info@suwar-magazine.org

المنفعة والمعايير الأخلاقيّة

المنفعة والمعايير الأخلاقيّة
Whatsapp
Facebook Share

 

المنفعة مفهومٌ ليبراليّ، بل هو واحد من أهم المفاهيم الليبرالية؛ ومفهوم العمل النافع هو، في اعتقادنا، إعلاء أو ترقية لمفهوم "العمل الصالح" ذي الإيحاء الديني والدلالات الدينية، إذ يُعرَّف العمل الصالح، في ثقافتنا، بأنه "أيُّ عمل أو فعل أو قول يرضاه الله من عباده، ويقوم به العبد بقصد التقرُّب به إلى الله، وقيل: "هو العمل بما جاء به القرآن الكريم، والسنة المُطَهّرة، وجميع ما يوافق شرع الله"[1]. وغايته هي نجاح الإنسان (الفرد)، في الدنيا، ونجاته، في الآخرة. ومن شروطه، عند السلفيين والصحويين والقيمين على المؤسسات الدينية أيضاً أن يكون العمل موافقاً لما جاء به الرسول من قول أو فعل، وأن يكون صادراً عن إيمان صحيح بعقيدة صحيحية، وأن يكون خالصاً "لوجه الله".

 

يتَّضح من هذه الشروط أن "العمل الصالح" هو كل عمل تُقرُّه الملَّة أو "السُّنَّة"، (بمعنى الأرذثوذكسية)، وترضى به، وترضى عن فاعله أو فاعلته، فهو شرط اعتراف الملَّة بالفرد. ويتضح من ثم أن ترقية العمل الصالح إلى العمل النافع، التي أشرنا إليها، تعني الارتقاء من الملَّة / الملل إلى الأمة الحديثة، ولا يمكن أن يتحقق هذا الارتقاء من غير "إلغاء الملكية الخاصة سياسياً، وإلغاء الدين سياسياً"[2]. ومن ثم، يمكن القول إن الليبرالية، على الصعيد المعرفي، هي فكر الأمة الحديثة، (فكر المجتمع المدني، والدولة الوطنية)، في مقابل فكر الملَّة و"الجماعة الدينية" والدولة الدينية، حسب المتكلم/ـة.

 

مَهَّدْنا لمفهوم المنفعة بالعمل النافع، معرَّفاً بمقابله، العمل الصالح، لأن الليبرالية بوجه عام هي منظومة فكر عَمَلي، أو فكر برسم العمل، الذي من معاييره الإتقان والإنجاز وتوفير الجهد والوقت، وبهذا يختلف العمل عن الكدح. الليبرالية منظومة حرة، يحكم العقل العملي، بموجبها، على "العقل الخالص" أو العقل المحض، وينفي أي أثر للعقل المفارق أو "العقل الكلي"، وهذا مما يعين معنى الفردية الليبرالية. ومن ثم، إن للعمل النافع بطانةً أخلاقية، لا تنفكُّ عنه، ولا ينفكُّ عنها. ومَن يردُّ على هذا الافتراض الأخلاقي بالاستغلال، مثلاً، أو بالتفاوت الاجتماعي أو بغيره، يُردُّ عليه بمنطق التاريخ ومعقولية العالم. نفترض أن فكرة العمومية (المنفعة العامة)، التي  ينطوي عليها مفهوم المنفعة الليبرالي، هي الركيزة الأخلاقية، التي تقوم عليها الليبرالية، والتي تعين معنى الفردية.

 

المبدأ الحاكم في الليبرالية هو المنفعة؛ أو هو اختيار المنفعة (العامة) اختياراً حراً؛ الغاية المتوخاة من الاختيار الحرِّ للمنفعة العامة هي السعادة: "أعظم قدر ممكن من السعادة لأعظم قدر ممكن من الناس". والسعادة هي جملة من الشروط الإنسانية، التي تُمكِّن الناس من تلبية حاجاتهم، وتحقيق ذواتهم، والتصالح مع عالمهم، الذي هو من إنتاجهم. وهذا ما يمكن ترجمته فلسفياً بنفي اغتراب الإنسان عن عالمه وعن ذاته. المنفعة العامة، في نظر الليبراليين، هي المعيار الأول لجميع القيم؛ وأعظم القيم والمنافع الاجتماعية هي الحرية.

 

"الحرية ليست وسيلة للسعادة، بل هي السعادة ذاتها"[3].

 

الحرية والمنفعة والسعادة، هي ثالوث الليبرالية[4]، التي لا يفوت أوانها[5]؛ هذه العناصر تشكل مجتمعة أو فرادى، الأساسَ المعرفيَّ والأخلاقيَّ لسائر الاتجاهات الفكرية الحديثة، والنظم الاجتماعية والسياسية الحديثة، وإنْ غلب على بعضها عدم الاعتراف بهذا الأساس، أو مناهضته أيديولوجياً، على نحو ما فعلت الماركسية السوفييتية، على سبيل المثال. الليبرالية هي الأساس المعرفي والأخلاقي لسائر الاتجاهات الفكرية والنظم الاجتماعية والسياسية الحديثة، مثلما الديمقراطية، (من ديموس، الشعب)، هي مضمون جميع أنظمة الحكم، بما في ذلك الأنظمة المعادية للديمقراطية[6]، هذا، لأن الليبرالية هي النسغ الحي للحداثة وجميع منجزاتها الفكرية والعلمية والأدبية والفنية والسياسية.

 

حين نفترض أن الليبرالية هي الأساس المعرفي والأخلاقي لسائر الاتجاهات الفكريةـ والنظم الاجتماعية والسياسية، إنما نتحدث عن أساسٍ مطمور، أشبه "بالجذور، التي تقوم بوظائفها من دون أن تظهر"، حسب تعبير جون استيوارت ميل (1806 – 1873)[7]. هذا الافتراض ناتج من اعتبار الحرية أساساً أولياً، ومعياراً مُطْلَقاً لمبادئ العقل والأخلاق. والأخلاق هي أساس الدين ومرجعه، لا العكس. فقد أكدنا مراراً ارتباط العقل بالأخلاق، لأن العقل وحده لا يتجه بالضرورة إلى الخير والحقّ والجمال، ولا يتجه بالضرورة إلى المنفعة العامة، ويمكن أن يتحول إلى مجرد أداة لخدمة هذه السلطة أو تلك، وتحقيق غاياتها، ومصالحها الخاصة العمياء.

 

لعله من الواجب أن نتوقف ملياً عند مبدأ المنفعة الخاصة – العامة، أو الفردية – الجمعية، المؤسسة أولاً على كُلٍّية الفرد الإنساني، (الفرد – النوع)، وسُمُوٍّ الرابطة الإنسانية. والمؤسسة ثانياً على كُلٍّية الكائن الاجتماعي، (الفرد – المجتمع)، ثم على مفهوم المواطن/ـة. هذه الكُلٍّية العينية هي إعلاء للحالة الطبيعية والعلاقات الأولية: الفرد – الجماعة، وسمو الرابطة الاجتماعية، التي قوامها: أن تريد للآخرين والأخريات ما تريده لنفسك. هذه الكلية العينية: الفرد – المجتمع، لا تكون إعلاء للعلاقات الأولية إلا حين تكون تعييناً اجتماعياً لكلية الكائن الإنساني: الفرد – النوع. ومن ثم، إن مبدأ المنفعة مفهوماً على هذا النحو هو مما يضع مبدأ المساواة في الحقوق والالتزامات من جهة، ومبدأ تكافؤ الفرض وتساوي الشروط من جهة أخرى، ويؤسس لعلاقات أفقية، تنبثق منها قواعد السلطة الديمقراطية.  

 

هذه كلها وجوه مترابطة للمشاركة في عملية إنتاج العالم، أي عملية تملُّك العالم بالمعرفة – العمل والفاعلية الحية المتجددة. فإن المشاركة في عملية إنتاج العالم مرهونة بما نسميه تخارج الذات، أي خروج الذات من حبس الأنانية المعتم إلى أنوار الفضاء الاجتماعي – الإنساني، من دون التنكر للأنا التي خرجت الذات من حبسها، وإلا لا يكون تخارج. معنى التخارج هنا أن يضع الفرد خصائصه الإنسانية (الفردية – النوعية) أو أن يموضعها في علاقاته بالأخريات والآخرين، لكي يتولد من هذا التموضع مبدأ إرادة الخير العام، بصفته مبدأ إرادة الخير الخاص، أو مبدأ المنفعة العامة بصفتها المنفعة الخاصة والشخصية.

 

الآن، كيف تصير إرادة الخير العام هي نفسها إرادة الخير الخاص، وبالعكس، أو كيف تصير المنفعة الفردية هي ذاتها المنفعة العامة أو العكس. لنلاحظ صيغة: أردْ للآخرين والأخريات ما تريده (أنت) لنفسك؛ وعامل الأخريات والآخرين كما تحب (أنت) أن يعاملوك، وانظر إليهنَّ (أنت) أو إليهم كما تحب أن ينظروا إليك ...، هذه أوامر أخلاقية قطعية، بلغة كانْـتْ. فإن نفسك أو ذاتك، التي تريد لها، هي غير أناك أو نفسك أو ذاتك، التي تريد؛ إن الأولى، أي نفسك، التي تريد لها، هي كائن اجتماعي جديد، غير ذاتك الأنانية، ذاتك الطبيعية، وهي، أي نفسك التي تريد لهاـ كائن سياسي بالضرورة (مواطن/ـة)، لا مجرد كائن طبيعي مَسُوْقٌ بسائق غرائزه، وحاجاته الطبيعية.

 

أنت تدرك أن منفعتك الشخصية، الفردية، لا تتحقق إلا مع الأخريات والآخرين، وبموافقتهم/ـن الصريحة أو الضمنية (عدم الاعتراض)، ومعاونتهم/ـن، أي إن منفعتك مشروطة بمنافع الأخريات والآخرين وموافقتهم/ـن أو قبولهم/ـن أو اعترافهم/ـن. ومن ثم، يمكن تعريف المنفعة العامة بأنها جملة المنافع الفردية المتشارطة لزوماً، والمقبولة أو المعترَف بها من قبل الجميع، لا مجموع المنافع الفردية، لأن المجتمع ليس مجموع أفراده. ومن تحصيل الحاصل أن المنافع المتشارطة هي منافع مُتبادَلة.  

 

هنا، يكون التبادل هو التحقُّق العَمَلي للتشارط النظري. وتكون المنفعة الفردية هي الصورة الفردية للمنفعة العامة، والمنفعة العامة هي الصورة العامة للمنفعة الفردية. هذا يعني بلغة الفلسفة أن المنفعة الفردية والمنفعة العامة متضايفتان؛ كل ما يصيب إحداهما يصيب الأخرى، بالضرورة، بصورة مباشرة أو غير مباشرة. التبادل هو الصيغة العَمَلية لمبدأ المنفعة النظري، أو الفلسفي، الصيغة العملية لتشارط المنافع الفردية، الذي يجعل منها منفعة عامة. هذه الصيغة العملية لا تُستنفَد في تبادل الخيرات المادية، في السوق، بل تتعداها إلى تبادل الخيرات الاجتماعية (= الموارد الثقافية والقيم الأخلاقية، ولا سيما المساواة والحرية والعدالة)؛ وبفضل التبادل فقط، وينطوي على التواصل الخلاق، وبوساطته تظهر القيم الاجتماعية والإنسانية، بصفتها مبادئ حاكمة للسلوك، ومحدِّدة لمحتوى العلاقات الاجتماعية، علاوة على شكلها.

 

التبادل هو الكيمياء الاجتماعية، التي تحول المنفعة الفردية إلى منفعة عامة أو العكس، والتي تبلور القيم الاجتماعية والإنسانية، وتُحوِّلها إلى سلوك اجتماعي أو ممارسة اجتماعية – سياسية وثقافية وأخلاقية. فعملية / عمليات التبادل هي التي تُظهر ما هو عام ومشترك بين المنافع الفردية، وبين الأفكار والتصورات والقيم أيضاً؛ وذلكم هو معنى العمومية، التي هي قوام المجتمع المدني والدولة الوطنية، والشرط الضروري اللازم للديمقراطية.

 

 

[1] - عن سلمان البدواوي، "ما هو العمل الصالح".

 

[2] - إلغاء الملكية الخاصة والدين سياسياً هو جوهر عملية الانتقال من الملة إلى الأمة، وشرطها اللازم، ومعناه أنه لا يجوز أن تنتج  من الملكية الخاصة أو من الانتماء الديني أي نتيجة سياسية، لأن الملكية الخاصة والدين وما يتصل بهما ليست من افتراضات الدولة الوطنية، بل ليست افتراضات سياسية أساساً، إنما هي افتراضات اجتماعية – اقتصادية وثقافية. راجع/ي، ماركس وباور، حول المسألة اليهودية، ترجمة الياس مرقص، دار الطليعة، بيروت ...

[3]  - ما يؤخذ على الليبرالية، اليوم، أنها لم تنجز وحدة الماهية والوجود، إلا في المدونات القانونية، أو البنى الخطابية، لذلك لا تزال النزعات العنصرية والتعصبات الدينية تلابس الحياة الاجتماعية والسياسية، وتُنسب إلى الحداثة ظلماً، مع أنها رسابات من ماضي الحداثة ومما قبل الليبرالية.

[4] - هذا الثالوث لا يمكن اللعب عليه، كما لعب القوميون من العرب على ثالوث الوحدة والحرية والاشتراكية تعجيلاً وتأجيلاً، في الخطاب، لا في الواقع.

[5] - لقد انتهت حركات التحرر من الاستعمار، في العالم العربي، نهايات فاجعة وكارثية لأنها نأت عن هذا الثالوث الليبرالي.

[6] - الدولة هي الشكل السياسي لوجود الأفراد، الشكل السياسي لوجود المجتمع، والتحديد الذاتي للشعب؛ فالدول القائمة إما متوافقة مع مضمونها أو مناقضه له.

[7]  - ميل، أسس الحداثة السياسية، ص 71.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard