كلّ ما لا يخطر على البال في معرض دمشق الدوليّ للكتاب
قد يكون للإجراءات الأمنية المتّبعة في تظاهرة ثقافية، كالدورة الثلاثين من معرِض دمشق للكتاب، تحسّباً من أي عمل إرهابي، يحيل الهدوء الذي ينعم به السكان في دمشق مؤخّراً إلى جنازة، في بلد لم تُسدَل فيه ستائر الحرب حتى الآن، أمر يُشكر عليه القائمون والمنظّمون لهذه التظاهرة. لكن ما لم يستطع أحد تفسيره، وفهم أبعاده، أن يُمنع أي زائر، أو حتى ناشر، من إدخال كتاب، أو قصاصة ورق، إلى مكتبة الأسد الوطنية، وسط ساحة الأمويين في دمشق، حيث يُقام المعرِض، الذي افتُتِحت أبوابه في الحادي والثلاثين من تموز الفائت، دون أن تطّلع عليه لجنة دعم المعرِض، المؤلفة من ممثّلين عن وزارة التربية والتعليم العالي والثقافة والإعلام والأوقاف والقيادة القطرية، الموكلة بتفحّص كل كلمة خُطّت على ورقة بيضاء، وإن كانت بروشوراً بيد رجل خمسيني، يستدلّ به على ما يريد اقتناءه من الكتب، لتجنّب مشقّة البحث الطويل.
إمّا تفحّص الكتاب وإمّا المصادرة
عند مدخل البوّابة الرئيسية لمكتبة الأسد، تقف هدى، القارئة المحبّة لكتب النقد الديني. تهمّ بالدخول لتتجوّل بين أجنحة دور النشر الـ200، السورية والعربية، المشارِكة لهذا العام، فتعترضها اللجنة الأمنية. يدور سجال بينها وبين الرجل المسؤول عن مصادرة الروايتين اللتين كانتا بحوزتها. تؤكّد له مراراً أنها طالبة جامعية، وأن الروايتين نسيجهما أدبي، لا تتطرقان إلى المحرّمات السورية الثلاث، "الجنس والسياسة والدين"، لكن ذلك لم يبدّل من الحال تبديلاً، بل زاد رجل الأمن إصراراً على المصادرة، "ما عم تفهمي يا آنسة، عم قلّك ممنوع تفوتي معك كتب عالمعرض، قبل ما تفحصن اللجنة". تسأل هدى عن اللجنة، فيجيبها أنها تتواجد في أوقات محدّدة فقط، وأن ما من خيار أمامها سوى الرضوخ لقرار الجهة المنظِمة.
"مجتمع يقرأ مجتمع يبني" أم جَلد للثقافة
لم تقف الإجراءات التي خلقت جوّاً من التشنّج عند هذا الحدّ، بل كان لأصحاب دور النشر المشارِكة النصيب الأكبر منها. فقبل أيام من افتتاح المعرض، الذي حمل شعار "مجتمع يقرأ مجتمع يبني"، سادت حالة من التخبّط أوساط الناشرين السوريين، مردّها تحديد مشاركة الكتب الصاردة من عام 2008 وحتى العام الحالي.
حجّة اللجنة أنها لا تريد تحويل المعرض إلى "بسطة" كتب قديمة، الأمر الذي أثار حفيظة بعض أصحاب دور النشر، لكون قرار كهذا، لم يأخذ بعين الاعتبار النتائج السلبية، التي تركتها الحرب على الوسط الثقافي في سورية، وتراجع حركة النشر لسنوات عدة. فالفلسطيني، سعيد البرغوثي، صاحب دار "كنعان" للترجمة والنشر، امتنع عن المشاركة في معرض هذا العام، لأن الشروط حسب رأيه "تفتقر إلى المرونة". فالتقيّد بسنوات الإصدار، يمنع عرض الكثير من العناوين الهامّة لديه.
ليس التقيّد بسنوات الإصدار وحده هو ما أزعج الناشرين المشاركين كافة، بل تشكيل لجنة مراقبة، كان بحدّ ذاته صفعة للكثير منهم. ففي السنوات الماضية، كانت إدارة المعرض، تخضع بشكل مباشر، لمدير مكتبة الأسد، دون غيره. بيد أن تعدّد الممثلين عن الوزارات والمؤسسات المسؤولة عن مراقبة وتفقّد محتوى الكتب المعروضة، في دورة هذا العام، برعاية وزير الثقافة محمد الأحمد، حفيد الشاعر السوري، بدوي الجبل، ضيّق الخناق أكثر على الناشرين، وقيّد مشاركتهم، الأمر الذي ساهم في "إفشال المعرض"، برأي سامي أحمد، صاحب دار "التكوين"، ذات التوجه العلماني، والذي مُنِع من عرض كتاب "نقد الدراما التلفزيونية"، لمؤلّفه ما هر منصور، على الرغم من استيفائه الشروط المطلوبة كاملة.
إن التشديدات المتبعة من قبل لجنة مراقبة الكتب، يعزوها بعض الناشرين، إلى تسلّل كتاب يمجّد الرئيس التركي أردوغان، إلى معرض العام الفائت، ما أدّى إلى إثارة بلبلة كبيرة، بين عاتب على إهمال وزارة الثقافة، ومؤيّد للانفتاح على الرأي الآخر، آلت في نهاية المطاف إلى إقالة صالح صالح، مدير عام مكتبة الأسد آنذاك. وعلى الرغم من ازدياد عدد الدور المشاركة لهذا العام بنسبة 100% عن السنوات السابقة، حسب ما جاء في البيان الصحفي لوزير الثقافة، فإن ذلك لا يعبّر بالضرورة عن رضى الناشرين المشاركين. "كما أن استمرار الأمور على هذا المنوال"، كما يقول مهيار علي كردي، مدير دار "مؤمنون بلا حدود" اللبنانية، الذي صودرت العديد من كتبه، لحين تفحّصها، "سيؤدّي بالعديد من الدُّور اللبنانية إلى العزوف عن المشاركة في الدورات المقبلة".
زوار بـ"الجملة" وأرباح بـ"المفرّق"
ليس بالأمر اليسير تحقيق عائد مادي، يغطي مصاريف أجرة الجناح، وتكلفة إقامة الناشرين الضيوف، في بلد لا يزال غالبية مواطنيه يتقاضون راتباً شهرياً يتراوح بين 60 إلى 100 دولار، مع أن زيادة تقدّر بعشرة أضعاف طالت سعر صرف العملات الأجنبية منذ اندلاع الحرب. فعلى الرغم من أن التخفيضات على أسعار الكتب وصلت في بعض الأحيان إلى 70%، إلا أن ذلك لم يجعل من اقتنائها في متناول الجميع. فشراء ثلاثة كتب يعادل ثلث راتب المواطن السوري، مع الأخذ بعين الاعتبار أن لكل قاعدة اسثناء، فغلاء سعر الكتاب، غير مقترن بالضرورة بعدم توزيعه، ذلك أن مستويات القراءة عند العرب عموماً، في حالة تدهور كارثية، وفقاً للعديد من الإحصائيات، التي أكدت أن معدّل قراءة المواطن العربي لا يتعدّى ستّ دقائق سنوياً.
كما أن بعضاً من اللوم يحملّه الناشرون لمديري الجامعات والمراكز الثقافية، على تقصيرهم وإحجامهم عن دعم المعرض منذ سنوات، الأمر الذي علّله هؤلاء المديرون بعدم توفّر الإمكانيات المادية لرفد المكتبات لديهم بما يلزمها من الكتب.
ستنتهي فعاليات معرض دمشق للكتاب في الحادي عشر من الشهر الجاري، وكأنه لم يكن يمثّل إرثاً ثقافياً، وفرصة لتلاقي الأفكار، وعرض نتاج المبدعين والمثقفين، وسيبدأ تقييم الأخطاء كما جرت عليه العادة عند القائمين عليه، أملاً منهم بتبديل حال، بات يرى فيه الكثيرون أنه عصي على التبديل."فالكتاب لا يحتاج إلى كل هذا الجَلْد"، كما عبّر سامي أحمد على صفحته على الفايسبوك، "ورجاؤنا الوحيد أن يتولى مسؤولية الثقافة من هو قادر على النهوض بها، والانطلاق من النقطة التي بلغتها، بدلاً من الرقص حولها والنقيق".