info@suwar-magazine.org

الهوية في نصوص محمود درويش

الهوية في نصوص محمود درويش
Whatsapp
Facebook Share

 

 

يَرِنُّ اسمُ محمود درويش في فضاء اللغة، فينثر حولنا شعوراً موشّى بتبْر الكلام، دفءٌ يسرقنا من صقيع المنافي إلى عبق البرتقال هناك، في السواحل المفتوحة على السحر. بلادٌ اسمها بلاد الشام، جارة الألوهة، وموطن الشمس والأساطير.

 

حول اسمه كُتِبَتْ آلاف المقالات والقصص، ليس لأنه سيّد اللغة وحسب، بل لأنه تمكَّنَ من دخول الأبواب الموصدة بعشرات الأقفال.

 

كان حارساً للوجدان، يلقي قصيدته فيحفظها الغنيُّ والفقيرُ، المثقفُ والأميّ، كما تُحفظ الآيات.

 

صارت قصيدته، النشيد والقضية والهوية.

 

ولَعلَ صورة الأم في  شعر محمود درويش تعتبر معادلًا موضوعياً للوطن، إذ يتداخل الفضاء الذّي يتحرّك فيه ـ درويش ـ عندما تتفاعل فيه العواطف العميقة التي تحرّك الذات باتجاه هدفها، حيث تنفتح على فعالياتها المنتجة والدالة على الهوية الذات، والهوية الوطن.

 

أمي تضيء نجوم كنعان الأخيرة،

حول مرآتي

وترمي في قصيدتي الأخيرة

شالها  

 

يأتي سؤال الهوية هذه الأيام مُلِحَّاً ومشحوناً، كردِّ فعلٍ على العولمة، التي بشّرتْ بإنسانية بلا حدود، مُحمّلاً بأعباء ثقافات القوميات، والإثنيات والاصطفافات الأخرى المتعددة، وهناك من صنّف هذا القرن بأنه قرن الهويات وانفجاراتها.

"الهويّة هي ما نورِث لا مانرث، ما نخترع لا ما نتذكر، الهويّة هي فساد المرآة التي يجب أن نكسرها كلما أعجبتنا الصورة".

 

في سؤال الهويّة قد لا أجد مرجعية أهم من محمود درويش في بحثه الحثيث الشغوف بين شقوق الماضي، يمد أصابعه في ذاكرة الأمكنة، ليقطف ما قد يلبي هاجسه في السؤال عن الهوية.

 

"والهويَّةُ؟ قُلْتُ

إنَّ الهوية بنتُ الولادة، لكنّها

في النهاية إبداعُ صاحبه"

 

درويش الجليلي ابن البروة، قريته التي شكّلت الذاكرة الأولى الصوريّة الحسية في مخيلة الشاعر، وحجر الأساس في بناء كيانه، وبقيت الحلم والقضية. 

 

المرأة- الحرية- الحرب مفاهيم عديدة تناولها الشاعر بدلالات مختلفة، وبأبعاد رمزية تارةً، ومباشرة أحيانًا أخرى، لكن الهوية بقيت السؤال الذي يواجهه في تحدٍ، ويشحذ مسننات الذاكرة، ويغرق فتيل القلب بزيت الحنين.

 

وعلى اعتبار أن معايير الهوية متحركة، وليست جامدة يابسة، لم يتم الإفراط أو التفريط بالمعايير الذاتية للهوية، وثمة محاولة للتوازن بين الأنا والآخر في تحديد الهوية الذاتية والجمعية في محيط تكاملي مؤثر، ومتأثر في الاكتساب والمنح.

 

لكن ثمّة انفجارات خطيرة شهدتها الساحة العربية كانت بواعثها طائفية وإثنية، العراق والمغرب والسودان مثالًا، كما جاءت ارتدادات أخرى في حالة من النكوص إلى القبيلة، وثوابت الهوية العربية.

 

وقد انعكس هذا على رؤى مثقفين عرب وعلى نتاجهم الفكري، مما أدى إلى انكماشٍ أكثر ضِيقاً، وتأطيراً كالارتدادات الحزبية والفصائلية.

 

لكن محمود درويش كان من الرواد في مقاومة نكوص الهوية، وشكلّت نصوصه حالة من الحماية من التقوقع في الأنا الضيقة.

 

"سجّلْ أنا عربي

ورقم بطاقتي خمسون ألف ... "

 

ولأن للهوية الفلسطينية تكوين خاص، جاء بعد حالة الشتات واللجوء خارج الجغرافيا الفلسطينية، فرضت هويات مُركّبة ومتناقضة بفعل الثقافات المختلفة التي تداخلت مع مركّباتها ومعطياتها الاولى ..

 

" ماذا سأفعل من دون ورد سمرقند

ماذا سأفعل من دون منفى ..؟؟

كأن درويش يقول: من أنا من دون منفى ..؟

 

صار المنفى جزء من سمات الهوية الفلسطينية، عبّر عنها درويش بمزجه بين ثنائية الرمز والمباشرة في توظيفٍ خلّاق، وليقطع الالتباس كان يذهب إلى التعبير المباشر عن تاريخ الهوية الفلسطينية التي يعود تكوّنها إلى وجود الإنسان نفسه، ولا يعني هذا أن تاريخ الفلسطيني انقطع واندثر في مرحلة تاريخية ما، بل هو متواصل ممتد حيث كان في الأزل إلى الحاضر والمستقبل.

 

"بوقت كان أقل وحشية، جميعا قلنا: إذا كان الماضي مجرد خبرة، يصنع للمستقبل معنى ورؤية، هيا نذهب، هيا نذهب إلى المستقبل، واثقين ببراءة الخيال، ومعجزة العشب".

 

مؤكداً على أصالة هويته بكامل اعتداده بها، كان يقول:

 

"ما حاجتنا للنرجس، ما دمنا فلسطينيين".

 

وجاءت نصوصه أيضاً لتؤكد على فكرة التعايش بين مكونات المجتمع الفلسطينيّ المسلم والمسيحي واليهودي، قبل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.

 

" شكراً صليب مدينتي، لقد علّمْتَـنا لون القرنفل والبطولة"

 

لكنه لم ينسَ عبر تجربته الشعرية الطويلة بأن المكان هو مكون من مكونات الهوية، وبأن هذا المكان مُسْتَلَبٌ، ومُغْتَصَبٌ:

 

"ولدتُ قرب البحر من أم فلسطينية وأب آرامي".

 

حمّل نصوصه الشعرية أحلامه، وجذوة قضيته، وقضية شعبه كما حمّلَها فلسفته، وأسئلته التي كانت مفاتيح لفضاءات أكثر اتساعاً قد تختزلها هذه القصيدة.

 

"على هذه الأرض سيدة الأرض

أُمُّ البدايات أُمُّ النهايات

كانت تُسمَّى فلسطين

صارت تُسمَّى فلسطين

سيِّدتي: أستحقُّ لأنكِ سيِّدتي

أستحقُّ الحياة.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard