسته في أذهاننا فلسفة الوعي، بدءاً من الميتافيزيقا اليونانية وامتداداتها الغربية أو العربية، حتى كوجيتو ديكارت، "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، وصولاً إلى اللحظة المفصلية مع هيغل و"جدلية السيد والعبد" وصرخة سارتر"أنا، والآخرون هم الجحيم" التي لامست الحاجة إلى الآخر لكنها لم تخرجه من حالة الوجود السلبي. إذ احتاج الأمر تلك النقلة النوعية والحيوية النقدية التي دشنتها فلسفات التواصل وروادها، بعد انفتاح الفلسفة على منطق العلوم التجريبية والإنسانية بشكل عام، والألسنية وعلوم اللغة بشكل خاص، حتى تعيد الأمور لنصابها. والتأكيد بأن العلاقة مع الآخر قائمة وممكنة وهي علاقة إيجابية تنبني على فهم الاختلاف والتعدد. لكننا بحاجة إلى ما يكفي من الوقت والعمل لإعادة تأثيث المتخيل.
هل يسعفنا هذا التمهيد النظري في إقامة مقاربة إجرائية لفهم المأساة السورية وتفكيك عمل المتخيل وإدراك مفاعيل تأثيره في وقوع هذه المأساة واستمرارها حتى الآن، مع عدم إهمال أو إنكار ما للعوامل الأخرى والتي اجتهد الكثيرون في تحليلها من قبل؟
مع صرخة الحرية والكرامة الأولى في وجه الاستبداد وضد هدر القيم، صرخ السوريون "الشعب السوري واحد"، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن مباشرة هو: لماذا صرخ المتظاهرون بهذا الشعار؟ ما حاجتهم إليه لو كان الشعب السوري واحدا؟ وأية وحدة يضمرون؟ ومن أي متخيل استكملوا صورة الشعب الموحد إذا افترضنا أن الشعارات ترميزاً لفظياً لمطالب تمس الحاجة إلى تحقيقها مثل مطلب الحرية والكرامة الذي يمس الجميع؟ هل ثمة محاكاة غير واعية مع شعارات سابقة مثل: الشعب العربي الواحد، والأمة العربية الواحدة؟ وهل ثمة شبه بينه وبين شعار سابق أطلقة الطرف الآخر في المعادلة على الشعب السوري واللبناني ذات يوم "شعب واحد في بلدين"؟ ألم يسترسل المتحدثون باسم الثورة أو عن غايتها وعن مكونات الشعب السوري فيما بعد؟
كان لدى السوريون شعورا أنهم شعب مميز في محيطه العربي على الأقل، وهو شعور نابع من مركزية الأنا، قد لا ينفرد فيها السوري وحده على كل حال ولا يستحق التوقف عنده ما دام لم يصل إلى درجة "تورم الأنا العصابي" تجاه الآخر.
وقد تغذى هذا الشعور من مرارتين: مرارة عدم اعتراف الآخر بهذا التميز بشكل يرضي نرجسية الذات، ومرارة الهزائم المتوالية التي تجعل من صورة الوجود الواقعي بعيدة عن مطابقة صورة المتخيل في الذهن. وقد تعزز هذا الشعور منذ ما بعد الاستقلال بأيديولوجيا قومية تحاكي النازية والفاشية لكن بإيهاب إسلامي، وأيديولوجيا إسلامية تمايزية بإيهاب قومي عربي. لم تجد تبريراً يجسر الهوة بين المتخيل وواقع الحال في الفكر والوعي السياسي، إلا فكرة المؤامرة. والمؤامرة والتواطؤ صفات تحقير وتصغير تطلق على الآخر لتبرير جسارة الذات واستحقاقها. وقد أصبحت زاداً للثقافة الريفية بعد استئثار العسكر بالسلطة والحكم.
واللافت أن كلمة المؤامرة والثورة في ثقافة السوريين الشفوية وخطاباتهم الحزبية وكتبهم التعليمية في مختلف مراحل التعليم تتكرر أكثر من كلمة الشعب أو كلمة الحق على سبيل المثال. ولا يقتصر هذا الاتهام على الآخر: الشعب، أو الدولة ،أو الآخر البعيد، أو العدو فحسب، بل أصبح وصفاً يطال الآخر السوري: حزباً أو ملة أو إثنية...، ويضعه في موقع المتآمر أو الخائن في أسوء الأحوال أو كشريك في التآمر أو أجير أو مغرر به في أحسنها. ولعل ما يفسر رسوخ هذه الصورة في المتخيل عند السوريين أنهم عاشوا عقوداً طويلة من العزلة أو شبه العزلة المفروضة في محيطهم الإقليمي والدولي، ولم يشهد تاريخهم الحديث احتكاكاً واسعاً مع المحيط إلا كعمالة رخيصة ماهرة في دول الخليج العربي بعد فورة الثراء النفطي والفقر السوري، أو باتجاه لبنان والأردن بشكل أقل، ولنفس الغاية.
وقلما يدرك الفرد أنه "يحمل" صورة حكومته وصورة زعيمه أمام الآخر سواء رغب في ذلك أم رفض، أقله في نمط العلاقات الظرفية العابرة. أما على الصعيد الداخلي فلا يختلف الأمر كثيراً إذ يعيش السوريون داخل تجمعاتهم الإثنية أو الطائفية والجغرافية حتى وقت قريب، بنوع من التعايش والتجاور الساكن، دون انفتاح أو تثاقف أو معرفة بالآخر تتعدى بعض العادات الطقسية في الحزن أو الفرح، وغياب كامل لمؤسسات وتشكيلات المجتمع المدني المستقلة عن الدولة والسلطة، والكفيلة لو توفرت بفتح أقنية التواصل والتضامن والتشارك مع الآخر والتعرف إليه كوجود متعين، وليس وفق صورته النمطية في المتخيل والذهن.
لم تتقدم الثورة السورية التي انطلقت من محيط الحواضر والأرياف بيسر باتجاه تحقيق شعارات وأحلام الثائرين، لجملة من الأسباب الذاتية والموضوعية لا يتسع المجال لبحثها، وقد تكون في مجملها أسباباً وجيهة إلى هذا الحد أو ذاك، لعل أبرزها انحدارها السريع نحو العمل المسلح والعنف، لأسباب كثيرة أيضاً. وفي المحصلة الواقعية أصبحنا في حالة حرب من أقبح أنواع الحروب، أي حرب داخلية، أو حرب أهلية صريحة في كثير من الأحيان. والحرب وتبادل العنف والكراهية هي أجلى صور العلاقة السلبية بين الذات والآخر بما هي علاقة نفي واستبعاد وتشييئ وتدمير، بالقوة أو بالفعل، بحكم انحدار القيم الإنسانية والأخلاقية، وأكثر الأشياء استثارة للمتخيل.
فالأيديولوجيا التعبوية التي تبرر العنف والقتل أو تحث عليهما، لا تحاكي العقل الواعي بقدر ما تستحث اللاوعي، وتستثير المتخيل للانفتاح على الذاكرة والمعتقد الإيماني الثاوي في أعماق النفس لاستدراج الصور من الماضي ومحطات التجارب المنتقاة، عن دراية أو جهل، للنبوغ إلى واجهة الفكر. فينقطع الخيط الواهي الفاصل بين الثورة والحرب الأهلية. وكلما ازداد السوريون غرقاً في وحل دمائهم كلما قلت ثقتهم بالآخر، وكلما وجدوا أنفسهم أنهم ليسوا مركز اهتمام العالم لا القريب ولا البعيد إلا من قبيل التعاطف الإنساني، أو المصالح المتنافسة للدول، كلما تعززت في مخيالهم فكرة التواطؤ والمؤامرة التي تعدت الخطاب السياسي السلطوي كتبرير وتسويغ للعنف إلى أن أصبحت خطاباً شعبياً.
فالشعار الذي أطلقه المتظاهرون"الشعب السوري واحد" كان استشعاراً عفوياً لغياب وحدة الشعب وتحسساً لمسافة التفاصل بين أفراده، وعمق الشروخ في نسيجه الاجتماعي. فقد عجز أصحابه عن اختراق حصون الحماية الغريزية غير الواعية التي تقيمها كل ذات مهدَّدة حول ذاتها، مستنجدة بمتخيلها الراسخ، لتنحاز إلى الطرف الآخر ولو كان بوهم الحماية. لقد راهن الثائرون، على الشعب وفق متخيلهم عن الشعب الواحد، ووفق متخيلهم عن الثورة وعن المستقبل، وحققوا الكثير من النجاحات والخيبات، فيما راهن الساسة من كل الجهات، وفق متخيلهم أيضاً عن الثورة وعن الدولة وعن الشعب، على العسكر وداعمي الحرب.
لكن المأساة السورية مازالت قائمة، وستبقى قائمة حتى ولو توقفت الحرب، لأن الشعب السوري لم يقل كلمته كشعب بعد. ومستقبل السوريين مرهون بإعادة تأثيث المتخيل، وصوغ علاقة تواصلية إيجابية بين الأنا والآخر. علاقة تقوم على الاعتراف بالاختلاف وحق الاختلاف وترى إلى الوحدة، وحدة المتعدد والمتكثر والمختلف، وليس وحدة المجرد الأثيري التي لا تقوم إلا على نفي الاختلاف والإدماج القسري التي تنتجها علاقات القوة والسلطة، كحكم العسكر. ستغادر الجيوش يوماً ساحة الصراع، وستترك خلفها وطناً مدمراً وشعباً مشتتاً، وستترك للسورين لملمة جراحاتهم، فهل سيؤثث السوريون متخيلاً لا يعيد تجربة العراق؟.
ينظر كل طرفٍ إلى الآخرٍ نظرةً منبثقةً من مرجعيَّةٍ مشبعة بالصوَّر النَّمطيَّة والأفكار المتخيَّلة الوهميَّة ،وهذه النَّظرة )الآخريَّة) للآخر لا تُرى، ولاتُحبُّ أنْ ترى، أو لا يُمكنها أنْ ترى إلا من خلال ما ترسخ من صوَّرٍ معرفيَّةٍ وإدراكيَّةٍ وتاريخيَّةٍ، الَّذي تراه وفق نسقٍ مركزي اختزالي، ممَّا قلَّل من فُرص التسامح في الرؤية والتعدُّد في النَّظر.