الدون كيشوت القاتل
1. عن أعمار الثورات:
تولد الثورة وتموت في دورة حياة قصيرة إذا تمّ رصدها بإحداثيات الزمن الواقعيّ، في الواقع إن للثورات أعمارَ البعوض والشرانق والبرق، إنها لحظة انفجار في حوض الزمن الواقعي، ولا يعنيها من سياق تراكمها شيء ولا حتى مستقبلها، فالانفجار لا يفكّر.
ما يجعل الثورات تُغيّر الواقع هو نهوض الخيال العبقريّ للانسان لخلق نظيرها الإبداعيّ في الفكر والفلسفة والفنّ والأدب والحياة بكلّ وسائلها القديمة التي أدّت إلى استعصاءات عميقة مهّدت للحظة الانفجار تلك.
إنّ الاعتداء الأكثر فحشاً في التاريخ البشريّ على الثورات هو في حقيقة الأمر اعتداء على نظائرها وليس اعتداءً عليها، فلحظة الانفجار لايمكن الاعتداء عليها أو تسويرها بالموانع والكواتم، إنّما يتمّ الاعتداء على أثرها في الواقع عبر اغتصاب الخيال الإنسانيّ، وإنتاج ثقافة وسياقات معرفيّة وفنّية وعقائديّة تقطع الطريق على الخيال الخلّاق، وتقدّم له تصوّراً مشغولاً بعناية، ومزوداً بإحداثيات تؤدّي بالضرورة إلى تحطيم الخيال الخلّاق واستنهاض روح الاستثمار.
إنّ ما حدث ويحدث بعد ثورات الربيع العربيّ من تصالح خجول تارة ووقح تارة أخرى مع الاسلام السياسيّ في خطاب المعارضات والأنظمة على حدّ سواء، بكل أشكالها، هي فضيحة لا يمكن إلا أن تستدعي الوقوف طويلاً حول مشاركة هذه المعارضات، عدا عن الأنظمة التي تعارضها، في عملية خنق النظائر العالية للحظة الثوريّة، بعد أن ولدت وماتت في أسابيعها الأولى، حيث لايمكن للخيال البشريّ أن ينهض بنظائرها العالية في الزمن المعاصر ما لم تكن نظائر تلك اللحظة الثوريّة ترتكز في مبادئها الأولى على حرّية الإنسان من الآلهة والأنبياء والعقائد.
لكن مهلاً فقد تبدو تلك الحرّية من الآلهة والأنبياء وكأنها تمهّد الطريق نحو تفريغ الروح الإنسانية كي تكون فراغاً ملائماً لقِيَم الاستهلاك..!
في الحقيقة وعلى الأرض ، فإن هذا ما يحدث، إلّا أنّ النظائر الإبداعية لتلك اللحظة ليست نظائر ثابتة وصلبة بل نامية باستمرار، لذلك فإنّ وأْد الخيال هو ما أدّى ويؤدّي إلى هذا الركام الثقافيّ والفلسفيّ والفكريّ، ركام خدميّ، يسرق شرف تشكيل نظائر اللحظة المتفجّرة، كي يحوّل النظير إلى عاهرة مؤجّرة حسب الطلب، روحها منتهكة كضحيّة مثاليّة من ضحايا الحرب القذرة.
2. عن التحريم :
التحريم هو ردّ فعل نفسيّ و بدنيّ على الانتهاك.
يحدث الانتهاك، فينحو العقل إلى الخلاص من آثاره عبر التحريم الذي يشرّع الانتهاك عبر تشريع تحريمه..
التحريم وجه الانتهاك الآخر، الوجه الشرس، ولكن الأكثر خجلاً ونعومة، ذلك الخجل الذي يرتسم في عيني قاتل ومنتهِك يحتضن أطفاله خوفاً عليهم من الحرب بأن يطلق الرصاص على كلّ الآخرين عداهم .
يقول الشيخ أو الزعيم أو كبير العائلة، سأحرّم الصلاة على جثمانك وسأحرمك من غفران الإله ورحمته، خلف هذا التحريم ينتشي الانتهاك، حيث العقوبة طالت القاتل بعد الموت.
في المدن الكبيرة، تزدهر الجريمة في الاحياء الفقيرة، وفي الحروب تقع المعارك على أرض الشعوب الفقيرة ويُساق الجنود إلى الحروب / الرسميّة والجهاديّة / من الشعوب الفقيرة. ذلك أن الفقر هو حاضن الانتهاك أوّلاً والتحريم غطاؤه الدافئ.
تحلم الشعوب الفقيرة بالقانون، الذي يحمل العدالة والحقّ ونور المعرفة الإنسانيّة كمصدر له، حتى هذا الخيال، هو تناصّ سيّئ مع ثورات قديمة، لقد تجاوزت البشرية هذا المنحى، ولم يعد القانون والعدالة وأفكار التنوير، وعاءً كافياً لاحتضان الإنسان المعاصر، لابدّ من الاعتراف أوّلاً، أن البشرية تحتاج إلى عقد اجتماعيّ عالميّ جديد، لابدّ لنا أن ننشغل حقّاً بالحرّية، هذه المفردة التي قُتل الملايين من البشر تحت رايات تحمل اسمها...
إنّ المناضل الذي يحمل أفكاراً لا تتجاوز ثورة حدثت قبل 300 عام في أوروبا، لايختلف عمّن يحمل أفكار الأئمة قبل ألف عام..
إذا لم تجترح الثورات أفكارها من روح الإنسان المعاصر وحاجاتها العميقة والأصيلة، فهي انتهاك جديد، والتحريم الذي على وجه العملة الآخر.. هي ثورات مقلوبة تنعش الأئمة والأنبياء والمخلّصين، والمفسّرين، وتجّار العقائد.
لذلك لايمكن للعقل أن يكون ثورياً، إذا توقّف عند فلسفة التنوير في أوروبا قبل خمسة قرون، مع أهمّيّتها بالطبع كأرضيّة لنهوض الأسئلة المعاصرة، لكن أن تكون مطالبها التي نهضت من واقع أوروبا قبل قرون طويلة هي مطالب معاصرة، فهذا استعمار من نوع آخر، احتلال السؤال الذي يطال تشريعات الجريمة الكبرى في المؤسّسات الدولية..
على المقلب الآخر يستمدّ القتل وهمَ الثورة من خطابات الأئمة القدماء وكلام الأنبياء، وعصمة المختارين من الله..
الماضي هو مستودع خلفيّ للشركات المعاصرة، ولا بدّ للفنّ من تفكيكه وتحويله إلى حدائق ومتاحف.
إن ثورةً لا تنهض كلماتها في قلوب مناضليها، هي ثورة خرساء بكماء صمّاء، حين ينهض في قلوب طالبي الحرّية أبطالٌ وأئمة قديمون يُشهرون عقائدهم في وجه العالم. لا بدّ من حرّية الكلمات، حيث لا يمكن أن يتمّ انتهاكها وإمساك العالم باسمها، باسم نصوصها التي حُشرت قيمتها بقوة الانتهاك القديم في حناجر الفقراء .
هذه معركة الفنّ والفكر والفلسفة.
3. الدونكيشوت القاتل:
هل أخطأ سرفانتس في تقديم نموذج النبيل النقيّ والعاشق المجنون في شخصيّة دون كيشوت، حتى يتنكّب المثقّف العربيّ سمات الدون كيشوت؟
أم أنّ هذا التنكّب هو كارثة وعي ضحل لروح سرفانتس العظيمة؟
يغدو الموقف الدون كيشوتي من العالم في الثقافة العربية كلوح التزلّج على الماء، ليغدو المثقّف قنّاص ذُرا الأمواج ، إنه محرّض ثوريّ طالما يخدم هذا التحريض ركوبه للأمواج المتلاحقة التي رافقت اهتزاز الكيانات الهشّة للدول العربية بأنظمتها ودساتيرها، وهو في الوقت نفسه قنّاص الذرا على المقلب الآخر في علاقته مع الاستبداد وأشكاله.
يتلخّص الموقف الدون كيشوتي بتنسيق العلاقة مع الرائج في الخطاب الثقافي، سواء كان في صفّ الأنظمة أو مضادّ لها ، مع الحفاظ على رصانة القول والاندغام في أكثر التيّارات الرائجة فنّياً وإعلاميّاً وفكريّاً وأدبيّاً. فيعلي من شأن الأفكار طارحاً إيّاها كبديل عن صراعات الواقع الشرسة وآفاق التشكّل الدينامي لثقافة متراصّة مع جحيم الواقع، فيصبح الخطاب الثوريّ في فضاء لا يمتّ إلى الواقع بصلة، إنّه استعراض لتراكم الأفكار الصالحة للاتّساق مع روح الاستثمار الأكثر شراسة على الإطلاق .
يتحوّل دون كيشوت المعاصر إلى ناقم من طراز فريد، الناقم هو مخلّص فاشل ، ويدرك أنه مهزوم إلى الأبد أمام فشله في الإخلاص لما ينتمي. ولعلّ أحد كوارث البشرية المعاصرة هو تراكم الإحباط الإنسانيّ ليصبح الإحباط صناعة متطوّرة وقابلة للتدوير وإنتاج الفائض الكافي من الوهم التي تحتاجه الحروب بكافة أشكالها .
إنّ ارتفاع الصوت وحالة العصاب الهائلة التي ترافق أكثريّة من المفكّرين والكتاب المعاصرين والذين رافقوا موجة الربيع العربي، توحي بأن الخروج من مستنقع الحرب الذي تشكّل في شرق المتوسط وإفريقيا العربية، يحتاج أول ما يحتاج إلى كنس هذا الركام واقتلاع رياح الألم الإنسانيّ لتلال نفايات الإخلاص الفاشل .
ليس الفشل سمةً تؤدّي بالضرورة إلى الإحباط، لكن الفشل في الإخلاص لقضيّة أو لفكرة سيقود حتماً إلى الإحباط، طالما كان هذا الانتماء عينه انتماءً ضيّقاً وبائساً للقضيّة أو للفكرة،
وكمَن يبذر في التراب بذوراً محروقة، وينادي طوال العام على الناس بأنّ محصوله سينقذ الفقراء، ويطالبهم بثمن غذائه .
إنّما الفقراء أسخياء وسخايا، يقدمون للأفكار حياتهم مقابل لحظة من الحرّية في الصراخ، لكن المستثمرين يقدّمون حياة الآخرين / بسخاء أيضاً / خدمة لأفكارهم .
في الشأن العام يصبح المخلّص الفاشل مستثمراً، ولعلّ الخطورة في أنّه يدرك أن ما ينتجه هو إكسير الحرب التي لا بدّ أن تدوم كي يتابع حياته كمستثمر فاضلٍ في هذه المدينة العالمية الفاضلة !.