info@suwar-magazine.org

الآنيّون والأبديّون .. جماعات الفراغ وتفريغ الجماعة

الآنيّون والأبديّون .. جماعات الفراغ وتفريغ الجماعة
Whatsapp
Facebook Share

 

 

الأبد هو المستحيل، والمستحيل مفهوم معرفيّ يعبّر عن استعصاء الحواس والعقل أمام مفهوم أو ظاهرة ، والأبديّون ، هم الذين يواجهون الآخر بجّثة خيالٍ منهوب، فيبدو خطابهم غير مدرك وعصيّ على التناول بالعقل، وإذا كان عليك أن تحاور ( أبديٌّ) فلا بد لك من التماثل مع خياله المنهوب ، وعليك أن تنهب خيالك بقسوةٍ لتدخل في أبديّة الخيال المنهوب ، حيث أنهار العسل وحور العين والأضواء اللامعة في شوارع المدن الكبرى.


الأبد بالنسبة للأبديّون ليست كلمة، بل جملة تجرّ خلفها أذيال معانٍ متكاثرة على الدوام، تتفرّع هذه المعاني بكثرة، ثم تموت لتنمو من جديد وتتكاثر إلى الأبد، ذاهبة نحو الأبد .


عند هذا المعنى يبدو الأبد كَوَرم زمني كبير يحتلّ الأفق، كبرتقالة رمادية هائلة وبعيدة المنال، وكلما تقدّم الزمن نحوها ابتعدت، كأنها لا تعني للزمن شيئاً، هي فقط تحتلّه ونسمّيها الأبد .


كلمة واحدة، ولدت في الوهم، وما زالت تعارك منذ قرون طويلة كي تنتصر في ثياب الحقيقة.


القتلة يحتاجون كلمة الأبد قبل الرصاص والبنادق. لذلك يشتغلون الآن بالله كي يكون للأبد مكان ساحق في الآن .


الآن:


الأبدُ مقلوب بأنامل الأنبياء، إنه الأبد مقشّراً، ومن ينتصر للّحظة، ويسير في شوارع المدن الراقية بلباس عصري وبارفان نادر، ذلك الذي يذهب ليوقّع صفقة سلاح فتّاك مثلاً، ويتناول لحوم عشرة كائنات بسكين لامع ودقيق أو ذاك الذي يكتب كثيراً للحرية لدرجة أنها ستختنق من ركام كلماته.


هنا الانتصار للحظة يبدو انتصاراً للأبد؛ كي يستمرّ العالم بصيغته الأكثر توحشّاً، لا بدّ من وجود كلمة الأبد كي يتداولها الطغاة والأنبياء في خطابهم ، ولا بدّ من وجود كلمة الآن/الأبد مقشّراً/ كي يتداولها العموم. 


يبدو هذا التماثل في الكينونة والوظيفة والدلالات المتكاثرة بين الكلمتين تماثلاً غريباً ومريباً في آن، وإذا فكرنا مثلاً أن كلتا الكلمتين تشير إلى نقيض الأخرى وليس إلى مثيلتها، سندرك أن ما يحدث في العالم الآن ما هو إلا انفجار شديد مبنيّ في قوّته على حشر القوى المتناقضة في التماثل بقوة الإرادة، هكذا يبدو جلياً، أن العالم الذي يتوازن على هذه الطاقة من الخراب، لن يكون عالماً صالحاً للعيش، ولكننا كبشر نعرف بفطرتنا أن هذا العالم رائع وصالح للحياة؛ لذلك ربما سيكون القبض على الكلمتين معاً، ونزع معانيهما السرطانية المتكاثرة في الحياة والفكر والفن والثقافة، وعن الزمن المعاصر برمّته، كي يتعافى من هذا الوزر الثقيل الذي حملناه؛ لأننا توهّمنا كَبَشر، أننا عابرون في الآن وخالدون في الأبد .

 

عن الآنيوّن:

 

في الحديث عن الآن ، اللحظة الحاضرة ، لا بد لنا من النظر إلى الوراء لأكثر من خمسين عاماً ، حيث أخمد دخان (الآن) ملامح ثورة الطلاب في فرنسا في الستينيات من القرن المنصرم ، وحيث بدأت ارتدادات إخماد حراك الطلاب الحي تتجلّى في عقد التصالح الذي قدّمه السوق للحرّية الفردية .

 

أمّا في بلادنا فقد نشطت ثقافة الآن متقدّمةً في تفريغ التاريخ من محتواه دون تفكيكه ، وواضحةً في عجزها وافتقارها /عبر استعاراتها في الفكر والإبداع/ إلى الأصالة فيما تذهب إليه، فكان الآنيّون هم المدافعون الشرسون عن الزمن المسطّح كالبلاستيك الشفّاف ، والذي يخبّئ تحته ديدان الجسد الهائل المخنوق الميت ، جسد التاريخ .

 

حسناً لنتخيّل معاً في بعض ما يدور حولنا حقاً أو ما ندور به حقاً ، لنسخر ونتهكّم ، على اعتبار أن السخرية هي فعل إنساني أصيل.

 

إن التاريخ يتشبّث بالزمن كي يراكم الحدث في جوفه ، حسناً لنتساءل معاً عن المادة التي سيتبرّزها التاريخ حين يلتهم الزمن المعاصر .. ؟

 

إنه الزمن مرة أخرى ، بعد أن تمّ هضمه وتفكيكه وامتصاصه وعلكه وفي مراحله الأخيرة سنحتفل به معاً كمن يحتفل بمولود جديد ونسميه الزمن المعاصر مرة أخرى .. الزمن المكتظّ بالآن !

 

الآنيّون يدافعون عن اللحظة الحاضرة كَوَكيل إعلاني صغير في مؤسّسة عملاقة ، ويقدّمون الآن في نصوصهم واقتراحاتهم كزمن مبتور ، لحظاته ميتة ومقطوعة بعنف وخُبث نابشي القمامة على ضفاف المدن .

 

يتصدّر الآنيّون المنابر والشاشات والسينما والأدب والمسرح والمجالس والمواقع والشركات، وهم مَهَرة في اصطياد البقاء، فهم نادراً ما يُقتلون في الحروب والأحداث ، وإذا حدث وأصاب أحدهم مكروه من الحرب ، فذلك يعود للحُمْق الذي يوصّفه الآنيّون بشكل دقيق ، الحُمْق الذي يدفع عاشقاً مغفّلاً نحو تصديق الضوء .!

 

يختبئ الآنيّ خلف وهم تكامل أفكاره ، وانسدادها عن التبادل مع الآخر ، لأن الآنيّ هو سيد اللحظة ، وهو يستخدم الأزمنة القديمة والمستقبلية لانفتاح الآن على الأنا، ليغدو الآخر بالنسبة للآنيّ هو زمن العدم في الماضي والمستقبل ، حيث لا آخر للآنيّ سوى أناه ، ذلك ما تستقرّ عليه أقلام النُّخب وجرّافات العسكر وروائح الساسة والفازلين الصناعي على جلود النجوم .

 

من الشعارات التي استخدمها آنيّون كسالى مثلاً، فصل الدين عن الدولة .

 

لقد بقي هذا الشعار راهناً في أقلام النُّخب بعد أربعمئة عام من حضوره الحي اثر الثورة الصناعية والثورة الفكرية التي رافقتها في أوروبا، ولا بد من التنويه إلى الفرق بين فصل الدين عن الدولة كمؤسّسة اجتماعية ، وبين ما يترتّب علينا رصده والبحث فيه، في فصل العقائد والأيديولوجيا الدينية عن أشكال الحياة المعاصرة ، فصل العقائد المنحطّة عن التعليم والإعلام والصورة والميديا وكل النشاطات المعمّمة والتي تتّصل بنظم وصياغة العلاقة بين الأفراد والجماعات .

 

إن فصل الدين عن الدولة، هو خطاب بائس بؤس مفكّري الحراكات وعقولهم التي لا تزال تلهث حول بديهيات الفلسفة وحكمة الإمام وفتاوى الشيوخ واقتراحات دوائر الاستخبارات .

لتبدو الدول المعاصرة هياكل هشّة نهشتها الأنظمة.

 

هكذا ، بين الآن والأبد ، تنتشر جماعات الفراغ المعاصرة من جهاد الذبح والنكاح إلى بيانات الساسة وسرديّات الأدب ومنظمات الحقوق ومراكز البحوث ..إلخ

 

جماعات الفراغ التي من شأنها إحلال الفراغ في أي معنىً ممكن ومعاش للأفكار ولمفهوم الجماعة البشرية التي تحاول صياغة عقدها الاجتماعي أو العالمي أو الكوني بما يلجم العالم عن صناعة الخراب.

 

بين الآن والأبد ، يبدو أن تكريس العبودية المعاصرة للإنسان هي أعلى مراحل الرأسمالية ..!

وأن التكرار هو المهزلة ، ولا بد من صيغةٍ مقلوبة لتَمَرْحُل التاريخ عبر توضيب هذه الكرة الزرقاء اللعينة كي تكون سيركاً مثالياً لنشاط العبيد .

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard