info@suwar-magazine.org

القطاع الأمنيّ في المنظومة الدستوريّة السوريّة (1)

القطاع الأمنيّ في المنظومة الدستوريّة السوريّة (1)
Whatsapp
Facebook Share

 

 

تمثّلت أبرز أوجه التحديث القانوني في عالمنا العربي باعتماد دساتير عصرية مستمدّة بمجملها من مبادئ ومقومات الدول الحديثة، ولا سيّما الفصل بين السلطات وتحديد شكل الدولة ونظام الحكم فيها ديمقراطياً، والتأكيد على حقوق المواطنين وحرّياتهم. هذا وتتضمّن الدساتير المختلفة نصوصاً متعلّقةً بقطاع الأمن ومكانة الأجهزة القائمة عليه ووظائفها وصلاحيّاتها المختلفة. فلا شكّ في أنّ المنظومة الدستورية قد ساهمت في صوغ المبادئ الأساسية لتسيير شؤون الدول وتحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، غير أنّ أغلب الدساتير العربية شَرْعَنت في بعض نصوصها تسلّط الحاكم وتوغّله في السيطرة على مقاليد الحكم. فسيتبيّن لنا من قراءة بعض الفقرات في هذه الدساتير مدى تأثيرها على تسلّط وهيمنة الأجهزة الأمنية. سنخصِّص الجزء الأول لمعالجة النصوص الدستورية ذات الصلة بالقطاع الأمني، وذلك في أبرز الدساتير التي عرفتها سوريا الحديثة، بينما سيركّز الجزء الثاني على هذه النصوص في الدستور الحالي لعام 2012، والذي تمّ اعتماده على إثر الانتفاضة الشعبية ضدّ نظام الأسد.

 

أوّلاً- دساتير سوريا السابقة : التأرجح بين المدنية والعسكرية

 

يُعدّ الدستور الصادر في 13 تموز/يوليو لعام 1920 أول دستور سوري، أعقبَ التخلّص من العثمانيين،حيث تمّ إعلان أول دولة سوريّة مستقلّة ترأسها فيصل بن الحسين بين عام 1918 وعام 1920. وقد جاء في مادته الأولى بأنّ "حكومة المملكة السورية العربية حكومة ملكيّة مدنيّة نيابيّة عاصمتها دمشق الشام، و دين ملكها الإسلام". وبهذا يمكن أن يتبيّن من الإشارة إلى مدنيّة الحكومة إبعاداً للصفة العسكرية عن الدولة، ولكنّ نفس هذا النصّ يقرّبها من الصفة الدينية بسبب الإشارة إلى دين الملك[1]. ويعدّ الملك، بموجب المادة الثامنة، القائد العام وهو الذي يعلن الحرب، ويعقد الصلح والمعاهدات على أن يعرض ذلك على "المؤتمر العام"[2] ليصادق عليه، كما يمنح الأوسمة ويوجّه الرتب العسكرية والمناصب الملكية.

 

وبمقتضى المادة 80 "لا يشترك في الانتخاب الجنود الموجودون في الخدمة الفعلية، وأمّا المأذون منهم في دائرته الانتخابية فيشترك بها". ورغم حداثة هذا الدستور، فإنّه لم يضفِ الصبغة العسكرية على الدولة، والتي لم تكن شديدة التأثير فيه على الرغم من أنّ الملك فيصل قد دخلَ دمشق على رأس قوات الجيش العربي لدحر العثمانيين.

 

ثمّ صدر دستور دولة سوريا عام 1930، وذلك في ظلّ الانتداب الفرنسيّ، والذي دام بين عامي 1920 و1946، وتَبِعته مجموعة من الدساتير التي رافقت الانقلابات العسكرية المتكرّرة، وأيضاً إقامة الجمهورية العربيّة المتّحدة في العام  1958، والتي وحّدت سوريا ومصر لمدة ثلاث سنوات.

 

هذا ولم يتم إغفال دور مهمّ للقطاع الأمني في أيٍّ من هذه الدساتير، الأمر الذي يتبيّن بشكل جليّ في دستور عام 1950 أو ما يٌطلق عليه "دستور الاستقلال". ومع ذلك يبقى هذا الدستور من أهم الدساتير السورية نظراً لتبنّيه قانونيّاً من قبل الجمعية التأسيسية في 26 تشرين الثاني/نوفمبر من العام1949 ، وبسبب تركيز أحكامه على مبادئ الديمقراطية ودولة القانون، فضلاً عن ضمان حقوق المواطنين وسلطة الشعب وتقليصه لصلاحيات رئيس الجمهورية. وهذا ما يبرّر دعوة العديد من الكتّاب والمعارضين السوريين إلى تبنّيه اليوم، بشكل دائم أو على الأقلّ مؤقّت[3].

 

وفي ما يخصّ القطاع الأمنيّ، جاء في المادة 30 من دستور عام 1950 بأنّ "الجيش حارس الوطن وتنحصر مهمّته في الدفاع عن حدود الوطن وسلامته". وبالتالي تمّ تحديد وحصر مهمّة الجيش، ولم توكل له مهام عقائدية أو أمنية بخلاف الدساتير السورية اللاحقة كما سنرى. وتنصّ أيضاً المادة (30) على أنّ "الجندية إجبارية، وينظّمها قانون خاص". وعلى الرغم من تقليصه لصلاحيات رئيس الجمهورية، نصّت مادته (38) على أنّ "رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للجيش وهو رئيس مجلس الدفاع الوطني".

 

وتحوي المادة العاشرة من هذا الدستور على أهمّ الضمانات القانونية التي تكرّس، في حال إعمالها، الحدّ من بطش الأجهزة الأمنية ودور القضاء الاستثنائي. فقد أشارت هذه المادة إلى حظر التعذيب والمعاملة المهينة، وعقوبة لمن يفعل ذلك بمقتضى القانون، ومنعت السلطات الإدارية من توقيف أحد احتياطياً إلا في حالات استثنائية. وأضافت نفس هذه المادة بأنه لا يجوز إحداث محاكم جزائية استثنائية، وتوضع أصول خاصة للمحاكمة في حالة الطوارئ، وبأنه "لا يحاكم أحد أمام المحاكم العسكرية غير أفراد الجيش، ويحدّد القانون ما يُستثنى من هذه القاعدة"[4] .

 

وتتعلّق المادة 12 بحرمة المساكن وعدم جواز تفتيشها بغير إذن صاحبها أو أمر قضائي، والمادة 13 بسرّية المراسلات البريدية والبرقية والمخابرات الهاتفية. وعلى الرغم من أهمية هذا الدستور ونصوصه، فإننا نختلف مع المطالبين بالعودة إلى تطبيقه. فقد أغفلَ هذا الدستور تحديد شروط تطبيق حالة الطوارئ على الرغم من ذكرها في المقدمة وفي المادة العاشرة. كما لم يفصّل الضمانات الدستورية اللازمة لعمل الأجهزة الأمنية وممارسة الرقابة اللازمة عليها[5].

 

وعلى إثر انقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي في الثامن من آذار/مارس 1963 وتقلّد حافظ الأسد للسلطة في مطلع السبعينات، ابتدأت مرحلة جديدة وطويلة الأمد من حكم العائلة الاستبدادي والقائم بشكل أساسي على دستور عام 1973 والذي منحَ سلطات واسعة لرئيس الجمهورية وأعمدة حكمه الأساسي الممثّلة بحزب البعث العربي الاشتراكي وأجهزة الأمن المتشعّبة والمتعدّدة[6]. فعدّت المادة الثامنة من الدستور بأنّ هذا الحزب هو "القائد في المجتمع والدولة"، فاستحوذ على أغلب المقاعد البرلمانية وضمنَ سيطرته على مجلس الوزراء[7]، بالإضافة إلى تغلغله في كافة قطاعات الدولة ولاسيما التعليم والجيش والأجهزة الأمنية[8].

 

 

 وكان لرئيس الجمهورية، بموجب هذا الدستور، سلطات واسعة، تشريعية وتنفيذية وقضائية[9]. فبحسب المادة 103: "رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، ويصدر جميع القرارات، والأوامر اللازمة لممارسة هذه السلطة، وله حقّ التفويض ببعض هذه السلطات". وتُتيح المادة 109 للرئيس تعيين الموظفين المدنيين والعسكريين وإنهاء خدماتهم.

 

وجاء في المادة 11 بأنّ "القوات المسلحة ومنظمات الدفاع الأخرى مسؤولة عن سلامة أرض الوطن وحماية أهداف الثورة في الوحدة والحرية والاشتراكية". وهذه نفسها أهداف حزب البعث العربي الاشتراكي التي لم يُحقّق أيّاً منها حتى اليوم، بل تمّ زجّ الآلاف من النشطاء الحقوقيين والمعارضين السياسيين في السجون ومراكز الاعتقال لاتهامهم بمعاداة هذه الأهداف، وذلك من خلال العديد من النصوص القانونية التي تجرّم ذلك حتى لمجرّد القول أو الكتابة[10].

 

وتشكّل كل من المادتين (101) و (113) من دستور عام 1973 الأساس الدستوري لترسانة من المراسيم والتشريعات القمعيّة والإجراءات التي اتخذها وأصدرها رئيس الجمهورية خلال العقود الماضية لتكريس امتيازات واسعة للأجهزة الأمنية بما يتّسق مع بنية النظام الاستبدادي.

 

وهاتان المادتان تخوّلان رئيس الجمهورية إعلان حالة الطوارئ المادة (101) واتخاذ إجراءات سريعة في حال قيام خطر جسيم وحال يهدّد الوحدة الوطنية أو سلامة واستقلال أرض الوطن أو يعوق مؤسّسات الدولة عن مباشرة مهامها الدستورية (المادة 113). هذا ولم يُحدّد الدستور أية ضوابط وشروط لحالة الطوارئ، بخلاف أغلب دساتير العالم، كدستور أفريقيا الجنوبية الذي جاء مفصّلاً في هذا الخصوص. فاشترطت مادته (37) بأنّه لا يجوز إعلان حالة الطوارئ إلا بمقتضى قانون برلماني وفي حالة كون "الأمة مهدّدة بالحرب أو الغزو أو العصيان العام أو الفوضى أو كارثة طبيعية أو غير ذلك من حالات الطوارئ العامة؛ وإذا كان ذلك ضرورياً لاستعادة السلام والنظام".

 

وأضافت نفس المادة بأنّ إعلان حالة الطوارئ وتبنّي أية تشريعات أو إجراءات بموجبها يجب بأن يكون لفترة وشيكة، وأجازت أيضاً لأية محكمة مختصة أن تبتّ بصحة ذلك. وأخيراً، حدّدت المادة (37) العديد من الشروط التي يجب تطبيقها من أجل إمكانية الانتقاص من بعض الحقوق خلال تطبيق حالة الطوارئ، وفصّلت باستفاضة لائحة الحقوق الأساسية التي لا يمكن الانتقاص منها[11]. وفي غياب ضوابط مماثلة عن الدستور السوري، بقيت حالة الطوارئ مطبّقة في سوريا خلال حكم الأسد، ولم تُلغَ قبل عام 2011، تاريخ بدء الانتفاضة السورية.

 

ثانياً- الدستور السوريّ الحالي : إعادة إفراز نظام الأسد الاستبداديّ

 

اعتمدَ الأسد دستور عام 2012 في محاولةً منه لامتصاص غضب الشارع، وإعادة السيطرة على مقاليد الحكم كما كان عليه الحال قبل البدء بالانتفاضة الشعبية ضدّ نظامه في آذار/مارس 2011. صحيح أنّ هذا الدستور الجديد قد ألغى المادة الثامنة المُشار إليها أعلاه، والمتعلّقة بسطوة حزب البعث العربي الاشتراكي، بالإضافة إلى تضمينه العديد من الحقوق والحرّيات الأساسية للمواطنين، غير أنّه يحوي على أبرز عيوب الدستور السابق. وما يزيد من عدم شرعية هذا الدستور طريقة اعتماده، وصياغة بنوده التي تمّت في ظلّ إقصاء لكافة معارضي النظام، كما أُجريَ الاستفتاء عليه في ظلّ غياب أي جوّ ديمقراطي، وأيضاً ارتكاب النظام لانتهاكات واسعة النطاق ضدّ مكوّنات الشعب السوري بما في ذلك القتل والتعذيب والتهجير الجماعي والاعتقالات التعسفية التي طالت مئات الآلاف من السوريين المعارضين لحكمه[12].

 

فقد حافظَ الدستور الجديد على النظام الرئاسي، على الرغم من المطالبات بالانتقال إلى نظام برلماني أو شبه رئاسي[13]. فاستمرّ تركيز صلاحيات واسعة تشريعية وتنفيذية وقضائية بيد رئيس الجمهورية. ونصّت مادته (105) على أنّ "رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للجيش والقوات المسلح،ة ويصدر جميع القرارات والأوامر اللازمة لممارسة هذه السلطة، وله التفويض ببعضها"، وذلك بنصّ شبه مماثل للدستور السابق.

 

 

كما يُعيّن الرئيس الموظفين المدنيين والعسكريين وينهي خدماتهم وفقاً للقانون (المادة 106)، ويُبرم المعاهدات والاتفاقيات الدولية (المادة 107)، ويمنح العفو الخاص (المادة 108) وله الحقّ بمنح الأوسمة (المادة 109) وحلّ مجلس الشعب[14] (المادة 111) وإعداد مشاريع القوانين وتولّي سلطة التشريع (المادتين 112-113)، ويرأس كذلك مجلس القضاء الأعلى (المادة 133). وتضمن المادة 117 عدم مسؤولية رئيس الجمهورية عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهامّه إلا في حالة الخيانة العظمى، وفي هذه الحالة لابدّ من أن يتمّ اتّهامه بقرار من مجلس الشعب بتصويت علنيّ، وبأغلبية ثلثي أعضاء المجلس بجلسة خاصة سرّية، وذلك بناء على اقتراح ثلث أعضاء المجلس على الأقل، وتجري محاكمته أمام المحكمة الدستورية العليا.

 

 ولم يغفل رئيس الجمهورية إمكانية هكذا اتّهام في حال حدوث تغييرات سياسية، الأمر الذي دفعهُ إلى ضمان ولاء جميع قضاة المحكمة الدستورية العليا، فيسمّيهم جميعاً بمرسوم رئاسي (المادة 141) ويدلون بالقسَم أمامه (المادة 145)، كما يمكن له حلّ مجلس الشعب الذي يصدر قرار الاتهام، كما ذكرنا أعلاه.

 

وجاء في المادة (11) بأنّ "الجيش والقوات المسلحة مؤسّسة وطنية مسؤولة عن الدفاع عن سلامة أرض الوطن وسيادته الإقليمية، وهي في خدمة مصالح الشعب وحماية أهدافه وأمنه الوطني". وجاء هذا النصّ كعدم استجابة للمطالب الشعبية التي نادت بدايةً بإعادة الجيش إلى ثكناته وحصر مهامّه بالدفاع عن حدود الوطن من الاعتداءات الخارجية، ليشكّل سنداً دستورياً لتدخّل الجيش والقوى المسلحة الأخرى في معارك تدور رحاها داخل الأراضي السورية، والتي كانت بالأساس لقمع الجهات المعارضة لنظام الأسد.

 

 كما أنّ استخدام مصطلح "خدمة مصالح الشعب وحماية أهدافه"، يكرّس مجدّداً عقائدية الجيش وعدم حياديّته، ولا سيّما في ظلّ تفسيرات النظام لمصطلح "أهداف الشعب"[15]. بينما نجد في دساتير دول أخرى نصوصاً واضحة لدور الجيش وحياديّته، كما في دستور تونس لعام 2014، والذي جاء في فصله (مادته) 18: "(...) ويضطلع بواجب الدفاع عن الوطن واستقلاله ووحدة ترابه، وهو ملزم بالحياد التام. ويدعم الجيش الوطني السلطات المدنية وفق ما يضبطه القانون"[16]. وفي سياق مشابه، أكّد دستور جنوب أفريقيا بأنّه ﻻ ﻳﺠﻮﺯ ﻟﻸﺟﻬﺰﺓ اﻷﻣﻨﻴﺔ وﻻ ﻷﻱ ﻣﻦ أﻓﺮادها، ﻓﻲ ﺳﻴﺎﻕ ﻣﻤﺎرﺳﺘﻬﻢ ﻟﻤﻬﺎﻣّﻬﻢ، أن يدعموا أﻳﺔ ﻣﺼﻠﺤﺔ ﻟﺤﺰﺏ ﺳﻴﺎﺳﻲ من خلال اﻻﻧﺤﻴﺎﺯ ﻟﻪ[17].

 

وأمّا المادة (103) الخاصة بحالة الطوارئ والمادة (114) المتعلّقة بصلاحية رئيس الجمهورية باتخاذ الإجراءات السريعة التي تقتضيها الظروف لمواجهة الخطر الجسيم، فقد جاءتا مماثلتين تقريباً لنصوص المواد (101) و (113) من الدستور السابق والمُشار إليهما أعلاه. ويكمن الاختلاف، الشكلي وليس الجوهري، بأنّ المادة (103) الجديدة قد أشارت إلى لزوم عرض حالة الطوارئ، بعد إعلانها من طرف رئيس الجمهورية بمرسوم يُتّخذ في مجلس الوزراء المنعقد برئاسته وبأكثرية ثلثي أعضائه، على مجلس الشعب في أول اجتماع له. ولكن لم تُشترط موافقة هذا المجلس كما يتبيّن بوضوح من قراءة نصّ هذه المادة.

 

واستمرّ الدستور الحالي، كحال الدستور السابق، بالتنصيص على الخدمة العسكرية الإلزامية، من دون إدارج أية عبارة تسمح بالاعتراض لأسباب ضميرية. بينما يُلاحظ في دساتير أخرى نصوص تتعلّق بالاستنكاف الضميري، كحال الدستور الإسباني لعام 1978، والذي جاء في مادته (30)، الفقرة الثانية: "يحدّد القانون الواجبات العسكرية للإسبان، وينظّم الاعتراض الوجداني، وباقي أسباب الإعفاء من الخدمة العسكرية الإجبارية، آخذاً بعين الاعتبار الضمانات الملائمة؛ ويمكن للقانون أن يفرض، إذا اقتضى الحال، خدمة اجتماعية تعويضيّة"[18].

 

 هذا وعملت خلال العقود الماضية الكثير من الدول على إلغاء الخدمة العسكرية، كحال المملكة المغربية، والاكتفاء بوجود القوات المسلحة المحترفة. ولا يخفى أثر التجنيد الإجباري في سوريا، سواء أكان قبل بدء الصراع المسلح، حيث تعرّضَ الشباب للتدجين والأدلجة السياسية والإذلال، أو بعده حيث سِيقَ مئات الآلاف من السوريين إجبارياً إلى المعارك، وسبّبت طلبات السَوق الإلزامي إلى فرار الكثيرين خارج البلد.

 

يُضاف إلى ما سبق ذكره بعض العيوب الدستورية الجوهرية الأخرى التي يمكن إيجازها بما يلي:

 

 أولاً: تتضمّن الدساتير السوريّة المختلفة على نصوص ذات صلة بالدين[19] من ناحية، وبالعروبة[20]، من ناحية أخرى، بالإضافة إلى عدم إدراج نصوص وافية متعلّقة بالتنوّع الديني واللغوي والثقافي في هذا البلد الغني بأقلّياته غير العربية وغير المسلمة.

 

ثانياً: يُترك للقانون تنظيم العديد من الحقوق والحرّيات المنصوص عليها دستورياً، وبالتالي ينصاع الدستور إلى القوانين بدل من أن تحكم القواعد الدستورية تنظيم القوانين المختلفة ومضمونها. صحيح بأنّ الدستور يشرّع في الغالب الأحكام العامة تاركاً للقوانين تفاصيل التطبيق والتنفيذ، غير أنّ حدود الحقوق والحرّيات يجب التنصيص عليه دستورياً، كما هو الحال في دستور جنوب أفريقيا، وذلك تجنّباً لتعطيل هذه الحقوق والحرّيات بمقتضى القوانين، كما تشهد عليه التشريعات السورية[21].

 

 ثالثاً: يكتنف الغموض مسألة سموّ الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها الحكومة السورية على التشريعات الداخلية، وذلك بخلاف العديد من الدساتير العربية التي أشارت صراحة إلى هذا المبدأ[22]. هذا وتتضّمن هذه الاتفاقيات نصوص هامّة ذات صلة وثيقة بقطاع الأمن، كنصّ المادتين (9) و (14) من العهد الدولي الخاصّ بالحقوق المدنية والسياسية والمتعلّقتان بضمانات المحاكمة العادلة وحقوق الموقوفين والمعتقلين، وأيضاً نصّ المادة الرابعة الذي يتضمّن شروطاً عديدة لتطبيق حالات الطوارئ الاستثنائية[23].

 

وأخيراً، تبقى السمة الأساسية للدساتير السوريّة غياب الرقابة الدستورية على عمل الأجهزة الأمنية. فقد أولت العديد من الدساتير الحديثة أهمّية قصوى لهذه القضية، كحال دستور تونس، والذي وإن لم يُخصّص قسماً خاصاً لهذا النوع من الرقابة، فإنّ أحكامه تشتمل على نصوص مختلفة وغنيّة في هذا المجال.

 

 ويمكن اختصار هذا النوع من الرقابة في دستور تونس بما جاء في المادة (59) التي تُتيح لمجلس نواب الشعب تكوين لجان تحقيق، وأيضاً المادة (128)، والمتعلّقة بهيئة حقوق الإنسان التي يحقّ لها مراقبة احترام الحرّيات والحقوق والعمل على تعزيزها وتطويرها، والتحقّق في حالات انتهاكاتها، فضلاً عن وجوب استشارتها في مشاريع القوانين المتّصلة بمجال اختصاصها.

 

يُضاف إلى ذلك ما جاء في المادة (60) الذي عدّ "المعارضة مكوّناً أساسياً في مجلس نواب الشعب، لها حقوقها التي تمكّنها من النهوض بمهامها في العمل النيابي، وتضمن لها تمثيلية مناسبة وفاعلة في كل هياكل المجلس وأنشطته الداخلية والخارجية"، وأتاحت لها أيضاً رئاسة اللجنة المكلّفة بالمالية وتكوين لجنة تحقيق كل سنة وترؤسها.

 

 ولايغفل كذلك مدى تهميش دور المحكمة الدستورية في سوريا، والتي لم تقدّم أية مساهمات تُذكر في استبعاد القوانين غير الدستورية أو تعطيل مشاريعها، بل وكانت هذه المحكمة ذراعاً لهيمنة السلطة التنفيذية من خلال ضمان سيطرة رئيس الجمهورية على تسمية أعضائها كافة، وحقّ تحريكها[24].

 

وبهذا انعكسَ خلل المنظومة الدستورية السوريّة على واقع عمل الأجهزة الأمنية ودور مؤسّسة الجيش، وذلك من خلال مجموعة كبيرة من المراسيم والقوانين المكبّلة للحرّيات ولانتهاك الحقوق، بالإضافة إلى نقص التشريعات اللازمة، وغياب أهمّ دعائم دولة القانون المتمثّل بآليات رقابية نزيهة وقادرة على ردع تعسّف السلطة التنفيذية وتغوّلها في الاستبداد، وهذا ما سنوضحه في القسم الثاني من هذا البحث.

 

 


[1] جاء في المادة السادسة أيضاً: "على الملك حين جلوسه أن يقسم أمام المؤتمر باحترام الشرائع الإلهية وبالأمانة للآمة وبمراعاة القانون الأساسي".

[2] يتكوّن "المؤتمر العام" من غرفتين هما كل من مجلس النواب المنتخب من قبل الشعب ومجلس الشيوخ الذي يُعيّن الملك نصف أعضائه بينما ينتخب النصف الآخر مجلس النواب. أنظر بيت الخبرة، مرجع سابق، ص 45.

[3] أنظر على سبيل المثال خطة التحوّل الديمقراطي في سوريا، مرجع سابق، ص 54.

[4] جاء كذلك في دستور تونس لعام 2014، في المادة 110 بأنّه "تحدث أصناف المحاكم بقانون. ويمنع إحداث محاكم استثنائية، أو سنّ إجراءات استثنائية من شأنها المساس بمبادئ المحاكمة العادلة. المحاكم العسكرية محاكم متخصّصة في الجرائم العسكرية. ويضبط القانون اختصاصها وتركيبتها وتنظيمها والإجراءات المتّبعة أمامها والنظام الأساسي لقضاتها".

[5] يُضاف إلى ذلك أسباب أخرى أهمها: أولاً، يُشكّل التزام دستور عام 1950 بالعروبة والإسلام تأثيراً على الأقليات غير العربية وغير المسلمة في سورية (أنظر المقدمة والمادة الثالثة للاطلاع على مثل هذه النصوص). ثانياً، جرت صياغة هذا الدستور وتبنّيه قبل مصادقة سورية على المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وبالتالي ينبغي اليوم صياغة دستور جديد يُكرّس التزامات سورية بهذه المواثيق. ثالثاً، حدثت في سورية انتهاكات مُمنهَجة لحقوق الإنسان في ظلّ الدكتاتورية الحاكمة، ومن بينها الاختفاء القسريّ الذي زادت من تعقيداته حصانة الأجهزة الأمنية، لذا فإن هنالك حقوق بعينها ينبغي صونُها على المستوى الدستوريّ وذلك لمنع تكرار انتهاكها.

[6] كما اعتمدَ الأسد على أفراداً من عائلته ومقربيه والمنتمين إلى طائفته، فيجب أن لا تُغفل التركيبة الطائفية للجيش، كمثيل الأجهزة الأمنية، والتي يسيطر على أغلب مراكزها القيادية ضباطاً منتمين إلى الطائفة العلوية. مع ذلك هناك العديد من العلويين المعارضين للنظام السوري ممن تعرضوا لأشد أنواع التنكيل، أمثال الكاتبة سمر يزبك والطبيب منذر ماخوس والفنان فؤاد حميرة وغيرهم كثر. وعن طائفية النظام السوري في القطاع الأمني، أنظر مرهف جويجاتي، مرجع سابق، ص 6.

[7] إنّ رئيس الجمهورية هو الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي، وتنصّ المادة 95 من هذا الدستور على الآتي: "يتولى رئيس الجمهورية تسمية نائب له أو أكثر وتفويضهم ببعض صلاحياته وتسمية رئيس مجلس الوزراء ونوابه وتسمية الوزا رء ونوابهم وقبول استقالتهم واعفاءهم من مناصبه".

[8] نصّ دستور تونس لعام 2014 صراحة في مادته 16 على أنّ "تضمن الدولة حياد المؤسسات التربوية عن التوظيف الحزبي". كما أنّ هذه الحيادية منصوص عليها لكافة القوى العسكرية والأمنية في المادتين 18 و 19 من هذا الدستور، كما سنبينه أدناه.

[9] أنظر الفصل الثاني - (سلطات الدولة).

[10] أنظر المرسوم رقم (47) لسنة 1968 المنشئ لمحكمة أمن الدولة وأيضاً القانون المتعلق بحماية أهداف الثورة وإنشاء المحاكم العسكرية الاستثنائية بموجب المرسوم التشريعي رقم (6) بتاريخ 7 كانون الثاني/يناير لعام 1965.

[11] انظر الفقرتين الرابعة والخامسة من المادة 37.

[12] انظر على سبيل المثال تقارير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية والتي أُنشأها مجلس حقوق الإنسان في 22 آب/أغسطس 2011 بموجب قراره رقم S-17/1، متوفرة على الرابط التالي:  http://www.ohchr.org/AR/HRBodies/HRC/IICISyria/Pages/Documentation.aspx

[13] للمزيد عن الاختلاف بين هذه الأنظمة، أنظر ماركوس بوكنفورديه، دليل عملي لبناء الدساتير: تصميم السلطة التنفيذية، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، 2011، ص 1 وما بعدها.

[14] ويذكر بأنّ تسمية أعضاء مجلس الشعب المنتخبين يتم عادة بمرسوم يتّخذه رئيس الجمهورية. أنظر على سبيل المثال نصّ المرسوم رقم (127) الصادر بتاريخ 2 آيار/مايو 2016 والمتضمن تسمية الفائزين بعضوية مجلس الشعب للدور التشريعي الثاني. كما يتدخل الرئيس لتسمية أعضاء لملئ المقاعد الشاغرة في مجلس الشعب، كما حدثَ بمقتضى المرسوم رقم (244) بتاريخ 21 أيلول/سبتمبر 2015 القاضي بتسمية عشرة لعضوية مجلس الشعب عن الدور التشريعي الأول.

[15] انظر أعلاه.

[16] كما يُستثني، بمقتضى المادة 36 من الدستور التونسي، الحق بالإضراب لكل من الجيش الوطني وقوات الأمن الداخلي والديوانة. وجاء في المادة 19 من هذا الدستور بأنّ "الأمن الوطني أمن جمهوري، قواته مكلفة بحفظ الأمن والنظام العام وحماية الأفراد والمؤسسات والممتلكات وإنفاذ القانون، في كنف احترام الحريات وفي إطار الحياد التامّ".

[17] أنظر المادة 199، 7، ب. للمزيد من الأمثلة والإشكاليات المتعلقة بوضعية الجيوش في الدساتير، أنظر فيرجيني كولومبيه، الجيوش في النصوص الدستورية: دراسات حالة للجزائر وباكستان وتركيا، مبادرة الإصلاح العربي، باريس، يونيو/حزيران2012، 8 ص.

[18] للاطلاع على النسخة الكاملة من هذا الدستور، أنظر موقع Constitute، متوفر على الرابط:

https://www.constituteproject.org/constitution/Spain_2011.pdf?lang=ar أنظر أيضاً، نارسيس سيرا، الإصلاح الدستوري والعلاقات بين المدنيين والعسكريين في إسبانبا، في الإصلاح الدستوري في المراحل الانتقالية: تأمين شرعيّة مسار بناء المؤسسة الديمقرطية، مبادرة الإصلاح العربي، باريس، 2014، ص 49-50.

[19] فالدستور الجديد الذي صدر عام 2012، مثل سابقه لعام 1973، ينصّ في مادته الثالثة على أنّ أن دين رئيس الدولة هو الإسلام. وكلا الدستورين ينصّان في نفس هذه المادة على أنّ "الفقه الإسلامي هو أحد المصادر الرئيسية للتشريع". ويتأتى عن هذا النصّ الدستوري الأخير انتهاكات للحق في الحرّيّة الدينية ومبدأ المساواة بين المُسلمين وغير المسلمين وبين المرأة والرجل، وذلك في الكثير من القوانين الداخلية، ولاسيما قانون الأحوال الشخصية السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم (59) في أيلول/سبتمبر 1953 (أنظر مثلاً المادة 48).

[20] فينصّ الدستور السوري الجديد لعام 2012 في مقدمته على أنّ: "تعتزّ الجمهورية العربية السورية بانتمائها العربي، وبكون شعبها جزءاً لا يتجزأ من الأمة العربية مجسدة هذا الانتماء في مشروعها الوطني والقومي، وفي العمل على دعم التعاون العربي بهدف تعزيز التكامل وتحقيق وحدة الأمة العربية". ويكرر الدستور السوري المصطلحات العروبية الواردة في دستور عام 1973، بل ويضيف عليها مصطلحات مثل "الحضارة العربية" "الدور العربي السوري"، "قلب العروبة"، الخ. والمادة الرابعة تؤكّد بأن "اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة"، دون الإشارة إلى اللغات الأخرى والحقوق الثقافية للناطقين بها. أمّا المادة السابعة المتعلقة بالقسم الدستوري فقد استمدّت صياغتها أيضاً من الدستور السابق في إشارة إلى ضرورة العمل من أجل تحقيق "وحدة الأمة العربية".

[21] انظر أدناه.

[22] فعلى سبيل المثال جاء في تصدير (مقدمة) دستور المملكة المغربية مايلي: "جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليھا المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وھويتھا الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرھا، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة ھذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة". النصّ الكامل لهذا الدستور متوفر على الرابط التالي:

http://www.ism.ma/basic/web/ARABE/Textesdeloiarabe/DocConst.pdf

[23] جعلَ المرسوم التشريعي رقم (3) الذي انضمت بموجبه سوريا إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في 21 نيسان/أبريل1969 ، هذا العهد بمنزلة التشريع الداخلي. وهو أمر غيرُ كا ف حيث تسمو الاتفاقية في هذه الحالة فقط على القوانين السابقة لإقرارها أ ما القوانين اللاحقة؛ فتلغي بنودَ ها عند التعارض بينهما . فتُعدُّ القوانين الصادرة بعد تاريخ إقرار المعاهدات والمتعارضة معها مبرراَ لاستبعادها بمقتضى المبدأ القانوني القائل بأن أحكام القوانين اللاحقة تلغي القوانين السابقة في حال التعارض بينهما.

[24] ستستمر عيوب المحكمة الدستورية الجديدة المشكّلة بموجب دستور عام 2012. انظر قانون المحكمة الدستورية العليا، رقم (7) الصادر بتاريخ 19 نيسان/أبريل 2014. في المقابل لعبت المحكمة الدستورية في مصر دوراً هاما في الحدّ من انتهاكات حقوق الإنسان.

 

 

 

 

تنويه: هذا المقال الجزء الأول من سلسلة مقالات ستنشرها مجلّة صُوَر تباعاً  من دراسة أعدّها الدكتور نائل جرجس لصالح المنظمة العربية للقانون الدستوريّ وبموافقة منها .

 

يتبع..

 

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard