قراءة في التَّقارُب التركي-الأمريكي
القمة التي جمعت بوتين وأردوغان، والتي ظهر فيها الرجلان، وهما يتبادلان الضحكات وإلقاء النكت السياسية، ناهيك عن أكل البوظة الروسية، هذه الدبلوماسية التي أطلق عليها الموقع الأمريكي الشهير المونيتور، والمتخصّص بتحليل السياسات حول الشرق الأوسط بـ "دبلوماسية الآيس كريم" كانت عبارة عن مؤشرات ورسائل أراد الرجلان إيصالها إلى حلفائهما وأعدائهما على حد سواء، فالرجلان معروفان بقدرتهما على المراوغة، ويتمتعان بنفوذ وسلطة شبه مُطْلَقة في بلادهما، ما شاهدناه وهي من الأشياء متكررة الحدوث في جميع القمم بهذا المستوى، فقبلها بأيام وصلتنا مشاهد وصور كثيرة من قمة ماكرون وجونسون أيضاً، ولكن المثير في هذا اللقاء، وما تمَّ تداوله، بعد عودة أردوغان، حول الاتصال الذي جرى بينه، وبين الرئيس ترامب حتى قبل أن تطأ قدماه تركيا. هذا يدفعنا لإعادة النظر إلى المشهد من زاوية أخرى.
وبالنظر إلى نتائج مخرجات القمة بين الرئيسين، والظروف التي أحاطت بها، قبل انعقادها وبعدها، والرسائل التي أرادا إيصالها، خاصة ما يتعلق منها بالوضع السوري سواء في مناطق الشمال السوري، أو منطقة شرقي الفرات التي في مجملها تضعنا أمام احتمالين.
الاحتمال الأول: أنَّ الاتفاق على المنطقة الآمنة هو أشمل مما يُتَداوَل على المستوى الإعلامي، ومن المحتمل أن يكون لأردوغان دور أكبر في الملف السوري جنباً إلى جنب مع بوتين، حيث أنهما يقودان الجهود الدولية لإنهاء الصراع السوري من خلال إيجاد نوع من أنواع الدمج بين الرؤيتين الروسية الأمريكية، وفي هذا استغلال لتحسّن العلاقة التركية الروسية، لمصلحة أمريكا والتي تتمثَّل في استمرار نفوذ أمريكي طويل الأجل في منطقة شرقي الفرات، مع مراعاة المصالح التركية، ونفوذها في أجزاء من الشمال السوري، فيما يتمتع الروس بالسيطرة والنفوذ في بقية المناطق. هذا التوزيع والقسمة في النفوذ والمصالح هو حجر الأساس في تحقيق استراتيجيات هذه الدول الثلاث.
من الواضح أن الملفّ السوري بكل استطالاته الإقليمية وتأثيراته السلبيَّة على المنطقة بات يشكِّل مصدر إزعاج للمجتمع الدولي ويجب أن ينتهي، ومن هنا تأتي أهمية اللقاء بين الرئيسين الروسي والتركي - بعد التفاهم الأمريكي التركي- كأصحاب دور في ترتيب القضايا الأمنية للمنطقة والمنظومة الدولية، ولكن هذه المرة بتحييد واضح للدور الإيراني، وبالتالي ترتيب لأوراق جديدة لإدارة شمالي وجنوبي سوريا، ما سينعكس على النازحين والعودة الآمنة للاجئين السوريين، وعلى الدور المهم لمساحة عمل المعارضة.
الاحتمال الثاني: أن الرجلين متفقان على قضايا محدودة من ضمنها الاستمرار في تسميم وتعكير صفو العلاقات الدولية، من خلال توجيه رسائل مشتركة إلى أمريكا وحلف الناتو، فحواها " إن الاتفاقيات الجزئية، والعقبات لن تثنينا عن الاستمرار في تطوير العلاقات الاستراتيجية، وخاصة على مستوى الاقتصاد والتسليح". وفي النهاية للرجلين مصلحة مشتركة بالسكوت وإغماض عينيهما عن تصرفات بعضهما البعض في الشمال السوري والشمال الشرقي.
وطالما أن الحديث عن الاحتمالات، وما يدور في كواليس القوى الإقليمية والدولية المرتبطة بمصالحها فيما يتعلق بالوضع السوري، كان من الضروري عليهما ( بوتين وأردوغان) تقييم مصالحهما الاستراتيجية في ضوء التحوُّلات والتموضعات الجديدة، خاصة على ضوء التفاهم التركي الأمريكي على الآلية الأمنية في شرقي الفرات، فتركيا تسعى إلى تعظيم مكتسباتها أكثر مع القوى المناظِرة للحلف الغربي، وبهذا تضمن درجة من توازن العلاقات نتيجة تعقُّد موقفها بسبب موقعها الجغرافي، وتحالفاتها الجيوسياسية ومصالحها الاقتصادية.
كل ما طُرِحَ آنفاً احتمالات وتحليلات غير ثابتة لعلاقات معقَّدة، ومتغيِّرة تجمع العديد من القوى ذات المصالح المتناقضة في سوريا، ولكن ما يبدو جليَّاً وجود ثلاثة مؤشِّرات قوية لمآلات الوضع في سوريا:
الأول: متعلق بمنطقة شرقي الفرات، ويشير إلى أن تلك المنطقة أصبحت إقليماً يتمتَّع باستقلالية ومكانة خاصة على غرار شكل الحكم في إقليم كردستان العراق، على الأقل في السياسة الخارجية لأمريكا وحلفائها الغربيين، فهي تشكِّل المثلث الذي تستطيع من خلاله أمريكا خلق التوازن الذي تريد في هذا الجزء من الشرق الأوسط، والذي سيمنح واشنطن المزيد من الفعالية في تجميع نقاط قُوَّتها وتموضعها من خلال شمالي سوريا والعراق والتنف والأردن، وبالتالي هذا التموضع يسمح لها بتحقيق هدف آخر، وهو ضبط سلوك إيران. ناهيك عن الحماية التي سوف تتوفر لإسرائيل.
كما يُرَجَّح أن تبقى المنطقة الممتدة بين مدينة سري كانيه "رأس العين" ومدينة منبج منطقة مناوشات مستمرة للأتراك على غرار جبال قنديل في إقليم كردستان العراق، ورغم ذلك لن يشكّل ذلك تهديداً حقيقيَّاً وكبيراً للاتفاق الأمني المبرم بين المؤسستين العسكريتين في كل من تركيا وأمريكا، لأن هذا الاتفاق يمثل الدولتين، ولا يمثل فقط الرئيسين.
يبقى التحدي الأكبر أمام هذا الإقليم كيفية بناء نظام تشاركي بين العرب والكرد والآشوريين في البعد القومي من ناحية، وبين المسلمين والمسيحيين في البعد الديني من ناحية أخرى، بالإضافة إلى بقيَّة الإثنيات والطوائف.
هذا النموذج التشاركي يُحقِّق فرصة لمنطقة شمالي سوريا، لتكون نموذج سوريا المستقبل، الذي مايزال مجلس سوريا الديمقراطية ( مسد) غير قادر على إنجازه بسبب ميل طبيعة حزب الاتِّحاد الديمقراطي المهيمن ونزوعه إلى الشمولية.
الثاني: هو بقاء المدنيين في الشمال السوري كأسرى حرب ورهائن، يتم استخدام العنف المفرط ضدهم بين الفينة والأخرى، من أجل إعادة ترتيب الملفات المرتبطة بالوضع السوري، لحين الوصول إلى مرحلة النُّضْج الكامل، إلى جانب احتفاظ روسيا بمناطق نفوذها التي حصلت عليها مؤخراً، ويبقى مصير إدلب معلَّقاً كمصير بقية المناطق الآمنة في اتفاقيات خفض التصعيد.
الثالث: متعلِّق بالعملية السياسية، فالمؤشرات تدلُّ على أنه لا يمكن إتمام أيَّة عملية سياسية شاملة، من دون شمال شرقي سوريا، لأسباب اقتصادية وسياسية، كما لا يمكن أن تكتمل العملية السياسية، من دون إيجاد صيغة لجبهة النصرة، وبقية التنظيمات المرتبطة بالقاعدة في شمالي سوريا، للانتقال إلى المرحلة الأولى كما هو مخطط له، والتي تبدأ بتشكيل اللجنة الدستورية نتيجة لمؤتمر سوتشي، وبعدها يتم ربط شرقي الفرات بالعملية السياسية، من أجل خلق توازن بين القطبين الرئيسيين: الولايات المتحدة وروسيا و حلفاءهما.
الإشارات واضحة تجاه هذه التموضعات الجديدة للقوى الدوليَّة والإقليمية، ونيِّتها على تحريك العملية السياسة القائمة على إعداد دستور من أجل إجراء انتخابات حرَّة، ونزيهة يتمخَّض عنها تشكيل حكومة انتقالية تقع على عاتقها إدارة وتنسيق مهام المجلس العسكري المشترك، وفتح التحقيقات لمحاسبة المجرمين، ومرتكبي الانتهاكات لضمان عدم الإفلات من العقاب إلى جانب تنسيق ملفات الاستقرار، وإعادة الإعمار.