سرمدة والثالوث المحرّم
"طوال الوقت وأنا أسعى لتغيير حقيقتي، للهروب مني، للتنكّر بلغة أخرى وسلوك آخر، حتى يقبلني المكان والزمان الآخر ... وبدأت أتلمّس نفسي لأجد أنني – طوال السنوات الماضية - لم أرتدِ سوى أقنعة ماسخة، بدأت تسقط مني (ص 47) ... كان لا بدّ من العودة إلى هناك، باتت سرمدة شهرزادي، تروي لي حقيقة موطني .. فإذا بي أصطدم بأن كل ما عملته في حياتي العملية هو عبارة عن انفعال يفتقد إلى الأصالة .." (ص 55)
سرمدة؛ عنوان رواية الكاتب السوري فادي عزام، من محافظة السويداء، صدرت عن الدار العربية للعلوم "ناشرون"، بيروت، عام 2011، وتقع في 221 صفحة من القطع المتوسط. تدور أحداث الرواية حول محورين أساسيين: المحور الأول يتحدّث عن منظومة اجتماعية محافظة على العادات والتقاليد الموروثة، والثاني يتحدّث بإسهاب عن معتقدات الدروز وخفايا مذهبهم، وعن التقمّص، على وجه الخصوص. وسرمدة هي المكان – الزمان الذي اكتشف الراوي (الكاتب) فيها حقيقته التي طالما هرب منها وتنكّر لها، لكي تقبله أمكنة – أزمنة أخرى، حسب ما تقدّم في الاقتباس السابق.
لقد كان الحديث عن الجنس والدين والسياسة، من المحرّمات في الثقافة العربية السائدة، إلّا في المجالس الخاصة والفضاءات الخاصة. غير أن للزمن شأنه في تغيير نظرة المجتمع إلى نفسه وإلى العالم، فأصبح الحديث عن هذا "الثالوث المحرم"، كما وصفه بوعلي ياسين، متاحاً إلى حدٍّ ليس بقليل في الرواية وأصناف الأدب الأخرى، إن لم نقل في الثقافة بوجه عام. ومن هذا القبيل كانت بعض معتقدات الطائفة الدرزية، التي سكنت جنوبي سورية، منذ ثلاثمئة سنة، حسب الكاتب، هي مفتاح الرواية وقفلها.
سيدة فرنسية، عالمة فيزياء، من أصل لبناني، تعيش معها ذكريات حياة سابقة، تثير فضول الراوي (الكاتب) لمعرفة حقيقة أحد أهمّ المعتقدات الدرزية، أعني التقمّص، الذي يضمن نقاء الملّة وتماسكها، (لا نقاء السلالة، كما أشار الكاتب)، ويعزّز تمايزها من العقائد الدينية الأخرى. التقمّص مفتاح الرواية، الذي فتح للكاتب مغاليق ذاكرة المكان، ذاكرة سرمدة، المثقلة بشعور مرير بالذنب، لأن الأخوة يقتلون أخواتهم إذا تزوّجنَ من خارج الطائفة، فيلوِّن القتل حيواتهم ويحدّد مساراتها، وقد يحدّد مصائرهم، لذلك لا تعرف سرمدة الفرح إلا بين حزن وحزن، فرح تشيعه المرأة في حياة الجماعة وحياة المكان، فيتحرّك الزمن الراكد. لكن المرأة في سرمدة هي المرأة: مضحّية وضحّية، مرغوبة في الخفاء ومنبوذة في العلن، في مجتمع يكذب على نفسه، فيطمس حقيقته الوجودية، وهيهات أن يكتشفها.
تبدأ أحداث الرواية في باريس، مع وصف ضئيل للحضارة ونهر السين، ولقاء دام ستّ ساعات مع عزّة توفيق عالمة الفيزياء؛ المتقمّصة شخصية هيلا منصور في حياة سابقة، يقيل الكاتب باريس وعالمة الفيزياء، ليوظّف سرمدة وأهلها في المكان والزمان، في جميع فصول الرواية.
هيلا منصور، خرجت عن العرف الاجتماعي؛ وعن تعاليم الدين الدرزي أو "الحكمة الشريفة"، وهربت مع أزادي الذي ينتمي إلى أصول أمازيغية، ثم عادت بعد خمس سنوات لتذبح كالشاة في ساحة سرمدة، أمام رجال الدين ووجهاء القرية، لكي يحلق أخوتها الأربعة ذقونهم التي أطلقوها بعد فرار هيلا، مقسمين ألّا تُحلقَ إلّا فوق جثّتها، ويمشوا مرفوعي الرؤوس شامخين برجولتهم المبتورة، بينما يمنحون أخاهم الأصغر حقّ العلاقة غير الشرعية في بيت عاهرة القرية، من ثم يتجنّد جميع أهالي القرية لإنقاذ البقرة "أميرة" من سكاكين الذبح عندما وقعت في مأزق لا مخرج منه. هنا أشهد لفادي بالعبقرية المنتجة في المقارنة الفذّة بين سلطة الإنسان على الإنسان، وسلطة الحاجة عليه.
أبدع الكاتب الشاب في نقطتين اثنتين، الأولى طريقة السرد المنسابة والمتدفّقة واللاهثة، والثانية الغوص في أعماق المرأة، واستنطاقها، وإبرازها في حالتها الحرّة حينا؛ً والمقيّدة والخاضعة حيناً آخر. أمّا هفوات الأحداث فهي كثيرة.
أربعة فصول بعناوين أنثوية، عزّة توفيق أول الفصول المزهرة، التي انتزعت فادي من الحاضر الحديث المفعم بالعلم والحضارة، وألقت به في غياهب الماضي الذي مضى ولم يمضِ عند شاب يُفترض أن يعيش حاضره، ويحلم بمستقبل أكثر حيوية وتطلّعاً إليه وأوسع أفقاً، وأغرقته بزمن حسيّ لم يكن يدركه من قبل، ليذهب إلى سرمدة التي تلتصق بذاكرة "رافي عزمي" السارد بلسان فادي.
طغت المرأة على فصول الرواية بزيّها التقليدي، وصورتها النمطية: المرأة المضحّية، المطيعة، المنقذة لشرف العائلة والأخوة الرجال، والعاهرة المقدّسة، والعانس والشهوانية؛ أمّا المرأة المتمكّنة وصاحبة الأهلية والاستحقاق والعالمة؛ فتركها للحضارة الباريسية، وكأن سرمدة بل سوريا كلها لا تستحقّ مثل تلك المرأة، ما تستحقّه تلك البلاد في نظر الكاتب هو الخوف والرعب والفزع الذي يثير كثيراً من الأسئلة: لمن يتوجّه فادي بهذا الماضي المخيف، وما هو إثباته على انتقال الروح من هيلا منصور إلى عزّة توفيق، ألا يجدر به أن يأتي بإثبات علميّ ليقنع القارئة والقارئ بهذه "النظرية"، مع أنه بدأ روايته بقوانين نسبية إنشتاين، ولقاء لم يدم إلا بضع ساعات مع عالمة فيزياء، لم تجد هي الأخرى تفسيراً علمياً لانتقال الروح من شخص إلى آخر.
فريدة الأرملة والعاهرة التي صوّرها الكاتب الشاب بالمنتجة للشعراء والفنانين من شباب سرمدة، احتوت مراهقتهم في الممارسة الأولى للجنس وكأنها الخلق الأول، وفي ذات الوقت هي أمٌّ عازبة، تقبّلها أهل القرية واهتمّوا بطفلها الذي سيصل به الحال إلى تفجير نفسه في عملية انتحارية في لبنان، ويصبح بطلاً قومياً. هناك تناقض في الرواية بين العادات والتقاليد الموروثة، التي هي محور الرواية، وبين التسامح المبالغ فيه، أو التعايش بين الطوائف، فكيف لطائفة منغلقة على ذاتها دينياً، أن تقبل بطفل غير شرعي من وجهة نظرها، وامرأة بصفات فريدة. وهل التسامح هو تعميد أولاد الدروز والمسلمين السنة، وختن أولاد المسيحيين، فالتعايش يتطلّب مساواة بين المواطنين والمواطنات في الحقوق والواجبات، وعدالة اجتماعية تكفل لكل فرد حقّه في العيش الحرّ والكرامة المتساوية بين الجميع.
استخدم الكاتب أساليب كثيرة لكتّاب سبقوه، فأرملة نيكوس كزانتزاكي في رواية زوربا، كفريدة في سرمدة مع الاختلاف في الهدف المنشود من قِبل الكاتب، وانتقال الروح من هيلا منصور إلى عزّة توفيق، يشبه التقمّص الذي تحدّث عنه ممدوح عزام في قصر المطر، حتى النساء في سرمدة يشبهنَ نساء قصر المطر، أمّا الطاعون الذي حلّ في سرمدة لتصحو الإنسانية في قلوب أهلها، فهو كطاعون ألبير كامو، هل كان يريد فادي أن يقول لكل هؤلاء ترجّلوا ها أنا قادم؟
كان على فادي أن يكوّن ثالوثه المحرم منفتحاً على المستقبل الذي تركه بين يديّ الفرنسيين مع عزّة توفيق في الشانزليزيه، وليس غارقاً في ماض لا يمضي.