روسيا تسيطر على القطاعات السيادية والاستراتيجية في سوريا
- استثمار مطار دمشق الدوليّ "ألا أونا.. ألا دو.. ألا تريه"
- الحكومة السوريّة تؤكّد إمكانيّة الاستثمار بنظام ( B.O.T)
- شركات روسيّة حصلت على معلومات عن المطار وقدّمت عروضها
- الروس يسيطرون على ميناء طرطوس
- تحدّيات السوريّين في مواجهة التحدّيات الاستعماريّة
- القمح السوريّ استمرار الاستيراد... ومخاوف من رفع الدعم عن الخبز
استثمار مطار دمشق الدوليّ "ألا أونا.. ألا دو.. ألا تريه"
الحكومة السوريّة تؤكّد إمكانيّة الاستثمار بنظام ( B.O.T)
شركات روسيّة حصلت على معلومات عن المطار وقدّمت عروضها
ثامر قرقوط
أتى صادماً موقف الحكومة السوريّة، من طرح المنشآت السيادية على الاستثمار، ففتح الباب على مصراعيه ودونما استثناءات، لايعني تشجيع الاستثمار، بقدر ما يدلّ على حالة عجز حكومي عامّة، وشلل تنموي واضح، ورغبة في نفض اليدين من مسؤوليات وطنية ـ اقتصادية. وها هي ذي وزارة النقل تنفي استثمار شركات روسيّة لمطار دمشق الدوليّ، لكنها في بيانها الشهير الذي أصدرته في 20 أيار العام الجاري، صبّت الزيت على النار، وخلقت قضية كانت في عرف الاقتصاد السوري مُحرَّمة، بأن تتخلّى الحكومة عن المنشآت السيادية وتطرحها على طبق من ذهب أمام المستثمرين الأجانب، مقرّة بعزمها على طرح مطار دمشق على الاستثمار.
ويُعدّ هذا البيان إذن بدء العمل الفعلي في استثمار المنشآت التي كان يُطلَق عليها خطّ أحمر، فبعد ابتلاع غصّة مرفأ طرطوس الذي صار من حصّة الاستثمارات الروسيّة، أتت الكارثة برغبة وزارة النقل في إيجاد مستثمر يليق بمطار دمشق الدوليّ الذي يبعد عن العاصمة 25 كيلو متراً. وهي ليست المرة الأولى التي تحاول جهة حكومية خلط الأوراق، دون أن تخشى من الذنب الاقتصادي الكبير الذي تقترفه، وتتهرّب من تبعات ذلك عبر صوغ موقف استثماريّ منفتح، لكن في القطاع السياديّ الذي يشكّل أمناً وطنياً، وهو النقل الجوّي.
المطار تحت الطلب:
أصدرت وزارة النقل السوريّة في 20 أيار الجاري بياناً توضيحياً، أكّدت فيه نفيها "وجود مفاوضات حول استثمار مطار دمشق الدوليّ من قِبَل أي جهة كانت". لكن لغة البيان الواضحة، وعباراته المصاغة بدقّة تدلّ على أن استثمار المطار من قِبَل أي جهة أمر غير مرفوض، بل هو مُتاح وفق نظام ( B.O.T )، وهذا ما يعكس موقف الوزارة المذكورة، وبالتالي موقف الحكومة السوريّة من الاستثمار في البلاد، والاستعداد لطرح أي منشأة أمام المستثمرين. إذ بعد مطار دمشق الدولي لن يكون هناك من يحزن على طرح منشأة أخرى، أو يذرف دمعة على تخلّي الحكومة عن منشآت الدولة.
وجاء في البيان، الذي كان يُراد منه حسم الجدل، وتخفيف حدّة الانتقادات في الشارع السوريّ لاسيّما الاقتصادي منه، حول طرح المطار على الاستثمار، جاء فيه "إن الانطلاق بالاستثمار بدأ من ميناء طرطوس، ومن الممكن أن يطبّق على استثمارات أخرى بما يضمن الارتقاء بواقع هذه القطاعات، وبما يحقّق الفائدة للطرفين". وهذا كلام لايقبل التأويل، ودلالته ومضامينه شديدة الوضوح، بل هو دعوة صريحة لخوض تجربة هي الأولى من نوعها باستثمار مطار دولي في سورية أو غيره من المنشآت، بل هو الاعتراف الحكومي الأوّل، بالرغبة العارمة في طرح المطار على الاستثمار.
شرط المنفعة:
رَمَت وزارة النقل بالون اختبار، عبر تصريح لمدير مطار دمشق الدولي نضال محمد بإمكانية استثمار شركات روسية للمطار. وبرّر المدير موقفه بجملة عوامل أبرزها: إن حالة المطار "متردّية" على المستويين الفنّي والخدمي، وأن الحكومة "عاجزة" عن إصلاحه. ووصف الخدمات في المطار "بالسيّئة". ولم يجد محمد، في موقف غير اعتيادي، "ما يمنع" من استثمار مبنى المطار من قبل شركة أجنبية. إلا أن ردّة الفعل المستهجنة دفعت بالوزارة إلى توضيح الواضح، والعودة إلى تأكيد المؤكّد، دون أن تكذّب مديرها. إذ أنها أعادت نشر معلومات عن مباحثات سابقة مع شركات روسيّة راغبة في تطوير واستثمار المطار، وهو ما يتناقض مع بيانها، وينسف المفاوضات التي جرت مع الجانب الروسي ( وسنأتي على ذكرها لاحقاً) والعروض المقدّمة للاستثمار. إذاً استعدّوا أيها المستثمرون، فالفرصة مواتية، والحكومة السوريّة لا ترفض مشاركتكم باستثمار المنشآت العامّة، شريطة تحقيق المنفعة.
عجز حكوميّ:
قضيّة مطار دمشق الذي بُني 1970 مثيرة للتساؤلات، إذ أن حكومة عماد خميس وخلال الفترة الماضية، أقرّت العديد من التوجّهات الرامية إلى البحث عن مكان جديد لبناء مطار جديد لدمشق بدلاً من المطار الحالي الذي تبلغ قدرته الاستيعابية 5 ملايين مسافر سنوياً، إضافة إلى إعداد دراسات لتطوير وتأهيل المطار لتصل قدرة المطار السنوية إلى 25 مليون مسافر. وباشرت وزارة النقل باتّخاذ هكذا إجراءات، وتوصّلت إلى اقتراح موقعين بديلين من الممكن أن يكون أحدهما مقرّاً للمطار العتيد. لكن في الوقت عينه، تفاوضت الوزارة مع شركات روسية لاستثمار المطار. اللافت أن موقف الحكومة غير واضح. وحسب الخبير الاقتصادي إبراهيم زين الدين من المفترض أن تقرّر الحكومة ما تريد فعله، هل تريد تأهيل المطار الحالي؟ ومَن سيقوم بذلك؟ أم أنها ذاهبة إلى بناء مطار جديد بمواصفات المطارات العالمية؟ حتى اللحظة تناور الحكومة على الأمرين، وهذا يُعدّ ضعفاً في اتّخاذ القرار، وعدم قدرة على معرفة المطلوب. ويتابع زين الدين في حديثه لــ (صُوَر) أخطر ما يتعرّض له الاقتصاد هو غياب الرؤية والأهداف، والواضح أن الحكومة الحالية تعمل كحكومة تصريف أعمال لاتمتلك القرار، ولا يوجد لديها نهج اقتصادي ورؤية استثمارية وموقف تجاه العملية التنموية، كما أنها لاتمتلك المال اللازم للبناء أو إعادة التأهيل، وما عدا ذلك ربما تكون حكومة مغلوبةً على أمرها.
منتصف العصا:
تعاملت الحكومة مع قضية المطار بوجهين مختلفين، الأوّل إعادة التأهيل، والثاني الرغبة ببناء مطار جديد. إذ أنها وضمن بروتوكول اجتماعات الدورة الـحادية عشرة للجنة المشتركة السوريّة الروسيّة المنعقدة في كانون الأول 2018 ناقشت تأهيل مطارَي دمشق وحلب، وكان الجانب الروسي خلال المباحثات الفنّية المنعقدة بدمشق في تشرين الثاني 2018، عرض إعادة تأهيل المطارين وفق نظام (BOT). وهذا ما أكّدته وسائل إعلام روسيّة آنذاك. لكن حساسية المطار كمرفق سياديّ دفع بالحكومة إلى مسك العصا من منتصفها، فهي تارة تتحدّث عن طرحه للاستثمار، وتارة أخرى تعقد العزم على إعادة تأهيله محلّياً. وهو برأي الخبير زين الدين موقف ناجم عن ردّة فعل الشارع الرافض للاستثمار، وعدم وجود عروضات ثمينة مقنعة استثمارياً ومالياً حتى الآن.
قصّة المطار:
دفعت الحكومة جهودها باتّجاه طمأنة الشارع السوريّ بأنها ماضية قُدُماً في اتّجاه معالجة مشكلات مطار دمشق الدوليّ الذي يقع جنوب شرق دمشق، وراحت تبثّ الأخبار تباعاً عن رغباتها في هذا الشأن، قبل أن تنقلب على كل ذلك، وتنفض يديها من إصلاح المطار وإعادة تأهيله، ورمي الكرة في ملعب الاستثمار. وما جرى خلال العامين المنصرمين يوضح قطعيّاً أن وزارة النقل والحكومة لا تنقلان ما يحدث للمواطن السوريّ في هذا الشأن، بل ثمّة تناقضات صارخة بين ردّ وزارة النقل الذي اكتفى بنفي الموافقة لشركات روسية على استثمار المطار، وسلسلة مباحثات جرت بهذا الخصوص.
حكاية بيع الوهم:
طلب مجلس الوزراء في تموز 2017 خلال جلسة للمجلس من وزارة النقل إعداد دراسة لمشروع إحداث مطار جديد بدمشق. وبشكل سريع كلّف وزير النقل في اجتماع في 10 تموز 2017 المؤسّسة العامة للطيران المدنيّ بالتعاقد مع شركة متخصّصة لدراسة إنشاء صالة ركّاب جديدة في المطار وتوسيعه. هذا التناقض لم يكُ وليد اللحظة، بل هو إعادة خلط الأوراق، ورمي طعم استثماريّ مُغْرٍ لمستثمر مفترَض. انتهى 2017 عند هذا الحدّ، ليعلن وزير النقل علي حمود في نيسان 2018 أن وزارته بصدد إقرار موقع جديد للمطار بعد أن اختارت هيئة التخطيط الإقليميّ موقعين جديدين. ووافقت وزارة النقل مطلع العام الجاري على خطّة لتطوير وإعادة تأهيل المطار بكلفة 3.1 مليار ليرة. كما أجرى وزير النقل في 15 كانون الثاني المنصرم مباحثات مع وفد من حزب روسيا الموحّدة، الذي ضمّ مديري الشركات المهتمّة بالمطارات، شملت مشاركة الشركات الروسيّة في أعمال تطوير بنية المطارات المدنية. وصرّح عضو الوفد وعضو مجلس الدوما ديمتري بيليك أن "مستثمرين من بلاده ينظرون في المشاركة في أعمال تطوير مطار دمشق الدولي". لكنّ النقطة المفصليّة جاءت في تصريح لوزير النقل حمود في 23 كانون الثاني الماضي بأن وزارته تلقّت عرضاً من مستثمرين روس لتوسيع مطار دمشق الدوليّ. وهذا يتناقض كلّياً مع ماورد في ردّ وزارة النقل الذي نفت فيه وجود مفاوضات لاستثمار المطار المدنيّ الأوّل في البلاد. لكنّ مدير المطار نضال محمد كان قد صرّح لاذاعة محلّية سوريّة "بأن الشركات الروسيّة حصلت على معطيات عن المطار من أجل استثماره".
المفاوضات غير معطّلة:
هذا السرد الموثّق ينسف ردّ وزارة النقل التي تحدّثت فيه عن عدم وجود أية مفاوضات حول استثمار المطار، وقالت فيه "إنه حتى تاريخه (20 أيار)، لا يوجد أي مفاوضات حول استثمار مطار دمشق الدوليّ أو غيره من المطارات السوريّة المدنيّة من قِبَل أي جهة كانت". فيما الجانب الروسيّ قدّم عروضه، وحصل على معلومات تتطلّبها عملية الاستثمار وتقديم العرض. وتفيد مصادر خاصة لـ (صُوَر) أن مفاوضات استثمار المطار غير معطّلة، لكنّ الحكومة تدرس خيارات متعدّدة، وهي بذلك انتقلت من مرحلة إقرار إمكانيّة طرح المطار على الاستثمار إلى دراسة عروض بعينها، وهي حتى الآن روسيّة ـ أو انتظار عروض أخرى لاسيّما الإيرانية التي تستحوذ على المطار منذ أكثر من خمس سنوات.
المزاد المُنتظَر:
يشكّل مطار دمشق الدوليّ علامة فارقة بالنسبة للاقتصاد السوريّ، فضلاً عن كونه مرفقاً سياديّاً بحتاً. وإذ يرى الشارع السوريّ أن طرح المطار على الاستثمار بعد ميناء طرطوس "تفريطاً" غير مقبول بحقوق وطنية، تمضي الحكومة في موقفها إلى الأمام، وهي من خلال ردّها الغامض على تساؤلات الشارع، تبنّت دعوة صريحة، وموقفاً واضحاً برغبة عارمة في طرح المطار على الاستثمار، كونه أقصر الطرق لاعادة تشغيل المنشآت السوريّة، وربما بدأت تظهر أثمان أوّلية لمرحلة ما بعد الحرب. وهناك من ينتظر سماع صوت منظّم المزاد ينادي "ألا أونا.. ألا دو.. ألا تريه" ويعلن اسم صاحب الحقّ باستثمار مطار دمشق الدوليّ.
- - - - - - - - - - - - - - -
الروس يسيطرون على ميناء طرطوس
تحدّيات السوريّين في مواجهة التحدّيات الاستعماريّة
مؤيّد الشيخ حسن
أعلنت الحكومة الروسيّة عن الاتفاق مع حكومة النظام السوريّ على استثمار واستئجار ميناء طرطوس البحريّ لمدّة 49 عاماً، وتلا الإعلان الذي جاء بشكل لافت من الطرف الروسيّ أوّلاً، تصرح وزير النقل بحكومة النظام علي حمود عن توقيع عقد استثمار الميناء مع شركة "ستروي ترانس غاز" الروسيّة، كما نقلت الشركة العامّة لمرفأ طرطوس خبر المشروع بشكل مُقتضَب جاء فيه "استكمالاً للمشاريع الاستثمارية المعدّة وفق قانون التشاركيّة، ناقش مجلس الوزراء مشروع إدارة واستثمار وتشغيل مرفأ طرطوس من قِبَل الأصدقاء في جمهورية روسيا الاتحادية وتطويره؛ ليصبح منافساً على المستوى الإقليميّ، ويسهم بتحقيق جدوى اقتصادية وتعزيز الإيرادات المالية التي تعود بالفائدة المشتركة".
شكّل الإعلان صدمة للشارع السوريّ، والذي يتزامن مع أزمة خانقة تعيشها مناطق سيطرة النظام نتيجة شحّ حوامل الطاقة وعلى رأسها البنزين.
وتدور تساؤلات جدّية عن أسبابه وغاياته، هل يأتي القرار كمحاولة للالتفاف على العقوبات لتخفيف الضغط عن الحكومة والشعب، أم أنها استكمال لاقتسام الكعكة السوريّة بين الدول التي وقفت إلى جانب النظام، وكترتيبات بين الروس والإيرانيين لاقتسام مقدّرات سوريا تسبق الحلّ السياسيّ الذي يجري الحديث عنه، أم أنه يأتي في إطار استكمال التنازل عن المرافق السياديّة والحيويّة في سوريا لقاء بقاء نظام الأسد.
يقول المحلّل الاقتصادي محمود الحسين لمجلّة صُوَر "شكّلت الاتفاقية صدمة جديدة تضاف للصدمات التي تتعرّض لها سوريا، عقد الاستئجار هذا يحوّل الميناء إلى شبه مُلكيّة تابعة للحكومة الروسيّة والشركة المتعاقدة، يحقّ لها أن تتصرّف به كما تشاء، وبالتالي فإن الأمر يشبه اقتطاع قطعة أرض سوريّة وتسليمها لجهة أجنبية، ولكن أي أرض هذه، ميناء يُعتبَر من أهمّ المرافق السياديّة للدول، تعود بإيرادات كبيرة لخزينة الدول التي تحترم سيادتها".
ويشدّد الحسين على القول إن “الاتفاقية ليست عقد إدارة وتشغيل أو استثمار، الأمر الذي يعيدنا لأشكال الاستعمار القديم، عندما كانت الدولة المستعمرة، تتصرّف بمقدّرات المستعمرات دون وجود أي فائدة للسكّان الأصليين".
الأثر الاجتماعيّ:
خلّف الإعلان عن الاتفاقية حالة بلبلبة في المجتمع المحلّي في المدن الساحلية، لأنه يضاف للمساحات التي تُضمّ للسيطرة الروسيّة، كما تدور مخاوف حول مستقبل عمل خمسة آلاف من الموظفين بين عقود دائمة ومؤقّتة، في ضوء الحديث المتزايد عن احتمالية الاستغناء عن حوالي ثمانين بالمئة منهم، واختيار الأفضل للخضوع لدورات تعلّم اللغة الروسيّة، ودورات اختصاصية للعمل مع الإدارة الجديدة.
من جانب آخر يقول الناشط جميل الطرطوسي لمجلّة صُوَر "تدور مخاوف أخرى في أوساط شركات النقل والتجارة البحرية المتوسّطة وصغيرة الحجم من القادم، في ضوء الحديث المتزايد عن العقوبات الاقتصادية من الولايات المتحدة وإصدار قوانين جديدة أكثر تشدّداً، ممّا يهدّدها بالإفلاس بشكل كامل".
ويتابع الطرطوسي "رغم أن أهالي الساحل يحترفون البحر مند آلاف السنين، لكننا منذ استلام حافظ الأسد، لم نعد أسياد بحرنا، دائماً كنّا محاصرين بالقوانين الجائرة وغير العادلة، إضافة لدعم الحكومات المتعاقبة دخول من هو مقرّب من الأجهزة الأمنيّة للعمل سواء في الصيد أو التجارة البحرية أو الملاحة وغيرها من الاستثمارات المتعلّقة بالبحر".
ويضيف "كانت السلطات تدعم طبقات جديدة من المافيات لتسيطر على الموانئ، وتغضّ الطرف عن إنشائها لموانئ جديدة صغيرة وغير مرخّصة تعمل تحت سيطرة ميليشيات الشبّيحة التي أسّست لهذا الغرض، وليتحوّل البحر شيئاً فشيئاً لبوابة للتجارة غير المشروعة، كتهريب المخدّرات والدخان".
يقول أحد الموظفين المتقاعدين في المرفأ لمجلّة صُوَر "عملت فيه 35 عاماً، لم يستلم الإدارة سوى المرتشين والفاسدين، كان هناك صراع محتدم لاستلام إدارته، يلجأ الموظّفون لطلب وساطات شخصيّة من الرئيس حافظ الأسد من أجل الترفيع الوظيفيّ، كلّ هذا من أجل الحصول على أموال بطرق غير مشروعة وتلقّي الرِّشى والإتاوات".
ويتابع الموظف كلامه بحسرة “ميناء طرطوس هو ثروة وطنية، لمن يعرف استثماره وإدارته، خصوصاً عند ربطه بشبكة مواصلات برّية وسكك قطارات متطوّرة تشمل كل أنحاء البلاد، لكن الحكومة منذ عشرات السنين لا تتحدّث عن أهمّيته حتى لا ندرك مدى غنى البلد الذي ولدنا به".
الأهمّية الإستراتيجيّة:
بالسيطرة على ميناء طرطوس تكون الحكومة الروسيّة قد سيطرت على مساحة 30 كيلو متراً مربعاً، ووضعت يدها على ميناء بحريّ هامّ في حوض البحر الأبيض المتوسّط.
ومن ناحية العقوبات الأمريكية المتزايدة على سوريا، ورغم عقد الاستئجار المجحِف، فإنه ما يزال قانونياً أرضاً سوريّة، وبالتالي سوف تشمله العقوبات وتشمل جميع ما يخرج ويدخل إليه.
في حين يرى محلّلون أن أحد الأسباب التي دفعت النظام للقرار بنقله للإشراف الروسيّ المباشر، كونها دولة عظمى يمكنها مواجهة العقوبات الأمريكية، أو تستطيع مستقبلاً إيجاد حلول تفاوضية أو طرقاً التفافيّة، كونها صاحبة مصلحة اقتصادية مباشرة.
يقول المحلّل الاقتصادي محمود الحسين لمجلّة صُوَر " على خلاف الشائع بيننا، فإن ميناء طرطوس يُعتبَر من أهمّ الموانئ في المنطقة، بالمقارنة مع موانئ مشابهة أقلّ حجماً وأعلى بكثير من حيث المردود الاقتصادي، كانت هناك سياسات حكومية متعمَّدة لعدم ذكر أهمّية البوّابات البحرية، تكمن الأهمّية الإستراتيجيّة له بسبب مجاورته واتّصاله بمرفأ ومصفاة بانياس النفطيّتين المربوطتين مع منابع النفط، كما تمّ في السنوات الأخيرة وصله مع مصفاة حمص بواسطة شبكة أنابيب تضخّ بشكل عكسيّ ذهاباً وإياباً، الأمر الذي يجعلنا أمام شبكة ربط متكاملة بين منابع النفط الخام في شرقي وشمالي شرقي سوريا ومصافي التكرير والموانئ، ما يسهل من خلاله الوصول لدول البحر المتوسط والاتحاد الأوروبي، إضافة لكونه واجهة اقتصادية كبيرة لسوريا ودول الجوار".
ويضيف "تحاول الحكومة الروسيّة السيطرة على المفاصل الرئيسية في سوريا بها، وتجهد لربط عجلة الاقتصاد السوريّ بها، كما تسعى في نظرة إستراتيجية طويلة الأمد لتكون قواعدها على المياه الدافئة، رأس حربة سياسية واقتصادية متقدّمة للضغط على أوروبا ودول البحر الأبيض المتوسّط، في حال رضخت واضطرّت لتقديم تنازلات دولية كبيرة خصوصاً للاتحاد الأوروبي في موضوع أزمة القرم".
يقول الحسين لصُوَر "منذ وقت ليس بطويل وقّعت جهات روسيّة عقوداً لاستكشاف الغاز مقابل السواحل السوريّة، ورغم تعثّر أعمال الحفر والاستكشاف، إلا أنها تتمّ بوتيرة سريعة وسرّية. المصالح الدولية ترى الأمور بمنظار مختلف، وأحياناً تنظر للمنطقة بشكل كامل، وليس للدول والحدود الجغرافيّة، الحديث عن اكتشاف الغاز مقابل الساحل الشرقي للمتوسط، واكتشاف حقلين كبيرين في المياه الإقليمية المقابلة لإسرائيل ومصر، جعل شركات النفط العالمية تتنافس للدخول واستكشاف منطقة شرق المتوسط بأكملها، ومنها الشركات الروسية التي تتشارك في عقود الحفر والاستكشاف في المياه الإقليمية والقبرصية والمصرية والإسرائيلية، وتتشارك مع شركة توتال الفرنسية في أعمال الاستكشاف قبالة السواحل اللبنانية".
ويضيف الحسين "هناك سباق محموم بين الشركات الروسيّة والقادمة من الاتّحاد الأوروبيّ، وتسعى الأخيرة للسيطرة على العقود لدعم دول أوروبا في جهودها للتخفيف من اعتماد الاتّحاد الأوروبيّ على الغاز القادم إليها من روسيا".
بالمقابل يرى محلّلون آخرون أن كمّيات الاحتياطيّ المتكشَف حتى اليوم عبارة عن كمّيات قليلة، فالكمّيات التي يمكن استخراجها بناء على الدراسات الأوّلية، تعادل ربع احتياطيّ دولة قطر بالحدّ الأعلى، وإن قامت كل دولة بتصديره على حِدة، فلن يكون ذا مردود اقتصاديّ عالٍ نتيجة الكلفة العالية لبناء البنية التحتية، وبالتالي لن يكفي حتى الاستهلاك المحلّي لدول المنطقة.
في اتّجاه آخر ووسط الحديث عن الصراع المحتدم بين الإيرانيين والروس للسيطرة على مقدّرات سوريا، يقول مصدر يعمل في وزارة الاقتصاد التابعة للحكومة السوريّة (فضّل عدم ذكر اسمه للضرورة الأمنيّة) لمجلّة صُوَر إن "الصراع سوف يحتدم في الأشهر المقبلة حول السيطرة على الميناء الآخر في اللاذقية، مع قرب انتهاء عقد الشركات المتعاقدة لاستثماره من ضمنها شركة فرنسية وشركة شام القابضة التي يرأس مجلس إدارتها رامي مخلوف ابن خال رأس النظام السوريّ بشار الأسد، وأن الروس لا ينظرون بعين الرضى إلى المساعي الإيرانية للسيطرة على ميناء اللاذقية، وأنهم يوجّهون نصب أعينهم عليه للدخول باتفاقية مشابهة لميناء طرطوس، مستغلّين عجز إيران الاقتصادي المتسارع بسبب العقوبات عليها، إضافة لاحتمالية استهدافه من قِبَل إسرائيل بذريعة استخدامه لأغراض عسكرية".
هل يمكن التراجع عن الاتّفاقيّة؟
ترتبط الاتّفاقيّات الاقتصادية الموقّعة بعد الانفجار السوريّ في عام 2011، بمصير وشكل الحلّ السياسيّ القادم بشكل مباشر، ففي حال بقاء نظام بشار الأسد بشكله الحالي أو مع إجراء تعديلات بسيطة لا تستهدف بنيته الأساسية، فإن هذه الاتفاقيات ستبقى سارية المفعول، خصوصاً أن الدول التي وقفت إلى جانبه لن تقبل بالخروج خالية الوفاض، وتريد مقابلاً مادياً واقتصادياً كبيراً لقاء ما قدّمته من خدمات له.
أمّا في حال وصول حكومة جديدة، فسوف تزيد هذه الاتفاقية من الأعباء الملقاة على عاتقها، لإرجاع الميناء لدائرة خدمة المصلحة الوطنية، وتدور مخاوف كبيرة لدى المتابعين من إمكانية اشتراط الحكومة الروسيّة مستقبلاً في حال قرّرت التنازل عن بشار الأسد كرئيس للبلاد، أن يستمرّ سَرَيان الاتفاقيات كضريبة للتخلّي عنه، الأمر الذي يعقّد المشهد لأمد طويل نتيجة عدم امتلاك القرار السياديّ والاقتصاديّ على ثروات سوريا وعلى مفاصلها الحيويّة.
ويرى المحامي عبد القادر جمول "أن هناك ترابط وثيق بين شكل الحكم القادم وعودة هذا الميناء وغيره من الثروات الوطنية لتكون نواة مشروع وطنيّ حقيقيّ يدعم الاقتصاد الوطنيّ"، ويتابع "ما نشهده الآن هو بيع آخر مقدّرات سوريا، بعد أن تمّ بيع الفوسفات وأهمّ شركات القطاع العام، والصراع جارٍ على أشدّه على قطاع النفط، وبالتالي ستواجه أي حكومة مقبلة ستستلم زمام الأمور بعد الحلّ السياسيّ، بلداً منزوع المخالب الاقتصادية، الأمر الذي سوف يزيد من ضعف البلد".
ويضيف "هناك أعباء جِسام علينا، بدءاً من الآن يجب أن نعمل على توثيق كل هذه الاتفاقيات بشكل احترافيّ، وأن نخاطب الحكومات والمنظّمات الإنسانية والحقوقية لهذا الغرض، ومن الضروري جداً طرح هذا الموضوع والاتفاقيّات المشابهة كجزء من المفاوضات في جنيف وأستانا، والتي تتمّ برعاية دوليّة".
ويتابع "يمكن مستقبلاً أيضاً أن نلجأ للمحاكم الدولية المختصّة، مع عدم إمكانيّة اللجوء للأمم المتحدة نتيجة لغياب الاختصاص، وعدم إمكانية تدخّلها في العقود الموقّعة بين الدول، فمكاتبها المختصّة هي مساحات لحفظ هده الاتفاقيّات، ولضمان عدم تلاعب أي جهة من الأطراف المتعاقد عليها ببنود الاتفاقيّات".
عودة تاريخيّة:
تُعدّ مدينة طرطوس من أقدم مدن الشرق الأوسط، والتي بنيت كونها مشرفة على ساحل البحر المتوسّط، وقد احترف سكانها الملاحة البحرية منذ أيام الحضارة الفينيقية، وفي أيام الدولة الرومانية، كان ساحلها عقدة تجارية هامّة بين موانئ البحر المتوسّط كاملاً، ولا تزال آثار المرفأ الروماني ماثلة للعيان حتى يومنا هذا.
وفي العصر الحديث قرّرت الحكومة السوريّة بداية ستّينيات القرن العشرين تأسيس مرفأ جديد، فطرحت مناقصة دولية، ربحتها شركة "كامب ساك" الدنماركية المختصّة بتصميم وبناء المرافق البحرية التي قامت بوضع التصميم المتكامل للميناء، ونفّذه عدد من الشركات الأجنبية والعربية، لتنتهي أعمال البناء في عام 1966، ليباشر العمل فيه في تموز من نفس العام، كما أحدثت بموجب المرسوم الجمهوري رقم 314 لعام 1969 الشركة العامّة لمرفأ طرطوس لتكون الجهة المشرفة والمسؤولة عنه.
تبلغ مساحة المرفأ بشكله الحالي 3 ملايين متر مربع، 1.2 مليون متر مربع منها مخصّصة للمراسي والمغاطس، و1.8 متر مربع عبارة عن مستودعات وساحات وأبنية إدارية، وفيه 22 رصيفاً، كما يحتوي على صوامع لتخزين الفوسفات والقمح وغيرها من المواد الأساسية.
وتضمّ طرطوس ميناء عسكرياً، وتضمّ شواطئها المجاورة في مدينة جبلة مقرّاً لقوات البحرية ومقرَّ الكلية البحرية.
وكانت الحكومة السوريّة قد وقعّت عام 1971 اتّفاقية مع الاتحاد السوفيتي لبناء قاعدة عسكرية بحرية سوفييتية تكون ركيزة عسكرية متقدّمة على شواطئ البحر المتوسّط في أيام الحرب الباردة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومع انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية عام 1991، أصبحت القاعدة شبه فارغة، بقي فيها قرابة خمسين عسكرياً روسيّاً يتناوبون عليها، مهمّتهم الأساسية هي صيانة السفن العسكرية الروسيّة والسوريّة، إضافة لتدريب القوات البحريّة.
- - - - - - - - - - - - - - -
القمح السوريّ استمرار الاستيراد... ومخاوف من رفع الدعم عن الخبز
لبنى سالم
في العام الثامن من الصراع السوريّ، يعود للواجهة الحديث المتكرّر عن أزمة القمح ومخاطر الأمن الغذائيّ وضرورة إيجاد حلول إسعافيه لتأمين احتياجات السوريّين، رغم التوقّعات بتحسّن نسبيّ للإنتاج هذا العام، بسبب الأمطار الغزيرة التي هطلت خلال الشتاء، وعودة الهدوء الأمنيّ النسبيّ لبعض المناطق.
وفي سياق ذلك أعلنت مؤسّسة تجارة وتصنيع وتسويق الحبوب التابعة لحكومة النظام خلال شهر آذار الفائت عن شراء مئتي ألف طن من قمح البحر الأسود، عن طريق مناقصة عالمية تمّ طرحها، لم يتقدّم لها سوى بضع شركات. وتأتي الصفقة كخطوة تالية لصفقة تمّ عقدها في شهر شباط الماضي لشراء نفس الكمّيّة.
يقول محمد السموني وهو مهندس زراعي لمجلّة صُوَر "أعلنت الحكومة عن خطّة لاستيراد 600 ألف طن من القمح على ثلاث مراحل، وفي آذار تمّت المناقصة الثالثة".
ويتابع السموني "حسب الأرقام الحكومية فإننا بحاجة سنوياً لحوالي لـ 2.5 مليون طن من القمح، تؤمَّن من الإنتاج المحلّي، ويُستورَد الباقي، في العام الماضي استوردنا نحو 1.5 مليون طن ".
يضيف "بلغ الإنتاج المحلّي في سوريا قبل 2011حوالي 4.2 مليون طن، وكنّا نصدّر منها 1.7 مليون طن، ما جعلنا ضمن قائمة الدول المتمتّعة بالأمن الغذائي، أمّا اليوم في ظلّ ما نعيشه فإننا تراجعنا كثيراً، مع تراجع المساحات المزروعة ووجود ملايين من السوريين النازحين، الذين تخطّى الكثير منهم حدود الفقر".
تحذيرات دوليّة
في أحدث تقاريرها أعلنت منظّمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "فاو" في تشرين الثاني من عام 2018، أن أحوال الطقس المتطرّفة تسبّبت بانخفاض الإنتاج المحلّي للحبوب.
وحسب التقرير الذي نشرته "الفاو" بالتعاون مع برنامج الأغذية العالميّ، فقد انخفض إنتاج القمح عام 2018 إلى أدنى مستوياته منذ 29 عاماً عند 1.2 مليون طن، أي حوالي ثلثي مستوياته في 2017. وبرّرت ذلك إلى امتداد فترة الطقس الجاف في وقت مبكر من موسم الزراعة، تلاها هطول غزير غير موسميّ للأمطار.
المزارعون
رغم التحسّن النسبيّ للأوضاع الأمنيّة في بعض المناطق كأجزاء من محافظة الرقة ودير الزور وأرياف دمشق وحمص، وبدء عودة الناس إليها، لم تتمكّن عجلة الزراعة من الدوران مجدّداً.
وتستمرّ معاناة مزارعي الحبوب والقمح، يقول أبو عبد الله من سكان ريف الرقة "بعد تحرير المنطقة من داعش عدت لقريتي لأجد أن بيتي شبه مدمّر، بدأنا بترميمه بما نملك من أموال، أمّا أرضي التي كانت مصدر رزقنا، فأصبحت جافّة قاحلة، حذّرنا المجلس المحلّي من الألغام التي زرعتها داعش، لذلك يتوجّب عليّ استئجار خبير لكشف الألغام أو انتظار المختصّين المتعاونين مع المجلس المحلّي لمسح الأرض والتأكّد من خلّوها من الألغام والمتفجّرات".
ويتابع "يعاني زملائي المزارعون من غلاء الأسمدة والمبيدات الحشَريّة، والتي غالباً ما تكون مستوردة، بعد توقّف الإنتاج المحلّي، أسعار الأسمدة باهظة، وتضاعف سعرها بما يزيد عن عشرة أضعاف خلال خمس سنوات، إضافة لغياب الأنواع الجيدة التي كنّا نستخدمها كالفرنسية والأمريكية، واقتصار الصيدليات الزراعية على بيع الموادّ ذات المنشأ الهندي والإيراني والأوكراني، ممّا يعرّض محاصيلنا للمخاطر بسبب عدم الوثوقيّة من نوعيّة الأسمدة والمبيدات".
ويضيف "تقطّع أوصال سوريا بين عدد من مناطق النفوذ، يزيد من أعباء تسويق المحاصيل، فنقلها مثلاً من مناطق سيطرة قسد والمعارضة إلى مناطق النظام، تكلّفنا مبالغ كبيرة، يتوجّب علينا تحمّلها إضافة لدفع إتاوات للحواجز المنتشرة في كل مكان، ونتيجة لهذه الظروف نضطرّ لبيع المنتجات للسلطات المحلّية بالسعر الذي تحدّده، ففي مناطق النظام يجب بيعها للجمعيّات الفلاحية التي تدفع أبخس الأسعار، وفي مناطق سيطرة المعارضة علينا بيعها للمجالس المحلّية والمنظّمات التي تدفع سعراً أفضل من غيره في المناطق الأخرى، بسبب اعتمادها على المساعدات الدولية، أمّا في مناطق قسد فيُجبَر المزارع على تقديم كمّيات محدّدة من إنتاجه كضريبة للسلطات المحلّية كل حسب المساحة المزروعة".
مزارع آخر في ريف حمص يقول لمجلّة صُوَر "كثير من المزارعين يعتمدون على الزراعات المرويّة إلى جانب البعليّة، لكن أزمة المحروقات الحالية، وارتفاع أسعارها، ستجعل زراعتنا خاسرة في حال استمرارها، أفكّر مستقبلاً ببيع أرضي أو تسليمها لمتعهّد لبناء مساكن عليها، وسأترك قطعة أرض صغيرة لزراعة الخضروات اللازمة لاستهلاكنا المنزليّ، وسأهجر زراعة القمح والشعير التي احترفتها منذ زمن بعيد، وكانت مصدر رزقي، ربّيت فيها ثمانية أولاد".
جهود لعودة إنتاج البذار
اضطرّ عدد من مراكز الأبحاث الدولية التي طالما عُرفت بإنتاج أنواع من البذور تصدّر للكثير من دول العالم. فعلى سبيل المثال في عام 2012، أغلق المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافّة المعروف اختصاراً بـ "إيكاردا" في ريف حلب أبوابه، وقام الخبراء الأجانب المتواجدون فيه بنقل المخابر والبيانات والكثير من البذور المنتجة لدول أخرى أبرزها المغرب، كما استُحدث بنك بذار جديد في لبنان ليكون بديلاً عن البنك الموجود في حلب.
وبعد تمكّن المعارضة من السيطرة على المنطقة بشكل كامل، والاستقرار الأمنيّ النسبيّ فيها، أطلق مجموعة من المهندسين والخبراء الزراعيين منذ عدّة أشهر تجمّعاً يسمّى "تجمّع التنسيق الزراعي في منطقة إيكاردا"، بهدف إعادة تفعيل المركز، والبدء من جديد باستنبات واستنباط بذور جديدة مناسبة لمناخ وتربة المناطق خارج سيطرة النظام، إضافة للبحث عن جهات دولية لدعم جهودهم العلمية والزراعية.
ويتعاون التجمّع مع المؤسّسة العامّة لإكثار البذار التي تأسّست قبل عدّة سنوات في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والتي كانت تتبع للحكومة السورية المؤقّتة سابقاً، وتتعاون مع وحدة تنسيق الدعم لدعم الزراعة وتطويرها.
أمّا المركز العربي للدراسات الجافّة والقاحلة التابع لجامعة الدول العربية ومقرّه ريف دمشق، فقد تأثّر كثيراً بما حصل في سوريا، واضطرّ عدد كبير من كوادره لتركه والانتقال خارج سوريا، كما تعرّضت غالبية المراكز والبالغ عددها عشرة في مختلف أنحاء البلاد، للقصف والاستهداف المباشر، إضافة لنهب عدد منها، كما تراجع عدد البحوث التي ينفّذها، وانخفضت أعداد الدورات التدريبية التي كانت تقدّم للفنيّين والسوريّين.
مخاوف من انقطاع دعم قوت السوريّين
تكرّر وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك التابعة لحكومة النظام، التصريح بوجود دراسات وخطط لرفع الدعم عن مادّة الخبز، القوت الأساسي للسوريّين، ليصل سعرها رسمياً إلى حوالي 200-250 ليرة، مقابل توزيع مبلغ 1500 ليرة كدعم لكل فرد من أفراد الأسرة.
هذه المخاوف تزايدت الأسابيع الماضية، بسبب أزمة الوقود الحالية وصدور ما يُعرَف بـ "البطاقة الذكية"، والتي تخصّص الوقود بكمّيات محدّدة شهرياً لمالك السيارة الخاصة أو سيارة الأجرة بسعر مدعوم، وأي استهلاك يزيد عنها يرغب المواطن بشرائها، سوف يتمّ بيعها له عن طريق القطاع الخاصّ.
تقول السيدة أمّ عمر (سيدة خمسينيّة من حيّ المزة الدمشقي) لمجلّة صُوَر "رفع الدعم عن الخبز سوف يحوّلنا لجياع، بعد ارتفاع أسعار اللحوم والأجبان والخضار والفواكه، سيأتينا الخبز، كارثة كبيرة لنا، وكأن الحكومة تقول لنا، اتركوا سوريا وسافروا نحو المجهول".
وتتابع "لا أعرف ماذا تبقى لنا هنا، الفساد منتشر في كل مكان، وجنون في الأسعار، كل شيء يزداد سعره إلا المواطن السوريّ ينقص سعره وقيمته، ورواتبنا على حالها منذ عدّة سنوات، ماذا يجب علينا أن نفعل؟ هل المطلوب منّا أن نسرق؟ أم علينا إجبار أولادنا على ترك مدارسهم والتطوّع مع الميليشيات وجيش الدفاع الوطني، ويذهبون لتعفيش بيوت السوريّين في المدن الأخرى!".
أمّا أبو كمال خبّاز من مدينة حمص فيقول لصُوَر "قبل عدّة سنوات كنّا نتقاضى أجرة خَبْز قطعة الفطائر ليرة سورية واحدة، أمّا اليوم فأجرتها عشر ليرات، نضطرّ لشراء المازوت من التجّار، الأمر الذي يدفعنا لزيادة الأسعار، ما نمرّ به دفعَ الكثيرين للاستغناء عن الخبّازين، كما دفع بعضنا لتحويل الأفران لتعمل على الغاز، وأدّى إلى تراجع نوعيّة المنتجات، من ناحية المذاق خصوصاً".