عن الانتباه الوجوديّ والانتباه الإعلاميّ
الانتباه الوجوديّ هو الاشتهاء الوجوديّ، هو فعل اشتهاء بالغ العلوّ، إنه لحظة التفات كلّيّ لإحداثيات الوجود نحو المنتَبَه له، إنه توجيه لا إرادي، احتشاد الطاقة الخلّاقة مايجعل الانتباه ذروة حسّية متّصلة بالكون، إن كبار المتأمّلين هم شهوانيون عظام في انتباههم للكون، وتظهر آثار هذه الشهوانية العاتية في العشق الإنساني وتمظهراته لدى الكثير من المبدعين، لكن ظهورها لايعني الغرق في الابتذال، حيث الزمن الشهوانيّ الكونيّ لايقبل الثبات على سطوح لزجة، إن الوعي البشري هو تفصيل إنطولوجي من تفاصيل لانهائية كالغبار الكونيّ والطريق الوحيد لتلمّس /الكل عبر الجزء/ هو شهوانية الكون المبهمة، الإبهام الضروري للحفر والتحليق وتمزيق الستائر الهشّة أمام الوعي البشري للذهاب نحو بهجة الاكتشاف.
إن أهمّ هذه السواتر اللزجة والتي تحبس الوعي، كما تحبس فقاعة الصابون الهواء في داخلها عن الهواء في الفراغ، هو الإعلام.
يذهب الإعلام نحو حرمان الفنّ من الحضور حيّاً، وإذا وُجِد فلا بدّ من اقتناص روحه في فقاعة لمّاعة تتماوج ألوانها الخفيفة في أضواء المدن المبهِرة داخل الصورة، وسيكون القبض على مفاصل الانتباه الوجودي المعرفي للإنسان وإعادة صياغة إحداثياته هو المفتاح الرئيسيّ للعبودية المعاصرة.
الانتباه الإعلاميّ هو خاصيّة رئيسيّة وجوهريّة في بنيان العبوديّة النيوليبراليّة الجديدة للإنسان، ولابدّ من تقشيرها على الدوام، تلك الخاصية المذهلة والتي قادت تجارب الإعلام عبر تاريخه الفاحش في التاريخ المعاصر والمنصرم، في تنمية وتطوير أدوات صناعة المفاهيم السريعة والهشّة والمستبدلة بدينامية مذهلة، ذلك أن تدريب الإنسان المعاصر على الاستجابة السريعة للانتباه الإعلامي الذي يسرق انتباه الإنسان الوجوديّ، إلى انعدام الثبات واستباحة الحركة، حيث تغدو المفاهيم لزجة وسريعة التحوّل وخادم مخلص للسياق الإعلامي، كي لايكون أمام الإنسان المعاصر أي فراغ كونيّ أو مفاهيميّ أو اجتماعيّ أو سياسي أو اقتصاديّ، فالحقائق جاهزة للتداول بألوانها وأضوائها التي تجعل منها أمراً قابلاً للتداول والقبول، من الجرائم الصغيرة بحقّ الأفراد إلى جرائم فاحشة بحقّ شعوب بأكملها ستبدو قابلة للتداول والاستثمار، وقابلة للتموضع بصيغتها الإعلامية في الوعي الفرديّ والجمعيّ.
ولو تخيّلنا أن غوبلز النازيّ حيّاً الآن، لأحسّ بانعدام الشرف في هذا الإعلام المسيطر عالمياً .!
المبتدأ والخبر :
يستحوذ الإعلام على المبتدأ في اقترابه من الوعي فيصبح الخبر مجازاً / فنّياً / معاصراً ومشغولاً بتقنيات مدهشة، ويذهب الفرد الى الانتباه الُمَعدّ مسبقاً لوعيه عندما ينقل الإعلام العالمي أخبار الجرائم، فأنت لاترى الجريمة على الشاشة، بل صورتها المعدّة لإثارة انتباهك ثمّ اعتقاله.
تحدث الجريمة في بيتك، فتهرع إلى الشاشة كي تتأكّد من أنها حدثت أم لا وسوف ترى أن من نتائج تقبّل هذه العلاقة، في استحواذ الانتباه الإعلامي على الوعي، هو إغراق شبكة المشاعر الإنسانية في دوّامة من المفاهيم تجعل منها انعكاساً شرطياً لأدرينالين الخبر والحاجة إلى تأجيجه شعوريّاً أم لا.
فالحزن والخوف والاحتجاج هي مشاعر تقفز قفزتها الأولى في الشعور الفرديّ والجمعيّ لتقع في شباك الانتباه الإعلاميّ. إن جريمة مقتل صحفيّ تثير الحزن والتعاطف وكتابة القصائد وتنظيم التجمّعات والندوات ومنظمات الحقوق وإلى آخره، يحدث هذا لأن الإعلام يقود الانتباه موجّهاً إياه إلى الفعل المرجوّ على الأرض، بينما تُرتكب جرائم كبرى بحقّ جماعات وشعوب بأكملها دون أن يكون هذا الخبر غنيّاً بما فيه الكفاية ليثير الانتباه.
يقبع الانتباه الإعلاميّ في لا وعي الإنسان الحالي كما لو أنه شريحة إلكترونية مزروعة تحت جلده.
إن أكثر ما يثير الانتباه الوجوديّ هو هذا الانحطاط الفاحش التي بلغته النُّخَب المعاصرة في تحوّلها إلى عصابات ( إعلامية ) شديدة الترتيب، وتشبّثها الأخطبوطي بالتصدّي لقيادة الضمير الثقافيّ والفكريّ للشعوب المغلوبة على أمرها .
لقد تحوّل الإعلام العالميّ ووكلاؤه أينما كانوا، إلى لعب دور إجرامي بالغ الوضوح والريادة في التقدّم على الأسلحة والجرّافات والجيوش لمسح المدن والبشر والشجر والحجر وتسويتها بالتراب ، ولا بدّ من فكّ ارتباطه الوثيق بالمنجَز الثقافيّ البصريّ والسمعيّ والمكتوب، إنها معركة القرن الحادي والعشرين حيث الثقافة الإنسانية في مواجهة الإعلام العالميّ.
ربما يرى العقل السهل، السلس على الدوام بلا كثافة، أن الواجب الانتباهي للإنسان في هذه المرحلة الخطرة من التاريخ البشريّ يجب أن يذهب إلى رصد الحروب ومحاولة الانتصار للسلام عبر نضال ناعم عبر مؤسّسات المجتمع المدنيّ وتوابعها في دول المراكز، لكننا سنرى أن هذا التوجيه للواجب الانتباهيّ، هو شحطه نحو انتباه إعلاميّ موجّه لخدمة دوّامة الدم، شاءت نوايا الأفراد أم لم تشأ، ذلك أن توجيه الانتباه المعرفيّ إلى ترميم ناعم لنتائج كارثية سوف يُعمي المعرفة عن ملاحقة السبب .
إنه منعطفٌ خطر أمام المعرفة البشرية، حيث الحرب تدور بأسباب يبتلعها التعتيم، بينما في الضوء صوراً مبهرة للجريمة كما يريد الإعلام ترتيبها، وذلك وفق آلياته التي غرسها بعناية فائقة في وعي المتلقّي، لصياغة الحقائق بانتباهك الإعلاميّ وضياع انتباهك الوجوديّ في دهاليز الخوف المظلمة .