info@suwar-magazine.org

"حَبَّةُ الزيوانِ لا تأخذُ مكانَ الثَّمَرَةِ البَرَّة".. هكذا أُحيلَ أبو عدنان إلى التَّقاعُد

"حَبَّةُ الزيوانِ لا تأخذُ مكانَ الثَّمَرَةِ البَرَّة".. هكذا أُحيلَ أبو عدنان إلى التَّقاعُد
Whatsapp
Facebook Share

 

كنتُ أراه دوماً جالساً أمام باب المقرِّ؛ رجلٌ سبعينيّ، أسمرُ البشرة، ممتلئُ الجسم، قصيرُ القامة، هيئته الملتزمة كانت تثير فيَّ الفضول دوماً، كي أسأله عن سبب جلوسه منذ سنوات عند ذلك الباب.

 

بعد ذلك عرفتُ من جَدِّي أنهما عَمِلا طويلاً "كرفاق" في الحزب الشيوعي السوري الذي كان نشطاً في فترة الستينيّات في منطقة الجزيرة السورية، وكان يحمل عقيدةً تناصرُ "الفقراء"، كحال الكثير من الأحزاب التي ظهرت بانتماءات مختلفة تباعاً.

 

 ذات مرة، وأنا أمرُّ بذلك الشارع، وكل ظنِّي أن رؤيته ستكون من البديهيات، إلا أنِّي لم أجده في مكانه وجلْسَتِه المعتادة.

 

"أبو عدنان أُحيلَ إلى التقاعد، لأن صحته لم تعد تساعده". هكذا جاءني الرد من مسؤول مَقَرّ الحزب في مدينة القامشلي، عندما تملّكَتْني الجرأة لأدخل كي أسأل عنه.

 

قصة أبو عدنان هي واحدة من قصص كثيرة من هذه المنطقة، وأناسها البسطاء الذين ما إن يؤمنوا بفكرٍ، أو انتماءٍ سياسي حتى يُخلصوا له أيُّما إخلاص، وجزء من سيرة أحزاب كثيرة، تُعرَف بشخص رئيسها، وما إن تهرم وتشيخ حتى تنقلب مبادئها إلى شعارات لا يدفع ثمنها إلا الفقراء الذين ضحَّوا لأجل صعود الحزب، وانتشاره.

 

كنت قد أخذت منهم رقم هاتف أبو عدنان وعنوان منزله، ولم يمرّ وقت طويل حتى كنت ضيفة على عائلته التي تسكن حيَّ الهلاليَّة (أحد ضواحي القامشلي) في بيتٍ صغير مؤلفٍ من غرفتين ومطبخ، رُكِنتْ أمامها أريكة قديمة رثّة.

 

اقرأ المزيد:

 

شوارع هلاليّة القامشلي ما عادت تترنّح على خُطى هوزان

 

بالنسبة لي لم يكن من شيء غريب في مشهد بيته المتواضع ذاك، فصاحبه كان قد أفنى عمره في خدمة الحزب، تَبنَّى الدفاع عن الفقراء والكادحين كقضية رئيسة، لكن الحزب "استغنى عن خدمات أبو عدنان ما إن تقدَّمتْ به السن، وأحاله إلى التقاعد بدون راتب"، وفق ما تؤكد عائلته. 

 

غرفته بدت شبه مظلمة بعفشٍ بسيطٍ للغاية، وأنا أدخلها برفقة زوجته. وجدتُه مستلقياً على سريره، فبادرته بالسلام محاولة التعريف بنفسي، لكنه فاجأني بذاكرة مُتَّقدة حين قال: "ألستِ أنت من أتيتِ إلى المقر قبل أكثر من عامين، تطلبين مقابلة المسؤول"  فأجبته بابتسامة: " نعم أنا هي".

 

وبدون مقدمات بدأنا نتبادل أطراف الحديث، وكأنه بدا مكملاً للحديث الذي دار بيننا قبل سنتين.

 

بداياته في العمل المُنظَّم

 

كان العم أبوعدنان قد انتسبَ إلى صفوف الحزب الشيوعي السوري في بدايات العام 1964 حين كان في السادسة عشرة من عمره.

يقول أبوعدنان " كنا فقراء جداً، لذا لم أدخل المدرسة أبداً. وكان منزلي في منطقة (القلاج) غرب الهلالية، قبل أن أنتقل وأسكن هذا البيت. عملتُ حمَّالاً، من ثم سائقاً لاثنتين وعشرين سنة على سيارة عثمان برو، أحد رفاقنا آنذاك".

 

كبُرَ أبو عدنان مع الحزب، شاهداً على محطاتٍ مختلفة من تاريخه في منطقة الجزيرة السورية، متذكراً أسماء عديدة كان لهم الفضل في النهوض بالحزب، حاز على ثقة الكثيرين من أبناء المنطقة، بدءاً من الهلالية وحتى نهر دجلة، حيث كانوا يعقدون الاجتماعات على امتداد تلك المنطقة.

 

كان يقول عن رفيق دربه "سليم خوارزي (يعني بالكردية ابن الأخت) كان مناضلاً، مدافعاً عن الفقراء، عملنا معناً لسنوات طويلة، حين كان مسؤولاً عن فرعية قريته بركو والقرى القريبة منها، كان يملك جراراً يفلح به أراضي الفلاحين، دون مقابل".

 

عائلتُه شركاؤه في الانتماء

 

التزام أبو عدنان باعتقاده السياسي، وما مثَّله بالنسبة له من قيم الدفاع عن الفقراء، جَرَّ عائلته أيضا للانخراط في مسيرته الحزبية، لذا تتذكر أم عدنان كيف كان هو ورفاقه يجلبون "الرفاق العراقيين الهاربين من حكم صدام". ليبقى العديد منهم في ضيافتهم لثلاث سنوات.

 

تقول أم عدنان عن تلك الفترة: "كان بيتنا صغيراً مكوَّناَ من غرفتين، عندما جاء أبو عدنان ومعه ضيوف، أَدخَلَهم الغرفة، وقال لي: هؤلاء الرفاق هم الأنصار سيبقون هنا. وقتها فهمت بأن إقامتهم ستطول".

 

عروضٌ مغرية

 

كذلك يتذكر ابنه البكر "عدنان" موقفاً حدث أمام عينيه، حينما كان الحزب يَمنحُ الطلاب الناجحين في البكلوريا منحاً دراسية في فترة الثمانينيات، لكي يتابعوا دراستهم في الخارج، وكيف أن رجُلين مقتدرين عرضا على أبيه مبلغ 100 ألف ليرة حينها، مقابل الحصول على منحتين كل واحدة منهما بخمسين ألف، لكي يدرس أحدهما الصيدلة والآخر الطب، وكيف أن ردَّ أبيه جاء واضحاً من غير تَردد، بأن المنح جاءت للفقراء، وهي ليست للبيع. وكيف أن والده كان قد رشح قبل ذلك أسماء عشرة طلاب من حي الهلالية وحدها، لكي يحصلوا على هذه المنح الدراسية دون مقابل.

 

شكٌّ بعد طولِ يقين

 

طلبت أم عدنان سيجارة من ابنها، أشعلتْها ونفخت فيها مطوَّلاً، ساد الصمت الغرفة  قليلاً. بعدها عادت لتستكملَ الحديث بنبرة من أصابها الشك بعد أن خذل المسؤولون عائلتها.

 

"يا ابنتي هذا الفقر الذي ترينه الآن، سببه أن أبو عدنان كان يعشق انتماءه السياسي، ولم يكن يملك الوقت لكي يفكر بمستقبل أبنائه، كما أنه لم يتقاعد لأنه بات مريضاً كما قال لك المسؤول ذاك، بل استغنوا عن خدماته هكذا بكل بساطة، ولا يمكنني أن أنسى ذلك اليوم الذي أغمي عليه فيه، بسبب القرار المجحف الذي اتخذه أحد المسؤولين بحق نضاله الطويل".

 

في دراسة نشرها مرصد مينا عام 2018 تحت عنوان الأحزاب السياسية في سورية 1970 – 2011 يذهب الباحث حسن نيفي إلى تحديد عدّة سمات لأحزاب المعارضة السورية التقليدية سواء الإسلامية أم الشيوعية أم القومية،  توضح أنها جميعاً "كانت تسعى إلى إيجاد مسوّغ أيديولوجي لوجودها، ما يعني أن العقيدة الحزبية هي مصدر شرعية الحزب، وليست الوظيفة الاجتماعية التي يقتضيها الواقع الاجتماعي لحياة الناس".

 

وفي حين تذهب الدراسة  إلى أن أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية الموالية أدّت وظيفة دعائية للنظام بوجود تعددية، ولم يكن لها دور سياسي، كما لم تكن تملك الحق بإصدار مطبوعة من دون موافقة أمنية، فإن الأحزاب التي ظهرت بعد العام 2011 كانت تملك مسوّغات ظهورها، ولكنها تفتقر إلى أسباب بقائها أو استمرارها.

 

نفخت أم عدنان آخر نفس من سيجارتها، وهي لا تزال مصدومة لما انتهت إليه حالهم بعد سنين طوال من التضحية في سبيل مبادئهم. أطفأتها بحسرة في المنفضة أمامها، وختمت تقول : "مهما حدث يا ابنتي، حَبَّةُ الزيوان لا تأخذُ مكانَ القمح المبروك".

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard