الدفء صعب في سوريا.. وقائع سياسيّة- اقتصاديّة من إنتاج الطاقة
أينما يمّمت وجهك داخل سوريا اليوم، وتحديداً في تجمّعاتها السكنية الكبرى كالعاصمة دمشق، فإنك تجد مظاهر البؤس التي يضيف عليها الشتاء بظروفه وأزماته مزيداً من الحرمان والعوز... ولكن بؤس السوريين داخل البلاد ليس جديداً، ولم ينتقل إلى مستوى أعلى بالقياس إلى سنوات 2014- 2015 التي كانت الأقسى والأصعب! ولكن الجديد والاستثنائي هو العتبة غير المسبوقة من الغضب والاحتقان الشعبي...
سجّل الشتاء الحالي 2018-2019 عودة أزمات: الكهرباء، المازوت، والغاز، العناصر الثلاثة الأساسية للدفء، والإنتاج، وربما يمكن القول للشعور بالأمان. وذلك بعد أن سجّل شتاء العام الماضي عدم ظهور اختناقات تُذكر في هذه العناصر الثلاث.
عادت ساعات تقنين الكهرباء في ريف دمشق إلى 12 ساعة يومياً، لتصل في بعض المناطق، وتحديداً في عشوائيات دمشق المكتظّة إلى أكثر من 15-20 ساعة. وبدأت دورات التقنين اعتباراً من شهر 11، لتشتدّ في شهري 12، والشهر الأول من العام الحالي.
المازوت أيضاً وكعادته، مسعّر حكومياً بـ 180 ليرة للتر، ولكنه عملياً متوفّر بصعوبة في أسواق المهرّبين بسعر يصل إلى 300 ليرة.
وأخيراً الغاز (القشّة التي قصمت ظهر البعير)، والذي تحوّل إلى أزمة مستعصية، بعد أن فُقدت المادة، ووصلت أسعار الجرّة إلى 10-13 ألف ليرة في حلب! وامتلأت معها صفحات التواصل الاجتماعي المحلية، بصور الطوابير والتدافع من حلب ودمشق، وبفيديوهات فقراء السوريين الذين يبات بعضهم ليلته أمام الجرّة، وفي العراء، بانتظار سيارة التوزيع الموعودة، كما تناقلت كاميرات التلفزيون السوري الرسمي في محافظة اللاذقية!
حكومة النظام في دمشق لديها إجاباتها وتبريراتها، إذ يتّضح من التصريحات وجود توقّف في توريد المشتقّات النفطية والغاز، إذ قال وزير النفط إن وقف التوريد أدّى إلى نقص بنسبة 70% في كمّيات الغاز الضرورية يومياً. مشيراً إلى أنه قد تمّ رفع طاقة الإنتاج المحلية لتغطي نسبة 50% من الحاجات، ولكن هذا عملياً على حساب الغاز الضروري لإنتاج الكهرباء، التي تستهلك: 13 مليون متر مكعب يومياً، من أصل 17 مليون متر مكعب حالياً. (وفق تصريحات وزيري النفط والكهرباء للتلفزيون السوري الرسمي بتاريخ 6-1-2019)
ولكن هذه الوقائع، لم تكن كافية لتبريد احتقان الشارع، فالناس تقول إن هذا فشل حكومي غير مبرّر في تأمين بدائل، وتقول أيضاً إن هذا القليل المتبقّي يتحوّل إلى فرصة، لقوى النفوذ التي تشكّل الأزمات (جائزة) موسمية لها.
تتحوّل الأزمات اليوم إلى ما يشبه الصدمة بالنسبة للسوريين، الذين رأَوا في بعض مؤشّرات العامين الماضيين بصيص أمل ينير الوضع الخدمي على الأقل! وبعد أن بدأت فعلياً مظاهر تحسّن جزئي، مع استقرار سعر صرف الليرة في 2017، وتوقّف الارتفاعات الكبيرة في الأسعار التي شهدها عامي 2015-2016 تحديداً. وبعد أن أتاحت زيادة مصادر الطاقة المحلية من حقول البادية السورية، والقلمون في ريف دمشق، انخفاض التقنين الكهربائي، وتوقّفت الاختناقات الكبرى في المحروقات.
تصريحات وزير النفط تقول بأن إنتاج النفط في الحقول السورية قد وصل إلى 24 ألف برميل نفط خام، وهي نسبة 6% فقط من إنتاج ما قبل الحرب، ولكنها أيضاً تضاعفت 12 مرّة بالقياس بإنتاج 2016 الذي تدنّى إلى 2000 برميل يومياً.
أمّا الغاز فقد ارتفع بنسبة أعلى من النفط بكثير، حيث أصبح الإنتاج اليومي من الغاز اليوم يشكّل نسبة 80% من مستويات إنتاج عام 2011، بعد أن تمّ رفع مستوى الإنتاج في حقول البادية بنسبة 50%.
(والشكل اللاحق يوضّح مستويات الإنتاج الحالية من النفط والغاز).
ولكن حتى مع هذه المستويات فإن حاجات الاستيراد لا تزال تقارب 50% في الغاز، وقرابة 80-85% في المازوت والبنزين.
إن طابع استقرار التدهور، والإيحاء بالتحسّن الذي أعطاه شتاء العام الماضي، لم يُستدَم في العام الحالي... وتشكّل الطاقة مفصلاً أساسياً في هذه العملية، تمتدّ تأثيراته من الإنتاج إلى المنازل، ولا تنتهي بالتأثيرات السياسية والاجتماعية العامة، فتأمين الطاقة مسألة سياسية إلى حدّ بعيد:
فأوّلاً، لا يزال 9 حقول نفط وغاز سوريّة من أصل 17 من حقول المنطقة الشرقية: في الحسكة وشرق الفرات ومناطق من الرقة، وأهمّها: الرميلان والسويدية، كانت هذه الحقول تساهم بأكثر من 85% من إنتاج النفط السوري وفق(المنتدى الاقتصادي السوري- الأهمّية الإستراتيجية لسوريا غير المفيدة). ورغم أن إنتاج هذه الحقول تراجع عن مستويات ما قبل الحرب السوريّة، إلا أنه يفيض عن حاجات المنطقة... ما يجعل سعر لتر المازوت في القامشلي: 35 ليرة للتر (حوالي 7 سنت أمريكي). وبناء عليه فإن إعادة ربط هذه الحقول وإنتاجها، بالاستهلاك السوري الكلي مسألة سياسية مرتبطة بمسار تسوية الأزمة السورية، والخروج الأمريكي، وغيرها من العوامل السياسية المتحكّمة بوضع المناطق الكردية (المنطقة الشمالية الشرقية).
وثانياً، التأمين المستمرّ لواردات النفط، مرتبط عملياً بإيران وروسيا، وهو مرتبط باستمرارية الخط الائتماني الإيراني بالدرجة الأولى. الذي أمّن في 2018 تدفّقات شهرية بمعدل 2 مليون برميل شهرياً، وأكثر من ضعفي النفط الخام المنتج محلياً. وهذه المستوردات النفطية هي جزء هامّ من القروض الخارجية السورية تشير التقديرات الدولية أنها قد بلغت 3.5 مليار دولار في نهاية 2016 (2018 International Debt Statistics).
كما أن تأمين وصول هذا النفط، أو استيراد المشتقّات الجاهزة، يرتبط بآليات الالتفاف على العقوبات، ويتيح لرجال أعمال محدّدين من غير المعاقبين نفوذاً سياسياً هاماً، وتحديداً بعد أن ارتفع مستوى العقوبات على إيران، وبعد أن ركّزت عقوبات أخيرة على عملية نقل المشتقّات النفطية الإيرانية إلى سورية، عبر شركات روسيّة، والتي أصدرها الرئيس الأمريكي ترامب في شهر 11-2018.
أمّا ثالثاً، فإن عدم تأمين الطاقة بالمستويات الكافية، يتحوّل إلى عامل احتقان شعبي واسع الطيف في مناطق سيطرة النظام، ليس فقط بسبب الضغط المعيشي والحرمان الناجم عن نقص الطاقة، ولكن بسبب مفارقات الفساد الواضحة (كعين الشمس) للسوريين. فجزء من مخصّصات الطاقة القليلة، يتحوّل في الأزمات إلى فرصة ربح للجهات المتنفّذة القادرة على نقل جزء من الإنتاج المحلي إلى سوقها السوداء. وتتحوّل هذه المخصّصات مع الاختناقات إلى ثروات سريعة موزّعة في دائرة النفوذ المعنيّة. عدا عن كون استثمار الطاقة المحلية يتمّ بالشراكة مع جهات استثمارية تلعب دوراً إنشائياً أو صيانيّاً أو ترميمياً، أو حتى تشغّل بعض الحقول، أو تساهم بالنقل وتأمينه، وتحصل بالتالي على حصّة من مخصّصات دعم المحروقات بلغت في موازنة 2019 فقط: 430 مليار ليرة، وحوالي: 860 مليون دولار.
ما يعني أن الطاقة لا تزال مساهماً أساسياً من جهة في الاحتقان الاجتماعي في مناطق النظام، الناجم عن عدم توفّر المادة، حتى بعد تحرير أسعارها تقريباً، ومن جهة أخرى، يبقى قطاع الطاقة موضع زيادة نفوذ ونهب لقوى المال المحلية.
رابعاً وأخيراً، يُعتبر عدم تأمين الطاقة بالمستويات الكافية للإنتاج الاقتصادي، ضربة للتسويق الواسع لبدء إعادة الإعمار في سورية... فأيّ إعمار دون قدرة على تأمين مخصّصات الطاقة الكافية للاستهلاك المنخفض الحالي!