عن الأفكار والمفاهيم ( ضمير الحرب المستتر )
- عن قوة الفكرة :
عيسى بن مريم .. الحلّاج .. سيزيف .. سقراط .. غاليلو .. السهرورديّ .. ابن المقفّع .. فرج فودة .. لوركا... الماركيز دو ساد .. مهدي عامل ..الطيّب تيزيني .. وتطول القائمة وغيرهم لا أسماء متداولة لهم .. من مضوا غير عابئين بوضع حياتهم وآثارهم في مكاييلنا .. في كفّة ميزان تحمل كفّته الثانية طيف فكرة ..
كيف توصّلوا إلى هذا العشق الأعمى والثقة العاتية بالفكرة ..؟
أتخيّل أن المسيح والحلّاج كانا ينظران إلى الضوء المحيط بهما بينما ظننا أنهما فريسة آلامنا..!
لكنها قوة الفكرة من دفعت الألم إلى عتبةٍ لا تُردّ ..
الفكرة المهزومة ليست خارج إمكانية نهوضها كأفكار عظيمة ، لأن الهزيمة والانتصار مفهومان خدميان تاريخيان، بينما قوة الفكرة طاقة مفارقة.
هكذا تولد الأفكار العظيمة، نظيراً حرّاً للحدس العظيم، قوة الفكرة تلك تستمدّها من ذاتها، لا أدران تلتصق بجسدها الغضّ الحارّ ، إنها أقوى من الألم والفرح والمشاعر المتداولة تحت سقف العالم الواطئ، ولا أفكار خدمية تخترق مناعتها، إنها مُنازل حرّ بذاته في مواجهة تراكم الأسف الإنسانيّ .
أمّا عن عظمة الفكرة فإن هذه العظمة تأتي من التكثيف والشمول والبساطة والغموض الكافي لكي تخاطب مليارات البشر بعمل فنّي واحد يتّصل به الجميع كما يتّصل به كل فرد وحيداً، هكذا عظمة لا شأن لحرفة النظم بها، ذاك أن الحدس العظيم هو من يقود الأدوات مهما بلغت من تأثير .. لتغدو بعد قليلٍ قوة الأدوات هي نفسها قوس الحدس العظيم الذي يقود شغف تشكّلها.
هذا عن الأفكار، فما حال المفاهيم ؟
إن أخطر ما تتعرّض له الأفكار هو تحوّلها إلى مفاهيم، وإن كان هذا التحوّل هو محطّة في تناميها كأفكار، إلا أن الخطر يتأتّى من مكوث الأفكار في المفاهيم، تراخيها عن المغادرة، فتتكلّس المفاهيم على الأفكار مهما بلغت من القوة والعظَمة .
- عن مفهوم الحرب .
الحرب مفهوم شامل، بمعنى أنه متى تحقّق فإن له من القدرة على ابتلاع كلّ المفاهيم الأخرى التي صاغها العقل البشريّ في خِضَمّ قراءته للواقع والعالم والكون، وسيعمل بكل تأكيد على هضمها وإعادة خروجها من معطفه بعد أن حملت ليس رائحته فحسب، بل ميكانيزماته الأكثر فاعلية .
فكلّ المفاهيم وتجلّياتها ، من الفكر إلى العقائد إلى الاقتصاد إلى السياسة والفنّ والإعلام والثقافة .. ستلتصق الحرب بكلٍّ منها كما يلتصق القراد .. فثمّة اقتصاد حربيّ .. وفنّ حربيّ وإعلام حربيّ وأدب حربيّ .. وخطابات عقائدية حربية وفكر حربيّ، ومن نافل القول أن تجلّيات هذه المفاهيم على الأرض، هو ما يجعل مثول هذه المفاهيم تحت جلباب الحرب، تحت معطف غوغول مرّة أخرى ، حيث الحياة المسروقة في الصقيع هو مصير حتميّ طالما أن الحرب تدور، وسيكون على البشرية بعد نهاية الحرب أن تبذل سنوات طويلة في عراك المفاهيم التي خرجت من الحرب حاملة أنفاسها، وهذا ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية في الفكر والإعلام و الفنّ، فعلى سبيل المثال لا الحصر: لقد كان منهج غوبلز النازيّ الأب الشرعي للإعلام المعاصر في العالم، ذلك أن الإعلام الحربيّ النازيّ قد طوّر آليّات السيطرة ووضع لها النُّظم والقوانين، وبهذا بقي ضمير الحرب العالمية الثانية حاضراً في الإعلام المعاصر ومتسلّلاً في الأدب والثقافة والفلسفة والفنّ، وحصرها في مراكز أبحاث وجوائز وهيكليّات ومؤسّسات لها روح الأقفاص الناعمة .
هكذا لا يمكن للعالم المعاصر أن يبدو في الحرب جليّاً في تناقضه الأساسيّ / القاتل والمقتول / إلّا في صمت الفقراء المكبوت أو صرخاتهم القصيرة الهائلة في مواجهة الموت، ذلك أن الفصام الذي يتأسّس عليه ضمير الحرب المعاصر هو/ وضوح الجريمة من جهة، وغمغمة طرحها الناعم في الإعلام والأدب والفنون من الجهة الأخرى /، فالجميع مشارك في الحرب عبر احتمالات يتيحها التطوّر العلميّ ومقارباته الأخلاقية للفرد في دول الحواضر الديمقراطية ، لتسقط عن الجريمة وضوح ثنائيّتها باتجاه احتمالات وظيفية لا نهائية من الاستقطابات والاصطفافات ، ولا بدّ للهارب من وضوح الحرب أن يستظلّ تحت انتماءات وظيفيّة الدور في الحرب من الأحزاب إلى الطوائف إلى قطعان الارتزاق.