فيلم خزائن الألم: عندما تصبح قضية الاقتتال هَوَساً بلا هدف وخوضها عادة بمغانم الخسائر
الحرب ذاك الرُّهاب المستعر، والحلّ الناري الذي يُشَنّ منذ بدء الخليقة، إمّا دفاعاً عن قضية حقّ، أو طمعاً بمغنم سياسي واقتصادي يستحوذ على الدول وشعوبها ومواردها، حاملة أوزارها لتحطّ شظاياها من ألم وفقدان وخسائر على القائمين بها، وعلى المستقبلين أوجاعها، ولعلّ أبشع تلك الحروب هي التي اتّخذ القائمون عليها فلسفة قيامتها خدمة لهَوَس الاقتتال والسيطرة والتدخُّل بمصائر العالم، والتي استطاع تاريخ الفنّ السابع نقله لنا عبر عدّة أفلام، ومن أهمّها فيلم (خزائن الألم) عام 2009.
وهو فيلم سياسي اجتماعي من إنتاج وإخراج أمريكي لـ (كاثلين بيجلو)، والذي ينقل حكاية التدخّل العسكري الأمريكي في العراق، والذي تمّ تصويره في الأردن مستغّلاً تشابه البيئة الجغرافية والأمن، هنا الفيلم يحكي قصة لكتيبة مكوّنة من 3 جنود من الجيش الأمريكي مهمّتها إزالة المتفجّرات، والقنابل المزروعة في طرقات وأبنية العراق، وإبطال مفعولها، متطرّقاً لحال وحياة هؤلاء الجنود الأمريكيين، وأهاليهم أثناء حرب العراق خارج وطنهم الأمّ، مستعرضاً أحداثاً يومية في حياة الكتيبة و الآلام النفسية اللي يعاني منها الجنود خلال أيام حياتهم، مع محاولة إبراز بعض الجوانب الشخصية فيهم.
إضافة إلى الصراعات والمواجهات التي يتعرّضون لها مع مجموعة من المرتزقة المسلّحة في عملهم لنزع القنابل، وما يشهدونه من الغارات والتفجيرات على المستودعات . مفسّراً الأسباب النفسية التي جعلت هؤلاء الجنود يدمنون على خوض الحروب في وطن غير وطنهم، ويقاتلون لأسباب، أحياناً، لا تكون مفهومة، مجتازاً أحدهم كل الاعتبارات للعلاقات الإنسانية التي تربطه بالآخرين والمحيط، لينقل الفيلم فلسفة الحروب وقسوتها والطريقة التي كانت متّبعة في حروب العسكر مع ذواتهم التي ولّدت الكثير من الانفجارات النفسية بهم، والتي كانت تلهو بالموت بلعبة مفجعة، ومأساوية على كل الجهات. من خلال رصده للأيام الصعبة والظروف المميتة التي تستحوذها الحرب، وأثرها على الجنود القائمين بها، وعلى البلد المتعرّض لجحيم ويلاتها، وتصويره الحقيقيّ لعميلة المواجهة الدائمة مع الموت، والقدر المدمي، والإرهاب والتطرّف الواقع في الأجواء.
البداية في الفيلم تنطلق من موت قائد الكتيبة نتيجة تفجّر قنبلة فيه، ممّا سبب ألماً نفسياً شديداً لدى الجنديين الباقيين. بعد ذلك جاء قائد جديد غريب الأطوار، و ذو شخصية مختلفة تماماً عن القائد السابق الذي تفجّرت به القنبلة، حيث لم ينسجم معه الجنديان الباقيان في الكتيبة؛ لأنهم كانوا يقارنوه بسابقه.
يستمرّ الفيلم بمشاهده مصوّراً لنا طباع ثلاثة الأشخاص، أبطال الفيلم، والمكوّن منها الكتيبة التي تعمل في العراق، والذين يمثّلون أهم شرائح المجتمع الأمريكي.
أوّلها الجندي الجبان وغير الملتزم بأي قانون أو قيد، والذي لا يحبّ أن يخضع لسيطرة أحد، ويريد البقاء حرّاً يفعل ما يريد ضمن ملاهيه ورغباته الشخصية، ولا يوجد لديه هدف أو قضية لمشاركته في الحرب سوى نتيجة فرض واجب التجنيد عليه من بلاده، فهو أكثر الأفراد عرضة للقلق والاضطرابات النفسية والانهزامية نتيجة مجريات الحرب، حيث تعرّض هذا الجندي لألم نفسي شديد نتيجة موت القائد الذي يحبّه، وخضع نتيجة لذلك لعلاج نفسي، فنشاهده بالفيلم يتّهم الطبيب بأنه لا يشعر بمعاناته لأنه يجلس ليل نهار في معالجة الجنود نفسياً، ولا ينزل الميدان مثله، كما تدهورت الحالة النفسية له عندما تفجّرت أيضاً قنبلة بالطبيب المعالج، ممّا زاد الأمر سوءاً، ونلحظ هذا الجندي في إحدى المواجهات مع المقاومة في الصحراء، ترك الجنود و ذهب مختبئاً يبكي كالأطفال تأسّفاً على حاله وما آلوا إليه.
هذا الجندي أصيب في نهاية الفيلم، واضطرّوا لنقله إلى أمريكا للعلاج، والذي كان رغم إصابته سعيداً بمغادرة هذه الحرب وللعودة إلى بلاده.
أمّا الجندي الثاني في الكتيبة، فكان يحترم الدولة ويتبع التعليمات، و يؤمن بأنه يدافع عن الدولة والأمن القومي ضد الأشرار، كان يعشق التعليمات، و كان دائماً في حالة صراع مع قائده الجديد بسبب أفعاله المتهوّرة؛ كونه لا يلتزم بالتعليمات. مبرمج على مبادئ وقناعات تقول إن خوضه للحرب دفاعاً عن الحقّ وسلطة أمريكا في العالم، وهو لا يتنازل عنها بل يدافع مستشرساً عنها بأنه جندي الحقّ والحرّية. ليكتشف في نهاية الفيلم خطأه نادماً متحسّراً عليها، مفكّراً بزوجته وعائلته وحياته الشخصية والمصير الذي ينتظره.
الشخصية الثالثة في الكتيبة، و هو القائد الجديد، وهو شخصية متهوّرة تماماً، مجازف جداً وشجاع جداً، لكنه لا يعرف من أجل ماذا يقاتل، ولا يعلم سوى انبهاره برتبة القائد، والضجيج حول بسالته وإقدامه في المهمّة الموكل إليها من بلاده لنصرة تلك الحرب.
كان يذهب دائماً إلى المتفجّرات بنفسه مرتدياً البزّة الخاصة، ولا يخاف بل أحياناً كان يلقي قنبلة الغاز المضلّل الذي يحجب الرؤية حتى لا يتابعه أحد من الجنود، ويصوّر لنا الفيلم اندفاعه وتحرّره من الخوف عندما نزع كذلك البزّة الواقية في مرة من المرات عندما طفح به الكيل في نزع إحدى المتفجّرات، ومخبراً الجنود أنه إن كان سيموت، فإنه يريد أن يموت مرتاحاً.
يستمرّ الفيلم باستعراض مشاهد الكتيبة وجنودها وطباعهم وصولاً إلى مشهد إسقاطي، وهو جلوس الجندي القائد المتهوّر مع الجندي المتّبع للتعليمات، وهو جندي أسود البشرة بالمناسبة، داخل السيارة في لحظة صفاء، والأطفال العراقيون في الشارع يرشقون سيارتهم بالحجارة، و يبدأ كلاهما في الفضفضة والبوح للآخر، و يبدأ الجندي ذو البشرة السوداء المتّبع للتعليمات يفصح في الحديث لقائده عن تطلّعاته نحو مستقبله، و كيف يتخيّله، وكيف أنه يحلم بأن ينجب طفلاً، ويبدأ في البكاء، وكيف وجوده في الحرب هذه بلا جدوى، ويبدأ بالبكاء كالأطفال لأنه لا يرى المستقبل المشرق أمامه أو خلفه حتى.
ليسال قائده المتهوّر، لماذا هو متهوّر هكذا؟ لماذا يبدو عليه الجرأة و الإقدام و عدم الخوف من الموت؟ فيجيبه القائد: "لا أدري" بلغة سينمائية حوارية مبسّطة تختزل عنوان الحرب وأهدافها.
فيلم «خزانة الألم» من أهمّ الأفلام التي تصدّت لموضوع الحرب في العراق، من خلال دراما سينمائية مثيرة للجدل، وبلغة احترافية فيها جلاء بصري وصوري وتحليلي لكل من البيئة والشخوص، تنقل قلق الحرب وأصوات المتفجّرات التي هزّت الأنفس قبل الآذان، ومعرفة الهدف الكامن وراء الحروب، والسرّ الذي يدفع الآخرين للاقتتال. هل أصبح القتال عادة قبل أن يكون هدفاً هامّاً للحرّيات واستعادة الحقوق والقضاء على الظلم ونصرة الحقّ؟
استدعى الفيلم اهتمام النقاد السينمائيين، حيث حاز على جائزة أوسكار أفضل فيلم في حفل توزيع جوائز أكاديمية الفنون والعلوم السينمائية لعام 2009، بالإضافة إلى ستّ جوائز أخرى من بينها جائزة أفضل مخرج لكاثرين بيغلو.
مشاهد من الفيلم: https://www.youtube.com/watch?v=v9MhXIoAk4I