نعم، هُزِمنا، ولكن...
قيل إنّ "الثورة فعل خراب"؛ فعلى الرغم من تبنّي الثورات عند انطلاقها أفكاراً خلّاقة وبنّاءة، إلّا أنّها غالباً ما تصطدم ببنيةٍ ثارت عليها، فيكون لزاماً عليها تفكيكها وتخريبها لتجاوزها. وتختلف صلابة تلك البنى المثار عليها، بحسب عمرها وتجذّرها في نسيج المجتمعات وموازين قوّتها على الأرض، وحجم تشابكها مع مصالح الدول الإقليميّة المحيطة بها والقوى الدوليّة. وقيّد للثورة السوريّة أن تواجه نظاماً متجذّراً في بنى المجتمع عبر احتلاله المساحة البصريّة واللغويّة على كامل الجغرافيا السوريّة؛ فأينما تذهب ترى صور الزعيم وتماثيله، وعبارات الولاء والطاعة والتمجيد والتبجيل، وهو ما كرّست له سلطة الأسد جهدها وماكينتها الإعلاميّة عبر عقود القهر في سوريا، كنوعٍ من البرمجة اللغويّة العصبيّة لأبناء سوريا، ليقبلوا مرغمين بحضور الزعيم في تفاصيل حياتهم برمّتها. وترافق هذا مع تخريب السلّم القيميّ الذي توافق عليه السوريّون قبل الحقبة الأسديّة، وتحنيط فاعليّات المجتمع السوريّ عبر احتلال النظام الفضاء السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ، إضافة إلى تشابكه بقضايا المنطقة، ولاسيّما القضية الفلسطينيّة والصراع العربيّ الإسرائيليّ الذي جعل منه أسّ خطابه لدغدغة الشعور العربيّ الجمعيّ.
في الواقع، إنّ الثورة السوريّة لم تتوافق على برنامجٍ سياسيٍّ، إلّا أنّها حملت مطالب شريحةٍ واسعةٍ من الشعب السوريّ اصطدمت مع عنجهية النظام السوريّ ورفضه التغيير، ولو كان على صعيد تغيير بعض القوانين أو موادّ في الدستور، فتدرّجت شعارات المحتجّين بالتساوق مع تصاعد عنف السلطة؛ من شعارات مطلبيّةٍ إلى شعاراتٍ تنادي بإسقاط النظام، إلى محاكمة الرئيس ثم إعدامه. وترافق هذا مع عنفٍ رمزيٍّ من قوى الثورة تمثّل في إحراق وتمزيق صُوَر الرئيس وتحطيم التماثيل، لإزالة القداسة والحضور الرمزيّ للسلطة. ها هنا سقط النظام رمزيّاً وتخطّى السوريّون حاجز الخوف، وبدت سوريا آنذاك كصالون سياسيٍّ موسّع، الكلّ فيه (موالاة/ معارضة) يتداولون الشأن العامّ، بعدما كان محرّماً عليهم الحديث عن غلاء الأسعار.
وبدأت السطوة الأمنيّة للنظام تتهتّك بالتدريج، حتى المناطق التي كان يسيطر عليها شهدت احتجاجات. وبدأ السوريّون ينتقلون من ثقافة السرّ، حيث مارسوا السياسة لعقودٍ مضت في الغرف المغلقة وهم خائفون أن يكون لجدرانها آذانٌ، إلى ثقافة العلن. كما حاولت الثورة أن تبني فضاءها اللغويّ الخاصّ مستخدمةً مفردات الرفض والتحدّي في مواجهة لغة النظام القائمة على مفردات الولاء والطاعة والتملّق للحاكم.
وبهذا الشكل تكون الثورة قد أعملت مِعولها في بنية النظام، وكان على سياسيّيها بناء مشروعهم الوطنيّ الديمقراطيّ الذي يحقّق مطالب الثورة في الحرّيّة والكرامة، إلّا أنّهم كانوا دون آمال المنتفضين، على الرغم من أنّ بعضهم حاول إنتاج توافقٍ على مشروعٍ ديمقراطيٍّ، إلّا أنّ قوى إسلاميّة، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، كانت تهيمن على قرار مؤسّسات المعارضة عطّلت محاولاتهم تلك. وبدأت المؤشّرات على تفشّي التفكير بالإطار الطائفي لدى مؤسّسات المعارضة منذ وقت مبكّر من عمر الثورة؛ فبينما كان الشعب السوريّ يصيح في الشوارع "واحد... واحد... واحد، الشعب السوري واحد"، كان المجلس الوطنيّ السوريّ ينجز ديكوره الطائفي؛ فمثلاً كان الممثّل عن قوى إعلان دمشق في المجلس الوطنيّ هو "سمير نشار"، بينما دخل آخرون في المجلس الوطنيّ، كتنويعة طائفيّة عن المسيحيّين وعن الدروز، مع أنّهم ينتمون إلى قوى إعلان دمشق التي اختارت "نشار" ممثّلاً لها. وبعدها توالت المؤتمرات والاجتماعات ذات البعد الطائفيّ، كمؤتمر المعارضين العلويّين الذي عقد في القاهرة في آذار/ مارس 2013، ومؤتمر "سنديان" للدروز والذي شارك فيه مجموعة من المعارضين الدروز في تشرين الثاني/ نوفمبر 2014.
وبينما كان يصيح الشباب في الشوارع: "لا سلفيّة ولا إخوان ثورتنا ثورة شبّان"، كان الإخوان المسلمون يستأثرون بقرارات المجلس الوطنيّ ويحاصرون القوى الديمقراطيّة فيه والتي، فيما بعد، غزل معظمها على نولهم، ولاسيّما عندما تشكّل الائتلاف. وزد على هذا كلّه الشلليّة التي هيمنت على البنية الفوقيّة للثورة؛ فمعظم الكتّاب من "منظّري الثورة" أصبح لهم مريدوهم ومنصّتهم الخاصّة بلفيفهم، يردّدون من خلالها تعاليمَ القطب، وهذا حال معظم السياسيّين في المعارضة التقليديّة؛ حيث أصبح لهم أتباعٌ أيضاً، وأحياناً "شبّيحة".
في المقابل، كان النظام يعمل على نقل الثورة بالتدريج من دائرة الثورة على الاستبداد إلى دائرة الحرب الأهليّة؛ فشهدنا علمين وجيشين وحاضنتين اجتماعيّتين في سوريا، ومن ثمّ مع تزايد وتيرة العنف والخطاب الطائفيّ على ضفّتي الصراع، دخلنا في مرحلة الفوضى والتشظّي والضياع، وانعدام الخيارات والاستعصاء السياسيّ، وبدأنا نشهد تراجعاً ثم اختفاءً بالتدريج للخطِّ الوطنيّ الديمقراطيّ عن ساحة الصراع في سوريا.
وعندما أطلق النظام "إسلاميّي سجونه"، في لحظةٍ احتاجهم بها لتطييف الحراك في سوريا، ولتبرير تدخّل إيران "ولاية الفقيه" في قمع الحراك، معتمداً مبدأ "سنّيّة الحراك هي تبرير لتدخّل منظومة ولاية الفقيه (الشيعيّة)"، سقط معظم سياسيّي الثورة في هذا الفخّ، وساقوا به؛ فمنّا من قال "جبهة النصرة تمثّلني"، وبعضنا تعامل براغماتيّاً مع الأمر، ومنّا من صمت على تمدّد الفكر الجهاديّ الإسلاميّ داخل نسيج الثورة، معتبراً أنّ مواجهتهم ستكون لاحقاً والأولويّة تعطى لإسقاط النظام.
نعم، هُزِمنا أيضاً عندما رأى بعضنا أنّ شمسنا قد تشرق من موسكو أو واشطن أو إسطنبول... ففقدنا بذلك رهاننا على القوى الكامنة لدى الشعب الذي هو مصدر القوّة والتفويض والسلطة والتشريع، وأيضاً عندما وضعنا المشكلات خارجنا وتهرّبنا من تحمّل المسؤوليّات، ونقلناها إلى مربّع "الغير"، فهنا المسؤوليّات يتحمّلها الآخر (العدو)، ومن ثمّة تكون الحلول منتظرةً منه، بينما كان معظمنا يراكم مظلوميّاته.
لكن، صحيح أنّ الثورة السوريّة، إلى الآن، لم تحقّق أهدافها في الانتقال السياسيّ والقطع مع الاستبداد والقهر والذلّ والعبوديّة، إلّا أنّها لم تفشل، كليّاً، في زعزعة أركان وبنى النظام؛ حيث ساهمت في تهتّك بنى النظام العميقة، فبتنا نشهد سلطةً لا تملك إلّا إستراتيجيّة الخراب والتهجير القسريّ والحصار والعقاب الجماعيّ لإخضاع المتبقّي من الشعب السوريّ، بعدما شرّدت الحرب التي قادت دفتها، ملايين السوريّين، وقتلت مئات الآلاف منهم. هذه السلطة الآثمة لم يعد لها من خيارات للبقاء غير الارتهان للاحتلالات لضمان بقائها نيراً على رقاب السوريّين، والسيطرة على أرض من دون شعب. إلّا أنّ هذا لم يكن من دون مقابل طبعاً، فها هو رأس الهرم في السلطة يبدو كضابطٍ من الدرجة الثانية لدى قوى الاحتلال في سوريا؛ فليس هناك من حرج لديه أن يذهب بطائرة شحن إلى موسكو من دون مرافقة له أو وفد دبلوماسيّ يمثّل بلده، ولن يتفاجأ عند وصوله إذا لم يجد أقرانه بانتظاره، ليمشي وإيّاهم على السجاد الأحمر، كما جرت العادة في بروتوكولات استقبال الزعماء. وأكثر من ذلك، حيث نسمع بين الفينة والأخرى تصريحاتٍ يخرج بها قادة عسكريّون أو سياسيّون من دول الاحتلال تُذكّر الأسد بفضلهم عليه (لولا تدخّنا لسقط الأسد). ولا يزال الأسد إلى هذه اللحظة يأخذ دور "الجوكر" في لعبة "البوكر" وهو مدرك لهذا الدور ويستمرئه، ويعلم أنّه بهذا الدور يكسب زمناً أطول في السلطة، من دون أن يكون لاعباً، بل ورقةً مهمّةً لدى اللاعبين.
فسلطة الأسد التي استعادت السيطرة على معظم المناطق الخارجة عن سلطتها، هي تحت تنازع إرادات الاحتلالات في سورية، ومصيرها مرهونٌ بمدى قدرتها على أن تكون مرغوبةً ونافعةً لحلفائها على الأرض السوريّة، إضافة إلى مدى قدرتها على التصدّي للاستحقاقات المقبلة وعلى رأسها ملفّات إعادة الإعمار وعودة اللاجئين والنازحين ومحاسبة مجرمي الحرب، وهو ما يصعب حصوله، في ظلِّ تصادم الإرادات وارتهان سلطة الأسد لقوى الاحتلال، وإيغالها في الدم السوريّ. بينما الثورة حقّقت ما يمكن البناء عليه، وأهمّه عودة الذات الحرّة للفرد السوريّ، وعودة السياسة إلى الشارع وعودة الفرد إلى الاهتمام في الشأن العامّ، وعودة ثقافة العلن بعدما عفّن السرّ بنى المجتمع، وبعد أن كانت سورية، لعقود مضت، تابوتاً مغلقاً. وربما تلك الفوضى التي نشهدها الآن قد تساهم في تكشّف عوراتنا واكتشاف أوهامنا، ومشكلاتنا، علّنا نستطيع بناء وعيٍ جديدٍ قائمٍ على الاعتراف بالهزيمة وتجاوزها لا إنكارها والاستغراق فيها، وهو ما يجنّبنا العودة إلى حقبة ما قبل 2011.