فيلم الليفيانثان تجسيد لطاغوت الفساد، ركيزته السلطة
الفساد ذاك الجبروت الحاكم والداء العضال المستشري في أوردة المجتمعات، والذي لاشفاء منه إلا بنزع أسبابه القائمة عليه المتمثّلة بنظام حاكم يؤيّده وسلطة دينية مروّجة له، ومن الصعب جداً نقل تفاصيله المحسوسة، وبالرغم من ذلك استطاعت السينما، وبحالة نادرة وقليلة في طريقة نقلها، وبحدس شفّاف، عمل المخرج “أندريه زيفياجينسيف” على رصد حيثيّاته من خلال فيلمه الليفيانثان (الطاغوت )، عبر شريط صوري يقدّمه كتحفة سينمائية تُضاف لرصيد الفنّ السابع.
امتاز الفيلم ببراعة نقله ليكون من الأفلام القليلة، إن لم تكن النادرة، التي تطرّقت لظاهرة الفساد المتفشّية في الحكومات والأشخاص ومجتمعاتها، مشيرة لقضية اصطدام الإنسان بمنظومة الفساد من خلال السلطة والدين اللذين يعملان على تفتيت المجتمع وقيمه وحقوقه، عبر تمرير وممارسة مفاهيم لجبروت الحكم المدعوم بقوة دينية تشرّع فلسفة الغاب حيث القويّ يأكل الضعيف، ليصير ذاك الفساد كحوت يبتلع كل ما يأتي أمامه، دون رادع وبأي ثمن كان.
استمدّ فيلم الليفياثان اسمه كناية الى قصة الحوت الضخم الذي يبتلع كل ما يجده أمامه وحوله، والذي جاء ذكره في قصة النبي أيّوب في الإنجيل ،حيث جسّد فيلم الليفيانثان صورة الطاغية والأنظمة الحاكمة المرتكزة على سلطة الفساد و الدين جبروتهما عبر رؤيا “ فلسفية تصوّر الموت والمعاناة التي تتعرّض لها الشعوب والأوطان، والذي ينتهك بنيانها ويشرّد قضاياها وأفرادها، ويضيّع معالم الحقيقة.
استطاع الفيلم برمزيّته الحافلة بالمعاني أن يحقّق إنجازات على صعيد المحافل والمهرجانات السينمائية، فقد نال الجائزة الكبرى، وهي"للؤلؤة السوداء" في مهرجان أبوظبي السينمائي2014، وجائزة لأفضل فيلم روائي طويل، إضافة إلى إحدى عشرة جائزة عالمية أخرى، منها جائزة أفضل فيلم عالمي لمهرجان ميونيخ السينمائي 2014، وجائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان السينمائي (2014)، إلى جانب ترشيحه لجائزة أوسكار لأفضل فيلم أجنبي.
يسرد الفيلم حكاية رجل عادي يحارب ضدّ السلطات والكنيسة، الذين يتآمرون ضدّه للاستيلاء على أرضه ومنزله المطلّ على بحر بارينتس في شمال روسيا، من خلال قصة نيكولاي الذي يعيش في إحدى المناطق النائية، ويدير مشغلاً لتصليح السيارات، ويمتلك قطعة أرض شاسعة يسطو عليها رئيس البلدية ليشتريها بثمن بخس؛ كي يبني عليها منتجَعاً سياحياً.
نيكولاي متزوج من ليليا المرأة الشابة التي قُتلت على يد رئيس البلدية حيث ينصب فخّاً لها ولزوجها بعيداً عن القرية، ويتّهمه بقتلها بعد أن قام باستدراجه لمكان ناءٍ مدّعياً موافقته التخلّي عن الأرض، وذلك بعد القضية التي رفعها ضدّه، وتولّى الدفاع فيها صديقه المحامي ديمتري، حيث يقوم بجمع ملفّ عن فساده مواجهاً له بكل القضايا التي عمد إلى ارتكابها واستحوذ على ممتلكات الشعب واستغلاله لمنصبه بالتعاون مع رجال الكنيسة للسيطرة على أراضي وأموال القطاع العام وبيعها بأدنى الأثمان.
يقوم رئيس البلدية بتكليف عصابة لضرب نيكولاي بقوة وتكبيله بحيث لا يستطيع الحراك؛ ليبقى وحيداً أمام أنياب الوحوش الكاسرة، ينتظر مصيره العبثيّ الذي ساقه إليه فساد السلطة ودعمها من قبل رجال الدين . ثم يعود رئيس البلدية إلى الأرض، ويهدم بيت نيكولاي ويحطّم محتوياته بمشهد هو من أقسى مشاهد الفيلم، هدم المنزل، ضرب نيكولاي، وقتل زوجته وتركها على شاطئ البحر، ليظهر صورة الهيكل العظمي لوحش كبير على الشاطئ رمزيّة لحوت الفساد المتوحشّ الذي قتل ونهب واستحوذ على كل شيء.
ويسبقهما بذلك استعراض متقن لطبيعة العلاقة الإنسانية الحاكمة لتلك النهايات بثنائية ازدواجية تفسّر للمشاهد عبر محاكمة منطقية حالة تفشّي الفساد الأخلاقي بطبيعة الأشخاص قبل السلطة، والتي تمثّلت باستدعاء المخرج لعدّة محاور تبيّن تداعي الحالة الوجدانية والدوافع التي أدّت إلى نتائج كارثية، سببها المباشر استحواذ طاغوت الفساد على مفاصل السلطة مدعوماً بركيزة الدين، والتي تمثّل المحور الأول الهامّ الذي تطرّق إليه المخرج.
حيث نشاهد كيف أن رئيس البلدية يقيم علاقة مع خوري الكنيسة من خلال حضوره مواعظ الأحد واستماعه لنصائحه، فكان يردّد دوماً مستشهداً بنصوص دينية (( كل سلطة هي من سلطة الربّ )) محرّضاً الآخرين على الانصياع لأحكامها. مستغلاً وجود الطبقة الثرية في هذه الكنيسة ليعمل هو ورئيس البلدية على إقناعهم بشراء الشقق السكنية التي سيبنيها على قطع الأرض التي يستحوذ عليها من الناس بالقوة بحكم منصبه.
المحور الثاني الذي بيّن انتشار ظاهرة الفساد بين الشخصيات، هو إظهار لعلاقة الخيانة والخديعة التي كانت تربط بين زوجة نيكولاي وصديقه المحامي، فنجدها تقيم علاقة غرامية مع المحامي صديق زوجها، بعدما نجح رئيس البلدية في إيداع زوجها في السجن لفترة قصيرة في المرة الأولى، تسعى هي والمحامي، للإفراج عن زوجها، فتذهب إلى صديقتها التي تتّصل بأحد أصحابها وهو أحد الرجال النافذين.
تنجح في إخراج نيكولاي من السجن، وأثناء إجراءات إطلاق سراحه تذهب مع المحامي إلى غرفته في الفندق لنجدهما في مشهد غرامي، يتكرّرهذا اللقاء أثناء حفلة الشواء في البرّية، حيث ينفرد بها المحامي بعيداً عن الآخرين، فيشاهدهما ابنها الذي يركض مسرعاً ليبلّغ والده، فيركض نيكولاي إلى المكان، ويحدث اشتباك بالأيدي بينهما، نجم عنه كدمات على وجه وجسد المحامي والزوجة.
يتمركز تصوير الفساد بجانبه غير الظاهر مباشرة، والذي نجم عنه تشريد عائلة وسجن صاحب الحقّ والمسطوّ على ممتلكاته بذريعة طاغوت السلطة والقائمين عليها، خيانة مبطّنة قتلت الزوجة، وخان بها الصديق صديقه، وبقي الطفل مشرّداً وحيداً في هذا العالم، وفي الجانب الآخر ارتفاع لقوة الكنيسة في دعهما لفلسفة الفساد بدل قيامها على تحييده وضبطه.
امتاز فيلم (الليفيانثان) من الناحية الفنية، بعظمة إخراجية لافتة من نوعها من خلال التصوير الجميل بلقطات ومشاهد وصُوَر لا تُنسى، اعتمدت على المجاز والتأمّل والسكون تارة، ومن أهمّها صورة (الهيكل العظمي الضخم الملقى على الشاطىء)، مترافقاً مع إظهاره الواضح واهتمامه كثيراً بجمالية الأمكنة ليبرز بشكل أخّاذ هذه المعالم الطبيعية، والتي تمكّن بها من خلق توازن بين الجمال و القبح الناجم عن قسوة الأحداث ووقائعها.
إضافة لاستخدام الإنارة والألوان، بطريقة مميّزة، التي يتمّ العمل عليها بعناية فائقة حتى يتمّ وضع المتفرّج في جوّ يحرّض فيه الإحساس بالشخصيات والوقائع لتتعاطف مع قصّة الفيلم كرتم كلّي واحد من بدايته لنهايته مترافقة بمنهجية تصوير جميل بعين ترصد فنّياً، وتلفظ بمهارة فنّان حكاية توثّقها ضوئياً بعدسة تلتقط المشاعر قبل الحركات.
كما أن الفيلم اعتمد على سيناريو محكم الصياغة، امتاز بوحدة درامية في الزمن والمكان والأحداث، متنقّلاً بها مستخدماً الكوميديا السوداء كركيزة لنقل انفعالات الشخصيات عبر لقطات متتالية باستمرارية، نجح المونتاج بضمّها كحدث واحد مستمرّ مع استمرار قضية الفساد وعدم وجود حلول لها إلا بنهايات، دوماً، مأساوية .