دمشق تغرق في أزمة البنزين ومخاوف من الأزمات القادمة
لم يَكَدِ النظام السوريّ يتعافى من أزمة نقص الغاز والمازوت التي مرّت بها مناطق سيطرته خلال الشتاء القاسي الذي حلّ بالبلاد، والتي استمرّت حتى شهر نيسان الحالي، لتبدأ بوادر أزمة نقص البنزين بالتزايد يوماً بعد يوم، والتي تُعتبر الأشدّ منذ ثماني سنوات، ما تسبّب في شلل شبه تامّ للحركة في المدن الرئيسة كالعاصمة دمشق العاصمة ومدينة حلب.
يقول جمال اليوسفيّ من سكّان مدينة دمشق لـ مجلّة (صُوَر) "لم أرَ أزمة مماثلة كالتي نمرّ بها هذه الأيام، آلاف السيارات متوقّفة عن العمل، فلا سيارات أجرة في الشوارع، إذ أن طوابير السيّارات على محطّات الوقود بلغ طولها عدّة كيلو مترات".
أمّا السيّدة هالة ( 55 عاماً) فتقول: "انتظرت مدّة ثلاثة عشر ساعة، من الثامنة صباحاً حتى التاسعة مساء، ركَنتُ سيّارتي في طابور الانتظار، وتوجّهت إلى سوق مجاورة اشتريت بعض الأغراض، وبدل أن يعود أولادي من المدرسة إلى البيت، توجّهوا إلى السيارة، وتناولنا وجبة الغداء وسط هذا الطابور الطويل. أمضينا يومنا من أجل البنزين، ولم نحصل عليه، في السابق كانت الأزمات تُحلّ عن طريق دفع مبالغ أكبر للشبّيحة، فيقومون بتأمين البنزين، أمّا اليوم فالأزمة أعمق، حتى الشبّيحة الصغار لم يعُد لديهم النفوذ لتأمينه بطرق غير نظامية وبيعه لنا، بالكاد لديهم ما يشغّلون به سيّاراتهم".
بالمقابل اعترفت وسائل إعلام النظام بوجود الأزمة بشكل غير مسبوق، لكنها ألقَت باللوم على المؤامرة الكونيّة التي يتعرّض لها البلد منذ ثماني سنوات، واعتبرتها أحد أذرع وتجلّيات الحرب على سوريا، وأنها تتمثّل اليوم بالحرب الاقتصادية والحصار، الموجّهين من قِبَل الولايات المتّحدة وعملائها، بعد فشل الحرب العسكرية خلال السنوات الماضية.
يقول الصحفي هاشم الحاج بكري لـ مجلّة (صُوَر) " هناك محاولات لامتصاص غضب الشارع على نحو غير مسبوق، تجلّت بتوجيهات من الأجهزة الأمنية لإطلاق مبادرات لإشغال الناس عمّا يمرّون به، وبعد عدّة أيام رأينا المبادرات تجتاح الشارع السوريّ، كتوزيع الكتب والتشجيع على القراءة في محطّات الوقود، كما تمّ توزيع الورود على سائقي سيّارات الأجرة، وإطلاق فِرَق الرقص والموسيقا الشعبية لإضفاء نوع من البهجة".
ويتابع " إضافة لذلك أتت الأوامر من قِبَل محافظ دمشق لنوادي الفروسيّة ومربّي الخيول والحمير، بالنزول بها والتجوّل في الشوارع، في محاولة إعلامية مفادها أن الشعب السوريّ صامد في وجه المؤامرة حتى لو عاد لاستخدام الخيول كوسيلة مواصلات".
وكردّة فعل لقيَت هذه التصرّفات انتقادات واستهجان السوريّين بشكل واسع ، واعتبرها الكثيرون سخرية منه-المحافظ- ، وبالمقابل تلقّفها البعض بالبسمة والضحكة.
موجة السخرية غير المسبوقة التي عمّت المجتمع السوري ووسائل التواصل الاجتماعيّ، يصفها الحاج بكري في حديثه لـ صُوَر "بأنها السخرية النابعة من شدّة الألم، خصوصاً في مناطق سيطرة النظام"، ويتابع حديثه "هؤلاء الناس مغلوبون على أمرهم، ولا يستطيعون التعبير عمّا يجول في خاطرهم بحرّية، يعيشون في سجن كبير اسمه سلطة النظام السوري، وبالتالي عليهم تلقّي الأمر بالبسمة والسخرية لتلافي المشاكل والمخاطر التي يمكن أن يتعرّضوا لها".
الأسباب
اعتمد النظام السوري، خلال السنوات الماضية على شراء النفط الخام من عدّة دول أبرزها الجزائر وروسيا وإيران، على أن يتمّ التعاقد ودفع ثمنه قبل استيراده من قِبَل أشخاص محدّدين مقرّبين من الدائرة المصغّرة للحكم، ومع تحسّن أحوال النظام النسبية، وسيطرته على بعض المناطق الجديدة كغوطة دمشق ومدينة حلب، عاد نفوذ محمد مخلوف خال رأس النظام السوري بشار الأسد للبروز مجدّداً على قطاع النفط ليسيطر عليه، وتوقّفت حكومة النظام عن الدفع المسبَق للتجّار المورّدين، الذين أوقفوا عمليات الاستيراد، بسبب قلّة الضمانات، ونقص مخزون القطع الأجنبي في الخزينة.
يقول المحلّل الاقتصادي محمد الحسين لـ مجلّة (صُوَر) ": مخلوف خال بشار الأسد من أبرز الشخصيّات الموضوعة على قائمة العقوبات الدولية، وهناك مخاوف من الشركات ورجال الأعمال من التعامل معه سواء في سوريا أو خارجها، ما دفع المورّدين لوضع شروط قاسية واللجوء لطرق الْتِفافية مكلفة للتعامل مع محمد مخلوف الذي فرض نفسه وصيّاً على القطاع الحيوي الأهمّ في كلّ الدولة، هذه الشروط لضمان أموالهم، وتجنيبهم لوائح الشركات والأشخاص المتعاملين مع جهات معاقبة دولياً، هذه الشروط رفضتها الحكومة السوريّة، ما أدّى إلى تفاقم الوضع في عموم مناطق سيطرة النظام".
بالمقابل كان النظام السوري يشتري بعضاً من النفط الخام من الحقول الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، لكن الحديث المتعاظم عن قرب تطبيق مفاعيل قانون قيصر الذي يفرض عقوبات شديدة على أي جهة تتعامل مع النظام السوري، وتحذير الحكومة الأمريكية المباشر لقيادات "قسد" بعدم بيع النفط للنظام أدّى إلى توقّف مصدر آخر له.
ويتابع الحسين حديثه، "كان النظام يستجلب بعضاً من النفط من مناطق "قسد" عن طريق وسطاء أبرزهم (شركة القاطرجي)، والذين كانوا يفرضون مبالغ كبيرة كإتاوات لقاء حماية قوافله، هذه الكمّيات التي توقّفت كانت تسدّ بعضاً من حاجة السوق المحلّية، حتى الكمّيات القليلة لم يعُد بالمقدور استجلابها، مع ملاحظة أن (شركة القاطرجي) كانت ترعى شراء وتأمين النفط من تنظيم داعش وإيصاله لحكومة النظام ".
وينوّه الحسين في حديثه لـ (صُوَر) أنّ كمّيات النفط المهرّب لن تكون بديلاً ،إضافة لوجود قيود على حركة التهريب من الأردن والعراق، بسبب مراقبة القوات الأمريكية للشريط الحدودي، إضافة لتشديد المجالس المحلّية والفصائل العسكرية المسيطرة على المناطق خارج سيطرة النظام على منع تهريبه لمناطق النظام، للحفاظ على سعره وتوفّره لديها، مع إمكانية تهريبه من لبنان بسبب سيطرة ميلشيات حزب الله على الشريط الحدودي، مناطقهم".
العقوبات والمصالح الإيرانيّة تعزّز الأزمة
جرت العادة أن يتمّ تكرير النفط الخام القادم من إيران في مصفاة بانياس بشكل رئيسيّ، لكن فرض وتشديد العقوبات الأخيرة من الحكومة الأمريكية على حكومتها التي تُعدّ من أكبر مصدّري النفط والغاز في العالم، وانعكاسها على الكثير من دول العالم، ومنها سوريا التي لديها أصلاً مشاكل مالية واقتصادية مستفحلة، أدّى إلى توقّف التوريد، الأمر الذي تسبّب في نفاذ المخزون تدريجياً، وصولاً إلى الأزمة الحالية غير المسبوقة خلال الأسابيع القليلة الماضية.
يكشف مهندس يعمل في وزارة النفط لـ مجلّة (صُوَر) (رفضَ الإفصاح عن اسمه للضرورة الأمنيّة) "منذ شهرين منعت الحكومة المصريّة مرور ناقلتي نفط إيرانيتين من قناة السويس متوجّهتين إلى سوريا" ويتابع، كان الإيرانيون يشرفون على استجلاب النفط، ووصل نفوذهم للإشراف على تكريره في مصفاة بانياس بشكل مباشر، وهذا لم يَرُقْ للروس ولمن يدور في فَلَكهم من كبار السماسرة ورجال الأعمال من السوريّين".
ويضيف المصدر "عادة يقوم الإيرانيون بالتعاقد مع تجّار سوريّين يخدمون مصالحهم، وبعضهم يموّل مليشيات مسلحة تعمل لصالحهم، كما يضغطون على الحكومة السوريّة لبيع النفط بعد تكريره لأشخاص مقرّبين منهم، والكثير من هؤلاء التجّار يسهّلون ويتوسّطون في عمليات شراء العقارات في دمشق لصالح السفارة الإيرانية، ويقدّمون خدمات جليلة لهم".
ويشير المصدر إلى أنّ "تدخّل الإيرانيين وصل إلى حدّ فرض أسعار مختلفة للمشتقّات البترولية، الأمر الذي يخلق عدم استقرار في الأسعار، ويؤدّي إلى اضطرابات مالية واقتصادية وصراعات فئوية صغيرة".
ويتوقّع المصدر في حديثه مع صُوَر "بروز مافيات جديدة لتجارة النفط في سوريا، نتيجة محاولة التجّار السابقين التواري عن الأنظار، خشية وضعهم على قائمة العقوبات، الأمر الذي يؤدّي إلى وضع المواطن السوري تحت رحمة مافيات جديدة خلقها اقتصاد الحرب".
مخاوف مستقبليّة
ألقت أزمة البنزين الحاليّة تبعاتها على جميع قطاعات الحياة في المدن والأرياف السوريّة، واضطرّت إدارات بعض المشافي الحكومية والخاصة في دمشق لتحويل بعضٍ من العمليات الجراحية المستعجلة إلى خارج دمشق، بسبب نفاذ المحروقات التي تشغّل المولّدات، البديل الدائم للكهرباء الحكومية، والتي اعتاد السوريون على انقطاعها لساعات طويلة يومياً.
كما توقّفت سيارات النظافة العامة عن نقل القمامة، ما أدّى إلى تكدّسها في الأحياء السكنية، تزامناً مع دخول فصل الصيف، الأمر الذي يهدّد بانتشار الأمراض.
استمرار الأزمة أدّى إلى ارتفاع في صرف الليرة السوريّة أمام الدولار بمعدل 20 بالمئة خلال مدّة قصيرة.
هذا الواقع يثير مخاوف كبيرة لدى الشارع السوريّ حول المستقبل القريب والمتوسّط المدى، ويطرح تساؤلات كبيرة حتى لو حُلّت الأزمة الحاليّة، حول شكل وحجم الأزمات المقبلة، وما الأثمان السياديّة غير المعلنة التي تقدّمها، وستقدّمها الحكومة لكلٍّ من إيران وروسيا مقابل المساعدة في حلّها؟.