نظام الأسد، انتصار المهزوم
ليس من باب تعليل الأمل، أو معاندة الواقع، القول إن في المشهد السوري اليوم خاسر هو نظام الأسد، ورابح هو الثورة السورية.
في الشكل، إن نظام طغمة الأسد ينتصر اليوم، ويستعيد المناطق التي خرجت عن سيطرته يوماً ما لصالح فصائل إسلامية متدرّجة في "إسلاميّتها"، ومتنوّعة في مرجعياتها ومصادر رزقها وولائها الخارجي. أمّا في الجوهر فإن نظام الأسد خسر في صراع بقائه هذا، كل رصيد سياسي وأخلاقي ووطني.
الفصائل الإسلامية خسرت مناطقها واحدة بعد الأخرى، وسلّمت سلاحها الثقيل، وجرى تجميع عناصرها في إدلب التي تنتظر اليوم حلّاً عسكرياً على شاكلة الحلول السابقة في حلب أو الغوطة أو درعا، أو حلّاً سياسياً بوساطة تركية، وفي الحالين تدخل هذه الفصائل الإسلامية كافة، في طور التلاشي. ولكن هذه الخسارة "الإسلامية" هي، في الجوهر، مكسب عميق للثورة، من حيث انكشاف فشل ضروب الإسلام السياسي، وانكشاف الطبيعة المتخلّفة والمستبدّة لفصائله في مناطق سيطرة كل منها. تكسب الثورة حين تنكشف للوعي العام حقيقة أن الإسلام السياسي مقبرة للثورات وحركات التحرّر.
السؤال الذي ينبغي التفكير فيه اليوم: هل فعلاً عبّرت أو تعبّر الفصائل الإسلامية، التي تُهزم اليوم، عن الشعب السوري؟ هل كان صعود هذه الفصائل وسيطرتها على الضفة المواجهة للنظام، تطوّراً طبيعياً أو ضرورياً لنمو ثورة السوريين ضد نظام الأسد؟ هل يشكّل المسار الإسلامي قدراً محتوماً يمتصّ إليه كل طاقة ثورية تسعى إلى تغيير النظام في سورية؟ إن مراجعة مجريات السنوات السورية الأخيرة تبيّن أن هذا الصعود "الإسلامي" كان مصنوعاً أكثر بكثير من كونه تعبيراً عن حقيقة مُراد السوريين الثائرين، وأن السوريين لم يركبوا هذه الوسيلة مختارين، وأن هذه "الصناعة" الموجّهة بالمال الخليجي، والمتّسقة مع سياسات ليست فقط بعيدة عن الثورة، بل ومعادية لها، خنقت في المهد كل أشكال التطوّر السياسي الأخرى في قلب الثورة، ما جعل أمام السوريين طريقاً واحداً لدعم الثورة هو الطريق الإسلامي، بحيث بات أي نقد لهذا الطريق الوحيد المصنوع، يقع تلقائياً تحت طائلة الاتهام بالتذرّع أو النكوص أو الرمادية أو الخيانة أو الارتزاق ..إلخ، بحسب مصدر النقد أو صاحبه.
ليس الكلام عن هذه "الصناعة" أو هذا المنعطف الذي فُرض على السوريين، وحشر ثورتهم في خانة واحدة "إسلامية"، باباً لمديح نقد الإسلاميين من خارج الفعل، أي ليس باباً لمديح صوابية سياسية مستقلّة ومعزولة عن الحدث، فالصواب في السياسة ليس صواباً نظرياً ولا قيمة مهمّة له خارج الفعل والممارسة. كما أن الكلام عن هذه "الصناعة الإسلامية الخليجية"، ليس باباً لإدانة، بل لنقد، وجهات نظر أو مواقف وتحليلات ذهبت باتّجاه مجاراة التيار الغالب والاستفادة من نفوذه وقوته "المجلوبة". ويجب التأكيد على أن هذا الكلام يتّسع لفهم انسياق شعب كامل وراء تيار إسلامي "مدعوم"، على أمل الخلاص من نظام التمييز والظلم والفساد وإهانة كرامات الناس. الغرض من هذا التدقيق، أو الفائدة المرجوّة منه، هو تلمّس الفارق بين ما يريده السوريون فعلياً (الثورة)، وبين ما صُنع لهم بوصفه وسيلتهم إلى ما يريدون، فساروا معه. والواقع إن تلمّس هذا الفارق هو ما يجعلنا نضع اليد على ما يجب أن يكون كسباً للثورة السورية.
ما جرى في السنوات الماضية ولاسيّما في السنتين الأولى والثانية من الثورة، أن الطاقة الثورية التي تفجّرت في سورية في مطلع 2011، تعرّضت لفعلين تخريبيين، الأول، على ضفة الثورة، هو جرّ هذه الطاقة عبر قنوات إسلامية، راحت تنحو أكثر فأكثر باتجاه التطرّف والجهادية العالمية، والثاني، على ضفة النظام، هو القمع المدروس والهادف إلى تسهيل الفعل الأول وإزالة العقبات من أمامه. بعد فترة من عمر الثورة السوريّة (أقلّ من عامين)، وتحت تأثير هذين الفعلين المتكاملين في المعنى، بات الصراع محصوراً بين قوّتين، قوة محافظة ضد التغيير ومدعومة من حلفاء في الجوار وفي العالم، وقوة تغيير وثورة مؤطّرة واقعياً في قوالب إسلامية متنوّعة، مدعومة علناً من معظم دول العالم. على هذا أصبحنا أمام صراع محروف وغير ثوري، أدّى إلى هدر الطاقة الثورية الكبيرة للسوريين.
القنوات الإسلامية التي حُشرت وتشوّهت فيها الطاقة الثورية السورية، ودخول نظام الأسد وحلفائه الصراع منذ اللحظة الأولى بوصفه قضية حياة أو موت، يكمن في أساس هدر أمل السوريين، وهول المأساة السوريّة.
الحقائق التي باتت واضحة اليوم لمعظم السوريين هي أولاً، إن الإسلام السياسي، بصنوفه المختلفة ولاسيّما منها الجهادي، هو طريق عزل الثورات ودمارها. وثانياً، إن نظام الأسد لا غاية له سوى الاستمرار في الحكم على الضد من كل المزاعم الوطنية أو القومية أو "التقدّمية"، ورغم أنف السوريين. هذه الحقيقة هي الانتصار الذي حقّقته الثورة. وهو انتصار مزدوج: أولاً لأن الثورة تحرّرت من "الإسلامية"، بعد أن طال سجنها في قوالب إسلامية ظلّت تبدو كأنها الأطر الوحيدة الممكنة لحركة التغيير في سورية. ثانياً كونها أجبرت نظام الأسد أن يقف أمام السوريين، والعالم عارياً من كل الخِرَق التي كان يتستّر بها، أكانت قومية أو وطنية أو تنموية، وأجبرته أن يكشف مضمونه "الاستعماري" على الملأ، في استعداده للإقدام على أبشع الممارسات الممكنة بحقّ شعبه، ولو كلّفه ذلك قتل مليون سوري، منهم آلاف ماتوا، بطريقة قروسطية، جوعاً وتعذيباً في السجون. هذا يعني أن نظام الأسد قد سقط أخلاقياً وسياسياً في وعي السوريين، وهي مقدّمة ضرورية لسقوطه الفعلي.
ما سبق يقود إلى نتيجة منطقية تقول، إن الحاجة إلى تغيير نظام الأسد باتت أكثر وضوحاً في الوعي السوري العام. وفي الوقت نفسه، بات أكثر وضوحاً في وعي السوريين، إن الإسلاميين، العاجزين عن رؤية قصورهم، هم عبء على الثورة أكثر ممّا هم طاقة في صالحها.