info@suwar-magazine.org

"مكافحة الإرهاب" كأرضيّة تشريعية جديدة لاستمرار هيمنة القوى الأمنيّة (3 )

"مكافحة الإرهاب" كأرضيّة تشريعية جديدة لاستمرار هيمنة القوى الأمنيّة (3 )
Whatsapp
Facebook Share

 

 

اندلعت الانتفاضة الشعبية في آذار/مارس 2011 ضدّ نظام الأسد، ولا سيّما سطوة الأجهزة الأمنية وانتهاكاتها المستمرّة والممنهجة لحقوق المواطنين خلال العقود الماضية. فتركّزت مطالب المعارضة الأساسية بدايةً على رفع حالة الطوارئ المكرِّسة لعمل الأجهزة الأمنية وامتيازاتها، وإلغاء ذراعها الأمنيّ المتمثّل بمحكمة أمن الدولة سيّئة السيط، والمسؤولة عن الزجّ بآلاف معتقلي الرأي والضمير في السجون ومراكز الاعتقال السوريّة. وعلى الرغم من تعامل النظام بطريقة أمنية في قمع التظاهرات السلمية، فقد استجاب سريعاً لهذين المطلبين من خلال استصدار المرسوم رقم (161) القاضي بإنهاء العمل بحالة الطوارئ، والذي تزامن مع المرسوم التشريعي رقم (53) المتعلّق بإلغاء محكمة أمن الدولة العليا، وذلك في 21 نيسان/أبريل 2011.

 

غير أنّه سرعان ما تمّ التعويض عن هذا النقص التشريعي الذي حدّ من صلاحية الأجهزة الأمنية، من خلال التأسيس لبنية تشريعية جديدة تحت مسمّى "مكافحة الإرهاب". فاعتمدَ المرسوم رقم (55) الصادر في 21 نيسان/أبريل 2011 والخاص بمكافحة الإرهاب، والذي أضاف إلى المادة 17 من قانون أصول المحاكمات الجزائية فقرة قانونية بتخويل "الضابطة العدلية أو المفوّضون بمهامّها" أي الأجهزة الأمنية، إمكانية التحفّظ على المشتبه به "لمدّة قد تصل إلى ستين يوماً"، يكون خلالها الموقوف في عزلة عن العالم الخارجي، وبالتالي معرّضاً لانتهاك حقوقه الأساسية. كما اُعتمد القانون رقم (19) لعام 2012 الخاص "بمكافحة الإرهاب" والذي مهّد لاستصدار المرسوم رقم (22) لعام 2012 الخاص بإنشاء محكمة تختصّ بالنظر في قضايا الإرهاب، وهي الذراع الجديد للأجهزة الأمنية، والتي ورثت بامتياز المهامّ المناطة سابقاً بمحكمة أمن الدولة الملغاة[1].

 

 

يتبيّن من خلال مواد القانون رقم (19) المُشار إليه أعلاه بأنّ أحكامه موجّهة، ليس فقط ضد من يقوم فعلاً بأعمال عنف إرهابية في سورية، إنما أيضاً ضد المعارضة السورية بكل أشكالها وفئاتها، سواء أكانت مسلّحة أو سلمية. فيضمّ هذا القانون، المؤلّف من 15 مادة، مصطلحات سياسية ومفاهيم فضفاضة تطال حتى من يمارس حقوقه السياسية المشروعة، كحرّية الرأي والتعبير في حال انتقاد النظام السوري. ويظهر تسييس القانون من خلال نصّ المادة الثانية التي أشارت إلى ما دأب النظام على ترويجه للنيل من الحراك الشعبي وتشويهه، أي مصطلح "المؤامرة"، دون تعريفها أو تفسير معناها في أيٍ من بنود القانون. كما نصّت الفقرة الثالثة من المادة الثالثة صراحة على تشديد العقوبة "إذا كان القصد من إنشاء المنظمة الإرهابية تغيير نظام الحكم في الدولة أو كيان الدولة̎، وهو المطلب الأساسي لملايين السوريين.

 

أمّا المادة الثامنة، فتمتدّ لتطال غير المشاركين بأي ركن مادي للجريمة حيث تُعاقب "بالأشغال الشاقّة المؤقّتة كل من قام بتوزيع المطبوعات أو المعلومات المخزّنة مهما كان شكلها بقصد الترويج لوسائل الإرهاب أو الأعمال الإرهابية، وتنزل العقوبة نفسها بكل من أدار أو استعمل موقعاً الكترونياً لهذا الغرض". وسرعان ما أُلحق بقانون "مكافحة الإرهاب" قوانين ومراسيم أخرى، نذكر منها القانون رقم (20) لعام 2012 الذي يقضي بمادته الأولى بأن "يُسرّح من الخدمة كل عامل أو موظف في الدولة مهما كان القانون الخاضع له ويحرم من الأجر والراتب ومن كل الحقوق التقاعدية، من تثبت إدانته بحكم قضائي مكتسب الدرجة القطعية بالقيام بأي عمل إرهابي، سواء كان فاعلاً أو محرّضاً أو متدخّلاً أو شريكاً، أو انضمامه إلى المجموعات الإرهابية أو تقديم أي عون مادي أو معنوي لهم بأي شكل من الأشكال." ويبدو جليّاً أنّ عبارة "العون المعنويّ" الواردة في هذه المادة مبهمة للغاية، على نحو قد يسمح باتّهام أي معارض للنظام، حتى إن كان ذلك بالقول أو بالكتابة. وقد أتاحت فعلاً بنود قوانين "مكافحة الإرهــاب" ملاحقة العديد من المتظاهرين السلميين ومن العاملين في المجال الطبّي والإغاثي، وكذلك رموز المعارضة السياسية السورية من الذين لم يحملوا السلاح على الإطلاق[2].

 

وجاءَ المرسوم الرئاسي رقم (22) والصادر بتاريخ 26 تموز/يونيو 2012 ليؤسّس "لمحكمة قضايا الإرهاب". وكما هي حال محكمة أمن الدولة الملغاة، تتألّف المحكمة الجديدة ونيابتها من أعضاء بينهم عسكريون، ويتمّ تسميتهم جميعاً بمراسيم رئاسية، في انتهاك واضح لمبدأ استقلالية السلطة القضائية وحصانة القضاة ولمبدأ الفصل بين السلطات. وعلى غرار المادة السادسة من المرسوم رقم (47) لعام 1968 المنشئ لمحكمة أمن الدولة، فإنّ المادة الرابعة من المرسوم رقم (22) تنصّ على أن "يشمل اختصاص المحكمة جميع الأشخاص من مدنيين وعسكريين". وتشير المادة السابعة صراحة إلى عدم تقيّد المحكمة الجديدة "بالأصول المنصوص عليها في التشريعات النافذة وذلك في جميع أدوار وإجراءات الملاحقة والمحاكمة"، وهو ما يماثل تماماً المادة السابعة - الفقرة الأولى من مرسوم إنشاء محكمة أمن الدولة العليا. وبالتالي يُحرم الماثلون أمام هذه الهيئات الاستثنائية من أهمّ ضمانات المحاكمة العادلة، كمبدأ علنيّة الجلسات وشفوية المرافعات والأخذ بوسائل الإثبات الاعتيادية المنصوص عليها بقانون أصول المحاكمات الجزائية، وحتى إجراءات الطعن المعتادة[3].

 

ويؤكّد العديد من المحامين الذين رافعوا أمام هذه المحكمة، أمثال ميشال شماس وأنور البني، الوضع اللاإنساني الذي يُعاني منه المُحالون إلىها من طرف الأجهزة الأمنية، والتي غالباً ما تحتفظ بالموقوفين لديها لفترات طويلة، يكونون خلالها خارج حماية القانون، وبالتالي عرضة للتعذيب وللمعاملة اللاإنسانية[4]. وغالباً ما تظهر علامات التعذيب على المتّهَمين الماثلين أمام المحكمة، ويمكن أن تُستخدم الاعترافات المنتزعة منهم تحت التعذيب أو غيرها من وسائل التهديد أثناء هذه المحاكمات[5]، وذلك في انتهاك واضح لنصّ المادة 15 من اتفاقية مناهضة التعذيب التي تحظّر التعذيب والأخذ بأية أقوال تمّ الإدلاء بها تحت التعذيب. ولايُسمح في الغالب للمحامين بالاطّلاع على ملفّات قضايا موكّليهم أو اللقاء بهم[6]، في انتهاك لأدنى معايير المحاكمة العادلة.

 

أمّا الجيش الذي كان في ثكناته خلال العقود الماضية، فقد توسّعت صلاحيّاته وتصاعدَ دوره تدريجياً في قمع الانتفاضة بدايةً، وفي محاربة المعارضة المسلحة على إثر التسليح والاقتتال لاحقاً. فمعَ اتّساع رقعة الاحتجاجات في سورية، عجزت أفرع المخابرات والأمن عن التصدّي لها، وبالتالي مُنحت بعض قطع الجيش والتشكيلات العسكرية وظائف أمنية تتعلّق بضرورات ضبط المجتمع وقمع حراكه في نطاقات جغرافيا غير متداخلة[7].

 

 

وهكذا غدا الجيش مؤسّسة عسكرية وسياسية وأمنية، ولتأتي الفرصة له ليردّ على تحجيمات الأمن سابقاً، والذي كان محدّداً لتوجّهاته وعلاقاته مع المجتمع. وفي إطار ذلك، اعتمدَ الأسد مجموعة من القوانين والإجراءات الهادفة إلى تقوية دور الجيش، ولا سيّما للتعويض عن النكسات التي تعرّضَ لها نتيجة الانشقاقات الكبيرة في صفوفه، من ناحية، وحرب الاستنزاف التي يتعرّض لها، وما كبّدته من خسائر بشرية ومادية، من ناحية أخرى. ومن بين هذه القوانين والإجراءات، نذكر بشكل خاص تشكيل قوات "الدفاع الوطني واللجان الشعبية"، بالتنسيق مع قوات "الحرس الجمهوري"، والتي لعبت دوراً أساسياً في عمليات الجيش[8]، وكذلك استصدار القانون رقم (23) لعام 2016 القاضي بنقل ملكية مشفى الأسد الجامعي في اللاذقية إلى وزارة الدفاع، فضلاً عن مرسوم حالة التعبئة الذي يؤدّي، في حال إعلانها، إلى وضع جميع موارد البلاد البشرية والمادية في خدمة المجهود الحربي[9].

 

 


[1] أنظر أدناه.

[2] أنظر هيومان رايتس ووتش، سوريا- استخدام محكمة مكافحة الإرهاب لخنق المعارضة، تموز/يونيو 2013، متوفر على موقع المنظمة: https://www.hrw.org/ar/news/2013/06/25/250229

[3] وتجدر الإشارة إلى أنّه يجوز الطعن بأحكام "محكمة قضايا الإرهاب" أمام دائرة خاصة تُشكل بمرسوم في محكمة النقض (بحسب المادة الخامسة من المرسوم رقم (22)، بينما كانت أحكام محكمة أمن الدولة العليا غير قابلة للطعن، بل للتصديق فقط بقرار مبرم من رئيس الجمهورية (المادة الثامنة من المرسوم رقم (47). ومع ذلك، تستثني المادة 6 من المرسوم المؤسس"لمحكمة قضايا الإرهاب" الاحكام الغيابية من إعادة المحاكمة وذلك "في حال إلقاء القبض على المحكوم عليه إلا إذا كان قد سلم نفسه طواعية". وبهذا تختلف هذه المادة السادسة عمّا جاء في المادة 333 من قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري والتي تُلغي الحكم الصادر غياباً، سواء تمّ تسليم المتهم لنفسه أو في حال القبض عليه.

[4] أنظر (مجلة "صوَر" تحاور المحامي والحقوقيّ ميشيل شمّاس)، حاوره كمال شيخو، مجلة صور، العدد 23، أيلول/سبتمبر 2015، ص 16، متوفر على الرابط: http://suwar-magazine.org/magazin/1733898491.pdf أنظر أيضاً مالك أبو خير، محكمة الإرهاب في دمشق: يد النظام الحديدية، 28 أبريل/نيسان 2013، متوفر على الرابط: https://now.mmedia.me/

[5] أنظر هيومان رايتس ووتش، مرجع سابق. أنظر أيضاً المفكرة القانونية، محكمة الإرهاب في سوريا، 19 أيار/مايو 2015، متوفر على الرابط: http://legal-agenda.com/article.php?id=1118

[6] المرجع السابق الأخير نفسه.

[7] وقد أوكلت هذه المهمات بشكل خاص إلى الفرقة الرابعة من الجيش والتي يترأسها ماهر الأسد، شقيق بشار، وأيضاً إلى الحرس الجمھوري المختصّ في حماية النظام.

[8] للمزيد، أنظر معن طلَّاع، مرجع سابق، ص 22.

 [9] وهو المرسوم التشريعي رقم (104) الصادر بتاريخ 21 آب/أغسطس 2011، للاطلاع على النصّ الكامل، انظر سورية: مرسوم رئاسي يحدّد أسس التعبئة العامة ولا يعلنها حالياً، دي برس، 8 أيلول/سبتمبر 2011، متوفر على الرابط: http://www.dp-news.com/pages/detail.aspx?articleid=95852    

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه: هذا المقال الجزء الثالث من سلسلة مقالات تنشرها مجلّة صُوَر تباعاً  من دراسة أعدّها الدكتور نائل جرجس لصالح المنظمة العربية للقانون الدستوريّ

 

يتبع

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard