الأعراف: صوت الأسئلة التي يضجّ بها كلُّ ذي عقل
"الأعراف"، هو الاسم الذي اختاره الكاتب السوري أنور السباعي عنواناً لروايته الأولى، الصادرة عن دار (كتابنا) في لبنان عام 2017، ورفد العنوان بآخر فرعيّ "برزخ بين جنّتين"، ربما لأنه استشعر المتاهة التي قد يتركها العنوان وحده، فهل الأعراف هنا هي أعراف وقضايا المجتمع؟ أم سورة "الأعراف" كما وردت في القرآن: الأرض الواصلة بين الجنة والنار. أم أنها الحَيرة والسؤال وفيض من محاولات الجواب التي ستبقى جميعها ناقصة. هي لا نار ولا جنة، "لا يوجد نار، إنهما جنتان وبينهما الأعراف"؟
في الصفحة التالية وجّه الكاتب إهداءه "إلى تلك البقعة التي مزّقها التاريخ، إلى كل الذين صُنعت من أشلائهم أصنامُ الإيديولوجيا". سريعاً يحدّد القارئ في ذهنه سمْتَ هذه البقعة الجغرافية دون أدنى خطأ في الحساب، ليبدأ الإبحار مع السباعي عبر صفحات روايته منشدّاً ومستكشفاً أنه ليس أمام رواية كلاسيكية، وليس أمام كاتب تعذّبه موهبته ويبتغي إنفاقها في رواية تقوم على حكاية بحبكة محكمة ومحمولة على لغة مطواعة، وفيها من التفاصيل ما يتّسع له فنّ الرواية كبنيانٍ يتضمّن حياة موازية لهذه التي يحياها القُرّاء والكتّاب على السواء على أرض الواقع. فإنّ نباهة الكاتب ذهبت به إلى تقديم هذا النص الأدبي والفكريّ تحت مسمّى (رواية)، يمضي القارئ عبر صفحاتها دون مشقّة تُذكر، خلا صوت الأسئلة التي يضجّ بها كلُّ ذي عقل.
يستوقفه كشفُ "الإمام البلقيني" المرميّ في السجن عن أغوار نفسه، وهو يرسم عذاباته في السجن؛ ليس تعذيب السجان الذي تسرده كتب آداب السجون، فالبلقيني هذا مرفّه على غير الصورة المتوقّعة لقابعٍ في أي سجن عربي، وسوريّ تحديداً. يأتيه طعامه وسجائره والصنف الذي يطلبه من الكحول إلى قلب زنزانته، وهو إمام الجامع الذي اختار اتّباع المذهب الحنفي، إذ يعاقر الخمر وفي الوقت ذاته لا يقطع فرضاً! ويطلب أيضاً أن يأتوا له إلى (زنزانته) بسجين آخر ليشاركه المقام فيها وهو (غياث) العلماني الثائر، والمسجون كما الإمام البلقيني على خلفية الثورة السورية، ويكون نقاشهما الذي يمتدّ على معظم صفحات الرواية ال 376.
نقاشاتٌ إشكالية تسافر في التاريخ وتعود إلى الحاضر في رحلات مرسومة بحرفة وإتقان، ومغموسة بأشواك الوقائع التي تناولها الكاتب من تاريخ الإسلام، بمراحل حكمه وأعلامه وحروبه التي لم تتوقّف منذ عهد الخلافة حتى يومنا الحاضر والتي كان يمكن أن تغيّر وجه التاريخ بطريقة غير تلك التي كانت عليه في الواقع، والتي ما تزال جميع الأجيال تدفع ثمنه دماً حتى يومنا هذا: "ربما التاريخ عبارة عن خارطة من الدم لا يراها إلا مَن خلع انتماءاته، إلا مَن حذف ياء الملكية، إلا مَن تمتّع بالصمت حين يسكت الوعد والوعيد، إلا مَن يتناقض كأي إنسانٍ في هذا العالم، كما يفعل غياث" (ص142). غياث هذا الذي يرفض القتل ولكنه لو ملك آلةً تعيد الزمان إلى الوراء لقتل الخليفة معاوية الذي كان أول مَن شقّ صفوف المسلمين وابتدع الوراثة في الحكم، ولقتلَ الإمام أحمد بن حنبل الذي تشدّد في فتاويه ضارباً برحمة الله عرض الحائط، ولقتل الخليفة المتوكّل الذي طارد المعتزلة حتى كاد يفنيهم ووأد بقتلهم فكرة إعمال العقل، فلم يبقَ من الإسلام من بعدهم على التوالي سوى حروبٍ على السلطة وكعبةٍ مكسوة بالذهب والحرير، "ليطوف المسلمون حولها راجين من الله إطعام الجوعى، وهو أصمّ لا يسمعهم" (ص114).
لا تخلو الصفحات ما قبل الأخيرة من سرد مبتَسر للحال الذي وصلته الثورة السورية وانحراف مسارها من انتفاضة للكرامة إلى حرب دولية، بعضها بين الأصولية الإسلامية ومصالح النظام العالمي. ربما كان على الكاتب ألا يخوض فيها إلا بالإشارات اللماحة إلى ما ليس من ذكره بدّ، أو أن يكتبها بطريقة أخرى لا تبدو معها أقلّ تماسكاً من خط النقاش الفكري الذي سارت عليه الرواية بمهارة وثقة، كما بجمالٍ وسلاسة.
رحلة الفكر هذه تتعب ولا تريح، والأسئلة التي تقود إلى الإيمان هي نفسها التي تقود إلى الكفر، ينتهي فيها الكاتب إلى رجوع الإمام إلى الناس، وإعلان توبته عن خطاياه الفظيعة التي واكبت رحلة حياته شيخاً إماماً ودعيّاً فاسداً يستعبد (رعاياه) ويكذب عليهم ويستغلّ أحلامهم في الدنيا وحاجتهم إلى اليقين وتوقهم إلى رضوان الله في جنّته الموعودة، لصالح السلطة التي يعمل مخبراً لديها، وحين يفيق ضميره يتوجّه إلى الناس، وهو عالم تماماً أنه بعدها لن يروح إلى أي مكان سوى السجن "أيها الناس أنتم ملح الأرض وعيال الله، أنتم ملح الأرض وعيال الله، ألا هل بلّغت، اللهمّ اشهد" (ص354).
وعلى حين تقسو لغة الكاتب وتتأطّر وتتجرّد لتستجيب لموضوعة الدين وأسئلة الوجود، ترقّ وتطيع للنفس حين تعود إلى فطرتها الإنسانية وعواطفها الخام، حين تنقاد إلى إيمانها الطيّب والمفيد وغير المؤدلج، "الله هو حلمٌ متوشّح بالغياب، مدوّنٌ على ملامحي منذ وُلدت.." (ص40 ، 41)، "كل شيء جميل في الشتاء إلا ارتعاش الفقراء والسجناء" (ص12).
أتوقّف طويلاً عند محنة الكتاب الجميل حين تتولاه دار نشرٍ من واجبها أن تنتقي ما تنشره، ممّا يضيف ولو ملمحاً صغيراً إلى المكتبة الأدبية والإنسانية، ثم لا تقوم بما يتطلّبه العمل، ورواية "الأعراف" هنا مثال. كتابٌ واعدٌ بالمتعة والفائدة؛ لماذا لم يكلّف الكاتب خبيراً لغوياً بقراءة مخطوطه وتصحيح الأخطاء الإملائية والنحوية الكثيرة، ولماذا لم تتريّث دار النشر بدورها وتقوم بتدقيق المخطوط الذي صار في عهدتها، لا بل أضافت أخطاءً في استخدام علامات الترقيم وأخرى طباعية؟! أعتقد أننا متّفقون ولو نظرياً، أنّه ليس مطلوباً من الكاتب أن يكون عالماً في اللغة، وأنّ دور النشر تبتغي أن تكون مؤسّستها مصدر رزق لها بالتوازي مع رسالتها الفكرية؛ وبالمقابل ليس من حقّ الكاتب إهمال لغته، مفتاحه الوحيد لنقل أية فكرة يريد إلى ذهن قارئه، ومن واجب الكاتب ودور النشر على السواء أن يحترما كينونتهما وعقل القارئ. من دون اللغة لن تتواصل الأفكار ولن تصل، ولن يقدر الأدب حينها على حمل رسالته الأسمى: رسالة التنوير!
قد لا تروق "الأعراف" لقارئ كلاسيكي يعد نفسه ببنيان روائيٍّ تتصاعد فيه الأحداث وتنفرج مع قرب الخاتمة، رغم أن الكاتب لم يتأخّر في حَبْك روايته وفق أحداثٍ ليس بالضرورة أن تكون مقنعة ومنطقية. مع ذلك، لن ينفكّ القارئ من سحر إكمال القراءة حتى الخاتمة، والتي أيضاً كتب السباعي تحتها "لم ينتهِ"، في إشارة إلى أنّ لديه الكثير بعد ليقوله حول سؤال الله والوجود والكفر والإيمان، الذي سيظل قائماً ما دام الإنسان راعي هذه الأرض. ومَن الذي حقّاً يحرس هذه الأرض سوى الإنسان؟!