زمن الرعب الكثيف
يقول فرانكو موريتي في ديالكتيك الخوف: ((هي إنذار بنهاية ثقافة القرن التاسع عشر الثقافية، فلم تكن ولادة أدب الرعب إلا من رعب مجتمع منقسم، ومن الرغبة في مداواته على وجه التحديد، وهذا هو السبب في أن دراكولا و فرنكنشتين لا يظهران معاً، إلا في حالات استثنائية ونادرة، وإلا لبلغ التهديد والرعب حدّاً رهيباً، فهذا الأدب وقد أحدث الرعب فلابدّ أيضاً أن يبدّده، ويحدث السلام))، كان هذا في مقاربة ما آلت إليه أحداث نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وأشكال التحالفات السياسية ونمو النزعات القومية المتعصّبة، من شيوعية وفاشية ونازية، فكانت رائحة الحرب والموت تفوح منها في موقعتي الحربين العالميّتين، ومع هذا كان بعدها السلام.
أهوال الحرب والمعتقلات الجماعية التي عاشتها أوروبا قبل قرن من اليوم، امتدّت على مساحة الكرة الأرضية عامة، حتى بات الرعب والخوف يمتدّ على كامل سطح المعمورة؛ ما جعل البشرية الراغبة في الحياة والباحثة عن السلام تبحث في كل أشكال ومسبّبات وجودها، تلك التي دفعت "جورج لوكاش" لكتابة سلسلته التاريخية "تحطيم العقل" في أربعة أجزاء، ذلك العقل البشري وقد أنتج المثل والقيم والمعرفة كما أنتج آلة الدمار البشري والحضاري، فكان لزاماً البحث عن فلسفة للحياة في مواجهة الأيديولوجيات الشمولية؛ وكان لحنا أرندت نصيب في كتابة كتابها الشهير "أسس التوتاليتاريا" التي تصب فيه نقداً وتفنيداً على تفكيك الأسس الفكرية المؤسسة للأيديولوجيات الشمولية (النازية والشيوعية) وما أنتجته من استبداد محلي في مكان حكمهما وتموضعهما، وما أنتجته في الساحة العالمية من حربين عالميتين طاحنتين، وغيرهم الكثير من مفكري وفلاسفة البحث عن الحياة.
اليوم يتكثّف الرعب العالمي على مساحة جغرافيّة تكاد لا تتجاوز حدود سورية، وشيء منها في اليمن والعراق، ومعها تبدو آلة الحرب تدور في الفتكِ بحياة البشر وتهجيرهم واقتلاعهم من جذورهم؛ وحيث يذهب الكثير من المحللون لتقصّي الأسباب السياسية لهزيمة الربيع العربي وسواد الفوضى فيه، لكن قلّة منهم من يغوصون في عمق المرحلة التاريخية التي تعيشها دول المنطقة برمّتها. ففي العمق ثمة رعب في سورية، ثمة موت جماعي ومدافن جماعية، ثمة حصار وجوع، ثمة تكالب لكل نزعات البربرية في القتل والدفن الحرام، وكأن غراب قابيل بات قبيلة تجوب السماء! أعوام سبعة فاقت حدود الخيال! مذ كانت أزهار "غياث مطر"، رمز السلمية والمدنية، تجوب شوارع دمشق، وأناشيد "القاشوش" تناغي دقّات "ساحة الساعة" بحمص تنشد لحن الحرية والسلام؛ وأفئدة الأطفال والشبان تراقص لحظات الانعتاق والمعنى في العاصي، في حماة جرح سورية النازف منذ ثمانينات القرن الماضي؛ من قطار الجريمة في الحسكة عندما تغتال يد الجريمة "مشعل تمو" إلى "رامي هناوي" في السويداء و"إسلام دباس" في داريا بعد ست سنوات في ظلام الاعتقال، مروراً بدير الزور والرقة قتيلتا الإرهاب والاستبداد السياسي؛ إلى درعا حيث خطّت أيادي الأطفال على جدران المدراس: نريد الحرية والحياة لا التدجين والتأطير، في زمن كان ممنوع فيه على الأحلام أن تسطر على سبورات المدارس علماً، بقدر ما كانت شعارات الزيف والمقاومة الكاذبة والبعثية المريضة تألّه الفرد وديكتاتوريته عنواناً للعلم والوطن الغارق في أزماته المستعصية.
انزياح المسألة السوريّة عن موضوعة المواطنة والحقوق المدنية ودولة القانون والعلمانية والحرية، هو هوية مسارها المستنزفة من عدة بوّابات مشرعة على تصعيد العنف للانهاية والقتل والتهجير الممنهجين والتغيير الديموغرافي، وليس فقط بل على ذهنية الالتجاء والاستخدام والاستثمار فيها وما تبعها من شروخ عميقة في مكوّنات الشعب السوري وتبرير كل نزعات القتل والعنف والرعب المعاشة هو أصل الحكاية، و"الحكاية حكاية وطن"...
حالة الرعب التي يعيشها المجتمع برمّته لا يمكن تبريرها بأنها مجرد حرب على الإرهاب كما يريدها تيار "الممانعة ونظرية المؤامرة الكونية"، وأيضاً لا يمكن توصيفها على أنها نتاج تآمر العالم وخذلانه لحركات الشعوب وفقط، بل إنها في العمق تطرح صورتي دراكولا وفرنكشتين بأبشع صورهما الإجرامية في تداول الرعب والقتل وتبريره. ففي العمق ثمة قاعان للمسألة السورية وكارثتها الكونية:
- التأخّر التاريخي ومدى تغلغله في ذهنية المجتمع وموروثه الثقافي والنفسي، والذي يبدو جلياً وواضحاً في نزعتي القتل والقتل المضاد، وتعميق الشرخ النفسي بين "أدلوجة" سنية وأخرى شيعية، وتنامي نزعته الجرمية في تكفير كل طرف للآخر "فقتلاهم في النار وقتلانا في الجنة!"؛ التأخّر التاريخي وقد تجلّى في نكران موضوعة المواطنة ودولة الحقّ والقانون التي ضحى لأجلها روّاد الموجة الأولى من الثورة بسلميّتها قبل تحوّلها لموضوعة في العنف والعنف المضاد وفقط، حتى باتت كل منظومة مواليةٍ أو معارضة لا تعترف بحقّ الحياة والوجود الأنطولوجي الأول للإنسان، فكانت جريمة تمتدّ بين الجهادية السلفية وظواهر الإرهاب الداعشي إلى السطح السياسي في الديكتاتورية ونظم عسكريتها القاتلة.
- تغوّل منظومة العولمة وتكشيرها عن نزعتها "الكلبية" في امتصاص كل منتجات الشعوب ومقدّراتها، وجعلها ساحات تجارب لكافة صنوف أسلحة القتال ومهرجان استعراض لقدرتها الفتّاكة في القتل الجماعي وبالنتيجة التهجير والاستسلام؛ وليس فقط بل يكتنف العالم أجمع رعب أوضح من تداعيات الفورة الروسية واحتلالها موقع المنافس العالمي للولايات المتحدة في منظومة العولمة بفعل غطرستها العسكرية، ما جعل المنطقة برمّتها رهينة صفقات تبادل سياسي وجيوسياسي لمواقع النفوذ والإحكام والسيطرة لا مكان فيه أبداً لموضوعات حقوق الإنسان ولا للديموقراطية وحقّ الشعوب بالحياة، ضاربة بذلك عرض الحائط بما أنتجته الليبرالية من ثقافة وقوانين وحقوق وحرّيات، تلك التي قال عنها "فوكوياما" في كتابه الشهير "نهاية التاريخ" على أنها، أي الليبرالية أرض الميعاد البشري والأيديولوجيا الأكثر تقدّماً والأصلح للبشرية؛ لتصبح المصالح المادية والسياسة للدول الكبرى في العالم تعيش وتنتعش على حساب شعوب المنطقة، فيكون الرعب مجدّداً عنوان المرحلة وقد تكثّف في رقعة جغرافية اسمها سورية!
هي ثورة شهد العالم على ولادتها مع بواكير حملها، وكذلك كان "الله"، وأيضاً كانت ثقافة "القتل والرعب المركّب" هي المنتج التاريخي لثقافة الاستبداد بكل صنوفه في إنكار الثورة بكل جماليّاتها وكل حيثيّاتها المتنوّعة والمبدعة، وحتى وجودها ووجود مظالمها من الأساس، فكان صراع الموت والحياة، الحرية والعبودية، السلام والرعب، عنوان الأعوام الماضية إلى اليوم، تكتنفه صيرورتان للاستبداد الديني والسياسي، وتغوّل لمنظومة العولمة في مواجهة اللحظة الفارقة في التغيير والانتقال للديموقراطية وثقافة الحياة، فكانت الكارثة السورية بكل ما تحمله من تفاصيل.
لم تكن الثورة يوما عملاً انقلابياً يستبدل سلطة بأخرى، ولا مقولة بمثلها، ولا ثقافة استبداد بشبيهتها وبشخوص آخرين، ولا موجة عنف تتقدّم تارة وتتراجع تارة، هي فعل متكامل ومتعدّد، يتناول كل شرائح المجتمع والنفس البشرية، هي عمل عاصف في كل مقومات الأصنام التي ورثناها ثقافة وديناً ولغة وسياسة، وعلى الرغم من كل ما اعتراها من مسارات إلى اليوم، فيها العنيف والمرعب، فيها العمل السياسي المتأخّر، فيها التحكّم والسيطرة من قِبَل الدول الإقليمية والدولية، لكنها لازالت تضرب في قاع المجتمع كما في سطحه السياسي، في معنى الحرّيات الشخصية والعامة، في الحقوق المكتسبة والطبيعية، في الإصرار للانتصار للكلمة، للمعنى، للتاريخ الإنساني وقد انحسر عطاؤه اللحظي لكنه حكماً سيمضي للأمام حكماً. وكما انتصرت أوروبا قبل قرن من اليوم للحرّيات وثقافة الحياة، فكانت الوجودية والوجودية المحدثة، وكانت السريالية وحركات مناهضة العنف و التحرّر الإنساني وما أنتجته من شرعة دولية لحقوق الإنسان وحمايته وأمنه، وإن كانت عاجزة اليوم عن الفعل في يومنا الحاضر، لكنها كانت نتيجة فعل مجتمعي ينبذ الحرب والعنف وشمولية الأيديولوجيات، ثمة في القادم من الزمن تنامٍ مطّرد لثقافة الحياة والحرّيات في طيّات هذا الموت المعلن، حكماً سيحمله أطفال الكارثة السورية ونخبها المثقفة والنزّاعة نحو الحياة والإنسانية، وللتاريخ وميوله النابذة للعنف مهما استشرى وتمدّد، قوله الفصل بالتأكيد..