شرذمة الهويّة وإسقاط الوطنيّة
مقدمة:
الهوية هي قضية أساسية في تكوين وحياة الإنسان، ويمكننا القول أن جُلَّ نشاط الإنسان يدور بين الهوية والمصلحة، وهما فعلياً لا ينفصلان، فالمصلحة عملياً ترتبط بضرورات الإنسان ككائن حيّ، لكن وفق شرطه الإنساني، والهوية هي الصورة التي يتخذها الإنسان ببعده الإنساني وصفته الإنسانية، اللذين يميزانه عن كل الكائنات الأخرى!
لكن إنسانية الإنسان لا تتحق إلا في بيئة إنسانية حقيقية، وهذه البيئة لا تكون كذلك إلا عندما تكون منظمة بشكل اجتماعي، فتكون بذلك مجتمعاً ودولة ووطنناً، وهي بما هي كذلك لا تنفصل عن مصلحة الإنسان الإنسانية وهويته الإنسانية.
مرّ تطور الإنسان في تاريخه بمراحل وأشكال مختلفة، واختلفت أشكال البيئات الإنسانية التي ينتجها وتنتجه، وأشكال المجتمعات والدول والهويات المتربطة بها.
وفي هذه المقالة سيُنظر في أحدث وأرقى أشكال الاجتماع البشري المعبَّر عنه بالمجتمع الحديث والدولة الحديثة، اللذين يبنيهما الإنسان بصفته الإنسانية المحضة، ويتعاملان معه بنفس الصفة، ليكُونا مشروع الإنسان الأعلى لبناء النظام الإنساني الأمثل.
وهذا النظام له بالطبع شروط أساسية عديدة، ومن أهمها شرط الهوية الإنسانية! وبدون هذه الهوية لا يمكن بناء الدولة الوطنية، التي بلاها لا يبنى مجتمع ولا وطن إنسانيين حقيقيين.
وهذه الهوية تشترط على الإنسان تجاوز كل هوية فئوية أخرى!
تلازم الوطني والإنساني في بناء الدولة الحديثة:
الهوية الوطنية الجامعة العليا هي الأساس الذي تبنى عليه الدولة الحديثة، التي تعتبر فيها وطنيتها هي هويتها الأساسية، ولم تعد وطنيتها صفة لازمة وتابعة لهويات أخرى كما كان الحال سابقاً، حين كانت الدول تقوم على أساس عرقي أو قومي أو ديني أو إيديولوجي أو سلطاني ..أو خليط من بعض ما تقدم.
هذه الهوية الوطنية العليا مقترنة بشكل مباشر بهوية الإنسان العليا كإنسان في المقام الأول، وفي ما يلي هذا المقام يمكن للهويات والصفات الأدنى درجة أو الثانوية أن تتواجد أو ألا تتواجد، ويمكنها أن تتموضع وفقا لأهميتها بالنسبة لصاحبها بشرط ألا يكون بينها وبين هويته الإنسانية والوطنية أي تناقض، وهي تأخذ معنى وبعدا شخصيين محضين، ولا علاقة لهما ببنية الدولة، ولا بالعلاقة بين الدولة والفرد، إلا على مستوى واجب ضمان الدولة للفرد حقه الفردي بالحفاظ على هذه الهويات والصفات، وما يترتب عليها من مفاعيل سلمية وغير متعارضة مع مصلحة المجتمع والدولة والفرد نفسه، وليس بصفتها الخاصة كهويات أو كصفات خاصة ولكن بصفتها حقوق إنسانية محضة!
العامل الإنساني هو الناظم للعلاقة بين الدولة الوطنية والفرد :
العلاقة بين الفرد والدولة في الدولة الوطنية الحديثة تقوم بصفة فردية خالصة، وعلى أساس الهوية الإنسانية ومبدأ المواطنة، فالدولة تتعامل مع الفرد المنتمي إليها كإنسان وكمواطن، وإنسانية الفرد هي الأساس المطلق الذي يحدد موقف الدولة منه، وطريقة تعاملها معه والحقوق التي يجب أن تضمنها له، وكل ما يرتبط بهذا البعد الإنساني الجوهري للفرد وينبثق عنه، هو أمر غير مشروط قطعا ولا محدود أو محدد بالدولة التي ينتمي إليها هذا الفرد، ولا يحق قطعا للدولة تحديد حقوق فردها الإنسانية، فهذه الحقوق مستمدة من مستوى أعلى من مستوى الدولة، وهو المستوى الإنساني المطلق، وهو الذي يعطي الشرعية الحقيقية للدولة بصفتها وسيلة شرطية لتحويل هذه الحقوق من مبادئ مطلقة إلى وقائع ومفاعيل فعلية، والتزام الدولة تجاه الفرد في هذه العملية وما يترتب عنه من التزام مقابل من قبل الفرد تجاه الدولة، هو ما يحدده مفهوم المواطنة الذي ينظم العلاقة بين الدولة والفرد، ويميز الفرد المواطن الذي يوجد بينه وبين هذه الدولة مثل هذا الالتزام عن سواه من الأفراد غير المشمولين بهذا الالتزام.
الفرد في الدولة الحديثة هو فقط إنسان ومواطنين ومواطنات، وعلاقته مع هذه الدولة مباشرة ولا تتأثر إيجابا أو سلبا بأي وسيط كلي أو جزئي آخر، والانتماء والالتزام فيها أيضا مباشران وغير مرهونين بأية انتماءات أو التزامات أخرى أيا كانت، فالفرد لا ينتمي إلى هذه الدولة ويتبادل معها الالتزام لا عن طريق دينه ولا قوميته، ولا طائفته أو عرقيته، أو حزبه أو إيديولوجيته، أو أي شيء من هذا القبيل، وهو في هذه الدولة متساوٍ كليا مع غيره من المواطنين الآخرين والمواطنات الاخريات بمعزل عن أن أي انتماء ديني أو طائفي أو سياسي أو طبقي وما شابه..
تناقض وتخارج الهوية الوطنية والهويات الفئوية:
مثل كل هوية أخرى الهوية الوطنية يعبّر عنها طبيعيا بـ "أنا" جمعية أو "نحن" خاصة بها، فهذه الهوية الجامعة يجب أن يكون لها "أناها الجمعية" والـ "نحن" الخاصة بها، وهذه الـ "نحن" يجب أن تكون واحدة، وليس فيها أية تشعبات أو تفرعات إلى "نحنوات" أخرى ذات طابع هويوي، فهذه الـ"نحن" تعني وتقتضي تعيين "هوية جمعية" أو "جماعوية" واحدة موحدة على مستوى هذه "النحن"، وعلى هذا المستوى ينبغي إسقاط كل "النحنوات" الفرعية وكل الهويات الجزئية المرتبطة بهذه "النحنوات"، والعمل بشكل كامل انطلاقا من "الهوية" الشاملة الواحدة، وعلى أساسها ومستواها، ومن أجلها، وهذا يعني الوجوب التام لاتخاذ أي موقف أو قرار أو قانون بمعزل تام أيضا عن أية هويات أو "نحنوات" أخرى.
أما العودة إلى "النحنوات" الأدنى والهويات الفئوية المرتبطة بها، فهي حالة نكوص يمزق الوحدة الهويوية المرتبطة بالـ "نحن" العليا الجامعة، ويحطم وحدة وذاتية "الجماعة الوطنية"، أي الشعب أو الأمة، بالمفهوم السياسي الحديث والمرتبط جذريا بالدولة الحديثة لكل منهما، ويلغي الذاتي الموِّحد بـين أبناء بنات هذه "النحنوات" الأخرى المختلفة، التي تمتلك كل منها ذاتها الجمعية الخاصة، وكل منها على مستوى هذه "النحنوات" هو "آخر" بالنسبة لسواه من "الآخرين" من أبناء بنات الجماعات الأخرى، وهنا ستقوم العلاقات بين أبناء هذه الجماعات على أساس أنهم جميعا "آخرون" بالنسبة لبعضهم البعض، وهذا يترتب عليه سقوط الالتزامات المترتبة على الهوية الواحدة والذات الجمعية الواحدة، وشرعنة الخيارات المتخذة على وضعية الاختلاف وعلاقة الذات والآخر، والاعتراف بكل ما يحكم العلاقات بين من هم مختلفين.
وعندما نريد بناء دولة حقيقة واحدة، فهذه الدولة يجب أن يكون لها هويتها الكاملة الخاصة المنفصلة عن أية هوية أخرى، وهذه الهوية يجب أن تكون هوية شعبية واحدة (بالمعنى السياسي لمصطلح "شعب") تتجاوز كل الهويات الفئوية بدون استثناء وتعلو عليها جميعا، فإذا أردنا بناء الدولة السورية الحديثة، فبناؤها يجب أن يتم على أساس "الهوية السورية" أو "الهوية الوطنية السورية"، وهذه الهوية السورية يجب أن تكون متجاوزة تماما لكل الهويات الأخرى، سواء الدينية منها أو العرقية أو الحزبية أو غيرها.. بحيث لا يكون هناك إلا هوية واحدة و"نحن" واحدة تبنى عليهما الدولة السورية الحقيقية، وهما الهوية السورية والـ "نحن" السورية، وهنا تصبح "الأنا السورية" مرتبطة بالدولة السورية والمواطنة السورية والوطن السوري، فـ"أنا سوري" معناها أنني كذلك لأني مواطن سوري، وسوريا هي دولتي ووطني!
وعلى هذا المستوى لا يكون هناك انتماء إلا الانتماء السوري، فليس هناك عربي أو كردي أو شركسي أو أرمني، ولا مسلم أو مسيحي، ولا سني أو شيعي أو علوي أو درزي، أو كاثوليكي أو أرثوذكسي أو بروتستانتي، ولا بعثي أو ناصري أو شيوعي أو ليبرالي أو قومي سوري أو قومي كردي!
كيفية تنظيم الدولة الحديثة لعلاقتها مع الجماعات الأخرى:
طبعا ما تقدم لا يعني قطعاً أن تلك الهويات الفئوية وجماعاتها يجب أن تلغى من الوجود، ولكنه يعني أنه لا مكان لها بتاتاً في بنية الدولة، أو في مؤسسة الدولة، وهذه الهويات والجماعات التي تتكون على أساسها، لا تدخل بصفتها مكونات تأسيسية في بنية الدولة، ولا تتداخل معها، وهي في الدولة من حيث المبدأ عبارة عن بنى اجتماعية موازية مستقلة عن الدولة، لكن كونها تشترك مع الدولة في فضاء بشري اجتماعي مشترك، فالدولة تقنّن وجودها ليس بصفتها جماعات وكيانات أو شخصيات جمعية قائمة بحد ذاتها، لأن هذا يهدد قيام أو سلامة شخصية الدولة نفسها بصفتها شخصية جمعية، فشخصية الدولة المستقلة لا تتحقق عندما تنشأ هذه الدولة كـ"دولة جماعات"، فتكون شخصية مكونة من عدة شخصيات! فلكي تمتلك الدولة شخصيتها الجمعية الحقيقية، فلا يجب ولا يمكن أن يدخل في تكوينها أية شخصيات جمعية أخرى، والدولة الحقيقية لا يمكنها إلا أن تكون "دولة أفراد" بحيث تكون هي بما هي دولة "الشخصية الجمعية أو الجماعوية" الجامعة لهم، وهذا يعني أن كل الجماعات الأخرى في المشترك السكاني مع الدولة، هي مبدئيا حالة وجود موازي ومنافس للدولة، ولكن لتحقيق حالة من الانسجام مع هذه الجماعات، فالدولة لا تعترف بهذه الجماعات كجماعات على مستوى كل ما يتعلق بما يخصها ذاتيا كدولة، فعلى هذا المستوى – المستوى الذاتي الداخلي للدولة- هذه الجماعات غير موجودة نهائيا كجماعات، لكن الوجود المشترك والتعايش المشترك يجعل الدولة تقنن وجود هذه الجماعات على مستوى خارجي بالنسبة لعالمها الداخلي كدولة، فتعترف بها وتنظمها على أساس أنها مفاعيل الحقوق المعتقدية والانتمائية والتنظيمية لمواطنيها، وتحتويها داخل فضائيها الاجتماعي والجغرافي وليس داخل بنيتها بما يشبه احتواء المنـزل للأثاث!
هذه العلاقة الاحتوائية من قبل الدولة للبنى الجماعوية الأخرى هي واجب عليها، فكون الدولة في أحد أبعادها المحورية هي نفسها حالة إرادة انتمائية وتنظيمية لمواطنيها، فهي لا تستطيع أن تلغي الحالات الانتمائية والتنظيمية الأخرى! لكن في المحصلة يصبح حال صاحب أحد هذه الهويات في علاقته مع الدولة مشابها مثلا لحال المهندس في نقابة المهندسين، حيث تقوم هذه النقابة على اعتبارات مهنية تخصصية صرفة، وعضوية المهندس في النقابة تتم بصفته مهندسا وحسب، وبمعزل تام عن دينه أو عرقه أو حزبه أو شيء آخر يرتبط به، وعلى منوال مشابه تقوم مؤسسة الدولة على أساس الوطنية، وينتمي إليها الفرد بصفته مواطنا، وبهويته إنسانا، بصرف النظر عن أية صفة أخرى مهما كانت.
البطلان المنطقي التام لكل طرح فئوي على مستوى الدولة:
الدولة الحقيقية الحديثة هي من حيث المبدأ مشترك اجتماعي بين مجموعة من الأفراد المريدين لقيامها بينهم، وهي تقتضي منهم هوية تشاركية واحدة، ويقتضي قيامها أن تكون ذاتَ "ذاتٍ جمعية واحدة"، وهنا يصبح الاتفاق الطوعي على قيام هذه الدولة اعترافا حصريا بهويتها الواحدة وذاتها الواحدة! اللتين لا هوية أخرى ولا ذات أخرى سواهما بتاتا داخل هذه الدولة كمؤسسة، وهذا يجعل رفع لواء هوية أخرى أيا كانت عبارة عن نقض لاتفاق وحدة الهوية المبرم يلغي وجود هذه الهوية، وإقحاما لذات أخرى في كيانها، مما يعني استحالة امتلاكها لذاتها الخاصة، فإن كان عند هذه اللحظة شيء ما يشبه الدولة ظاهريا، فلن يكون عندها إلا كيانا شيزوفيرنيا مترهلا ومفككك الشخصية!
وعندما يقوم سعي ما على أساس هوية فئوية- طائفية أو قومية أو حزبية وما شابه- بغرض فرض قرار سياسي على مستوى الدولة، بدعوى أن هذه الفئة هي أكثرية، فهذا المسعى باطل من حيث المبدأ، فهذه الفئة نفسها بما هي جماعة أو هوية جمعية وجودها نفسه ملغيّ على مستوى الدولة، وعندما تسعى هذه الفئة للتأسيس على هويتها الخاصة، فهي بذلك تلغي الهوية المشتركة بينها وبين المنتمين إلى فئات أخرى من مستواها وعلى شاكلتها، ويصبح أبناء هذه الفئات أصحاب هويات أخرى بالنسبة إليها، وبالتالي يصبحون آخرين، وهذا يعني أنهم يصبحون غير معنيين باعتباراتها وخياراتها وخصوصياتها، فنحن السوريين مثلا غير معنيين باعتبارات وخيارات وقرارات اليونانيين، وهي لا تلزمنا بشيء ولا توجبنا بسواه، ولا يحق لنا التدخل فيها!
مفاعيل العلاقة بين الهويات الفئوية:
لكن عندما تنشأ هذه العلاقة "الآخروية" بين الفئات عندما يتم التمترس والتركيز على الهوية الفئوية، فماذا يترتب على ذلك؟!
أول ما يترتب عليه هو إلغاء الالتزام المشترك الذي يقوم على وحدة الهوية الواحدة تجاه وحدة الدولة، فعندما أكون- أو تجعلني- آخر بالنسبة لك، فهذا فعلياً يعني أن كلاً منا قد أصبح أجنبياً بالنسبة للآخر، وعندها لن أكون ملزماً بالدخول معك في دولة واحدة، فهذا الدخول يعني الاشتراك والتشارك، وعندما يكون كلاً منا آخراً بالنسبة للآخر، فهذه العلاقة "البين آخروية" بيننا تلزم بطبيعتها بعدم الاشتراك في دولة واحدة، لأن المشاركة في دولة بلا هوية وطنية عليا، لا ينشئ دولة وطنية حقيقية، فهو يعني إما انتقاص أو إلغاء الهوية الذاتية لطرف أمام هوية الطرف الآخر، أو ينشئ في أحسن الأحوال "اتحادية كانتونات".
وفي حالة الهويات ذات الطابع الديني أو القومي الـحادّ، العلاقة بين هذه الكانتونات الفئوية ستبقى دوماً متوترة وهشة وخطرة، والخطر الأكبر هو عندما لا تكون الكنتنة ممكنة جغرافياً بسبب الاختلاط الديموغرافي، فهنا من النادر ألا تحصل صراعات عنيفة قد تصل إلى درجة التطهير الجماعوي، أو قد يكون البديل نظام محاصصة، غالباً ما يـَبقى- أو قسراً يـُبقى- فيه أبناء هذه الفئات كالشياه في حظائر قطعان فئاتهم، التي تحكمها الأعراف الجماعوية التقليدية، ويتحكم بها الأرباب الفئويين التقليديين، ويستحيل بذلك بناء دولة المواطنة، وتضيع حقوق الإنسان الحقيقية المرتبطة جذرياً بالدولة الوطنية والمواطنة، لأن المعايير التي سوف تسود في شبه الدولة التحاصصية هذه ستكون محكومة بالمعايير الفئوية، وليس بالمعايير الوطنية الإنسانية، ولنا في لبنان مثال مباشر على حالة التحاصص، حيث ينتمي اللبناني فعلياً إلى لبنان بواسطة طائفته، وليس بصفته مواطناً لبنانياً محضاً، والقوانين والقرارات اللبنانية هي دوماً محكومة بالاعتبارات الطائفية غير العادلة بحق اللبنانيين، ولا الصالحة للاندماج الوطني، وتهيئة البيئة اللازمة لبناء الدولة الوطنية، هذا عدا عن الحرب الأهلية الكارثية التي مر بها لبنان وتداعياتها التي ما تزال مستمرة حتى اليوم، واحتمال تكرارها الذي ما يزال مرتفعاً؛ وحال البلدان العربية الأخرى أسوأ من ذلك بكثير رغم أنه ليس لديها نظام تحاصص معلن باستثناء العراق المشابه للبنان نوعا ما!
وثانيا، يترتب على العلاقة بين من هم آخرين بالنسبة لبعضهم البعض حرية اتخاذ المواقف واختيار أشكال العلاقة المناسبة مع غيرهم من الآخرين.
وهذا يعني بمنتهى الصراحة أن المسلم الذي يصر على إسلاميته ويسحبها على الدولة ليفرض إسلامية الدولة، يجعل المسيحي في حل من الدخول معه في هذه الدولة المُأسلمة ومن أي واجب وطني أو مواطني تجاهها لأنها ببساطة ليست دولته حقيقةً! وهو فيها أجنبي بقدر ما هي مسلمة، وماله من حقوق وعليه من واجبات فيها لا تختلف جوهريا عن حال الأجنبي فيها! كما أن إصرار المسلم على إسلاميته في هذه الدولة هو إصرار على هذه الإسلامية في علاقته مع الآخرين، وهذا بجعل المسيحي في حل من أي التزام وحدوي (قائم على وحدة الهوية والانتماء) تجاهه، فإن كان المسلم على علاقة سيئة أو عدائية بجماعة أخرى، فالمسيحي هنا غير ملزم قطعا بمجاراة المسلم، أما عندما يكون لدى كل من المسلم والمسيحي هوية وطنية أعلى، هي الهوية السورية في حالتنا المأمولة، وتكون سوريا معادية لكيان كإسرائيل.. فهذا الموقف ملزم لكل من المسيحي والمسلم، ليس لأن هذا مسلم وذاك مسيحي، بل لأنهما كليهما سوريان، وسوريان فقط!
بنفس الأسلوب يمكننا أن نقول أن السني الذي يصر على سنيته، فيجعل الشيعي في موضع الآخر بالنسبة له، أو العكس، يجعل هذا الآخر في حل من أي التزام تجاهه بنفس درجة إصراره على هويته الخاصة والمفاعيل المترتبة على ذلك، ويعطي الحق لهذا الآخر بالتعاون والتحالف مع من يشاء، سواء كان هذا على علاقة ودية أو عدائية معه كسني أو كشيعي!
وهذا الكلام ينطبق أيضا على العربي الذي يتمترس خلف قوميته العربية ويصر على عروبة دولته، فهو بذلك يجعل الكردي غير ملزم بهذه الدولة، ولا بمواقف العربي وعلاقاته أيا كانت!
التعصب الفئوي وحتمية الكارثة:
لكن المشكلة الأكبر في التعصب الفئوي، وهو تماماً تعصب عنصري سواء كان أساسه دينياً أو عرقياً أو إيديولوجياً، أنه لا يلغي فقط استحقاقات الهوية الجامعة، وكأنه فرط شراكة يذهب بعدها الشريكان كل في سبيله وحسب، فكل تعصب عادة يثير تعصباً مضاداً وردات فعل مضادة، ومن ثم ضد مضادة وهكذا دواليك، وهذا يطلق عملية شحن عنصري متنامية متسارعة، غالباً ما تكون نتيجتها انفجار الصراعات العنيفة، ناهيك عن أن التعصب نفسه عادة ما يكون مترافقا بنـزعة عدوانية ضد الآخر..واستعداد كموني لأذيته، لا يصعب تحولها إلى فعل عدواني مباشر تجاهه، ويضاف إلى ذلك التعقيدات التي تسببها العلاقات المتداخلة بين المختلفين، ومخاطرها المرتفعة الجمة، عندما لا يمكن لهذا وذاك أن يذهب كل منهما في حال سبيله، ناهيك عن مخاطر التدخلات من طرف الآخرين الخارجيين بالمعنيين الجغرافي والديموغرافي لهؤلاء المختلفين المتداخلين!
سقوط القيم الوطنية مع سقوط الهوية الوطنية:
إن العلاقات بين أصحاب الانتماءات الحادة تكون دوما متوترة، وعرضة للتردي والتدهور والوصول إلى حد الصراع المسلح، وهنا يصبح أصحاب هذه الانتماءات أعداء بالنسبة لبعضهم البعض، وبالتالي يصبح مبررا- بما يفرضه واقع الحرب- لكل منهم التحالف والتعاون مع من يراه مناسبا، فإن لجأ هذا إلى أمريكا وذاك إلى روسيا وثالث إلى فرنسا، وهلم جرى فله في شريعة الغاب هذه كامل الحق بذلك وهو لا يقوم بأية خيانة فردية لأحد!
ولكن في حقيقة الأمر هنا يصبح كل المتورطين في هذا الصراعات المسبَّبة بالتعصبات العنصرية أو المبنية عليها شركاء في خيانة أنفسهم وبعضهم البعض، بقدر الدور التعصبي العنصري الذي يلعبونه! والخائن الفعلي هو الذي يتسبب بأي شكل من الأشكال بتدمير هوية موحِّدة قائمة..أو يمنع قيامها إن كانت ممكنة!
فمنطقياً الخيانة هي مفهوم سلوكي مرتبط إما بالمروق على الذات الجمعية والغدر بها، أو بالنكث باتفاق مبرم أو عهد مقطوع مع طرف آخر، وفي حالة عدم وجود هوية جامعة، فلا وجود لذات جمعية، ومفهوم الذات الجمعية بما هي ذات يستثني منها تلقائيا من هو آخر، فما بالك إن كان هذا الآخر عدوا!! مما يعني أنه انطلاقا من مبدأ الوفاء للذات الجمعية، الخيانة يتعذر انطباقها على من هو آخر، لأنه لا ينتمي إلى هذه الذات الجامعة؛ ويبقى إذا حالة النكوث بالاتفاق والعهد المبرم مع الآخر، وطالما أننا نقول "اتفاق وعهد"، فهذا يعني حكما الاشتراك السلمي الطوعي المبرم بين المختلفين، وهو قطعا لا ينطبق على حالة من يجعل من نفسه عدوا لغيره، بالتعصب لذاته أو السعي لفرضها على غيره قسرا..أو السعي لإلغاء ذاك الغير! فالخيانة تكون خيانة إما بحق أهل أو شريك، وفي حالة الهويات المتصارعة لا وجود لأي منهما، وهناك فقط أعداء، فهل يخان عدو؟!
العنف ضد الآخر وحق حماية الذات المفتوح:
أما عندما تسعى جهة ما في حالة الشرذمة الهويوية إلى إرغام الآخرين على الدخول معها في دولة واحدة تفرض فيها هويتها أو إرادتها الخاصة على الجميع بالقوة كليا أو جزئيا، فهي بالتالي تعطي تلقائيا الحق لكل من أولئك الآخرين بالبحث عن مصادر قوة أخرى ليحموا بها أنفسهم من قوة هذه الجهة!
وبالتالي فمن يحاول أن يفرض قسراً أمراً واقعاً على سواه لأنه يمتلك قوة السلاح أو لأنه يمتلك قوة الحكم أو قوة الكم العددي، أو سواهما.. فهو يعطي بذلك الحق التام لغيره الأضعف باللجوء إلى قوة التحالف مع أي حليف كائناً من كان، إن كانت لدى هذا الحليف القوة اللازمة المناسبة لحماية هذا المستضعف!
خاتمة:
نحن في ما تقدم قطعاً لا نبرر هذه الشرور الكبائر، لكن عندما تقع الشرور فهي تخلق معها قوانينها ومبرراتها المناسبة لها سواء أعجبنا أم لم يعجبنا ذلك، وكلامنا هنا هو مجرد قراءة استقرائية إنذارية للواقع المأساوي الذي دفعتنا إليه شرذمة الهوية، واللجوء إلى القوة والعنف في العلاقة مع المختلفين! فعندما نتمترس وراء شراذم هوياتنا المختلفة مادون الوطنية ومادون المجتمعية، فنحن ننسف بذلك الهوية الوطنية مبدأً وفعلاً!
ومن يحاول فرض هويته بالقوة على ذوي هوية مختلفة، فهو مبدئياً قد ألغى الهوية الوطنية التي تجمعه بهم برفعه لراية هويته الخاصة مادون الوطنية، وارتدَّ أولاً عن هوية الوطن، وما عاد له أي حق بأي مطلب وطني أو التزام وطني على من ألغى وطنيته الجامعة معهم! فكيف يلغي أحدهم المشترك الوطني مع آخر ثم يطالبه بالتزام وطني، ويحكم عليه من منطلق وطني؟! وعلى أرض الواقع بعد إلغاء الهوية الوطنية الجامعة.. لا يبقى إلا مسعى فرض الهوية أو الإرادة الفئوية الخاصة على الآخر، وهذا ما هو إلا عدوان عنصري سافر على هذا الآخر.. يعطيه بموجب حق الدفاع عن النفس اللجوء إلى أي مصدر حام من مصادر القوة!
لا يمكن لأحد أن يتكلم باسم الوطنية، ويطلب مطالب بمقتاضها.. وفي نفس الوقت هو نفسه يتصرف فعلياً ضدها، والحكم على الآخرين باسم الوطنية يقتضي ممن يفعل ذلك أن يكون هو أولاً ملتزم بهذه الوطنية!
فإن كان الكلام في الوطنية وعن الوطنية هو تجارة يمارسها (الوطنجيون)، ولا معنى لها أو قيمة عندهم إلا بقدر ما تساعدهم على استغلال الآخرين بذريعتها، فعلى الوطنيين الصادقين أن يعوا المعنى الحقيقي للوطنية لكي لا يزورها (الوطنجيون)، ويستغلونهم باسمها، ولكي يعوا مخاطر التعصب الفئوي الكارثية على الوطنية وعلى الوطن والإنسان!
الإنسان هو إنسان بطبيعته واجتماعيته معاً، والوطن الحقيقي هو الأرض على مستوى الطبيعة والمجتمع على مستوى الاجتماع..حيث يمكن للإنسان أن يكون إنسانا، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال الفصل بين الوطن، والإنسان وبين الوطنية والإنسانية، لكن لا وطن بلا هوية وطنية، ولا وطن بلا دولة وطنية، فالدولة الوطنية هي التجسيد الحقيقي للوطن الإنساني المحقِق لإنسانية الإنسان!
الدولة الوطنية هي تجسيد الوطن بمعناه السياسي، الذي يجعله واقعاً بمعناه الإنساني، وهي بناء على الهوية الوطنية والانتماء الإنساني، اللذين يحطمها التعصب الفئوي والتشرذم الهويّوي!
وفي حالة هذا التشرذم المتداخل الذي يجعل من إمكانية أن يمضي كل مختلف في حال سبيله- وهو الخطر الأصغر رغم تكاليفه الباهظة- مستحيلة، فلن يكون أمامنا إلا ما هو أخطر بكثير، أي الصراعات الفئوية المستمرة المدمرة للجميع والكارثية على الجميع، وهو خطر لا يدرأه حل ترقيعي مجتزأ كالحل التحاصصي، الذي ليس في حقيقته إلا إجراء تهادني يكرس حالة الاستنقاع الفئوي بكل مخاطرها المانعة للتقدم الاجتماعي الحقيقي، والحافظة لكل عوامل الصراع الفئوي!
أما الحل الحقيقي، الذي يجب أن يكون حلاً جذرياً، فهو أن نتخلص من عنصريتنا وحدّة انتماءاتنا الفئوية، وبدقة أكبر، من توحش هذه الانتماءات أو قابليتها للتوحش، فنصقلها ونؤَنْسِنها بحيث لا تعود عائقاً يمنعنا من تأسيس وترسيخ هوية إنسانية وطنية تتعالى عليها كلها، وتتخطاها إلى المستوى الذي يمكننا عليه أن نبني وطناً حقيقياً!
وعلى من يريد أن يبني وطناً ويكون إنساناً، أن يعي أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك في جلباب فئوي شرذمي! فالوطن يحتاج إلى إكليله الوطني، وليس إلى أسمال الطوائف، والأقوام والملل!